طعامٌ مجفف لأمناء الشرطة
أحلامي هذه الأيام قوية في منطقها ولغتها والأهم إحساسي بها. أقوم من النوم لأعيش حياتي المعتادة بوعيي، محملة بمشاعر صاحبتني في لا وعيي؟ مشاعر -وإن كنت في أغلب الأحيان لا أذكر المواقف التي خلقتها في حلمي- موجودة بصورة جلية بل ومرهقة. مع مثل هذه الأحلام، أعيش في حياتين، واعية ولا واعية، المشكلة أن مع قوة إحساسي بكل منهما صرت في بعض الأحيان اتساءل أي من هذين العالمين هو الواعي واللاواعي؟ أحاول بصدق أن أتيقن إن كانت هناك إيمان ترتدي بالطو مخملي غامق اللون، يعلوه فوريرا يطوق رقبتها، وتقف في صيدلية لتشتري شيئا ما، بجوار سيدة شقراء بدينة، في حين تلاحظ الصيدلانية الواقفة على الكاونتر أن السيدة البدينة تحاول خلسة سرقة البلاك بيري الخاص بإيمان والذي وضعته الأخيرة على الكاونتر وانشغلت بإخراج المال من حقيبتها الأنيقة المرصعة بالماسات، تنبه الصيدلانية إيمان لذلك، فتنتزع إيمان البلاك بيري من يد السيدة البدينة، بينما تتمتم الأخيرة بكلمات اعتذار في خوف وارتباك، خرجت إيمان من الصيدلية بعد أن أتمت الشراء واسترجعت هاتفها لا تلوي على شيء. لكنها بعد عمق تفكير قررت أن تقدم على فتح محضر للسيدة البدينة في قسم الشرطة بالجوار، حتى لا تتمادى تلك السيدة وتقدم على سرقات جديدة، فقد تذكرت أنه في وقت ما، أقدم أحدهم ممن يقودون الموتسيكلات على نشل شنطة يد من سيدة عجوز كانت تسير في شارعهم ليلا، وقد أمسك المارة به، وأعادوا للعجوز شنطتها، والتي أخذت بدورها الشنطة في ذعر وهمت بالرحيل، تذكرت إيمان التي كانت تراقب الموقف برمته من شباك بيتها كيف استاءت بشدة من رد فعل العجوز التي أحجمت عن الاتصال بالشرطة لتترك السارق حرا يعاود فعلته مع أخريات غيرها، فقررت ألا تكون على مثل هذه السلبية. في القسم كانت في حضرة ضابط على قدر من الوسامة، وفيه بعض الشبه من الممثل عمرو واكد،كانت شديدة الارتباك واجلة، وأكثر ما يقلقها هو اكتشاف الضابط للكاتر الضخم في شنطتها الصغيرة. ماذا لو عرف بأمره واتهمها بحيازة سلاح بدون ترخيص. كانت تجلس أمام مكتبه، متجنبة النظر لعينيه مباشرة، تسرد عليه بتلجلج ما حدث في الصيدلية. كان ينظر لها بتركيز دون حتى أن يرجف له رمشاً بينما كانت تتحدث، كانت تحاول تخمين ماوراء نظراته المخترقة تلك: هل يا ترى استشعر قلقها فاستفز ذلك حدسه، أم أن نظراته تلك تنطوي على قدر من الإعجاب المتبجح الذي لا يخجل من أن يواريه. أي كان! لن تستطع التيقن من شيء، لكنها بالرغم من ذلك كانت تبرز بحركة لا واعية منها الدبلة في يدها الشمال من حين لآخر. بعد أن أنهت سرد قصتها، سألها عن اسم الشارع الذي حدثت فيه الواقعة، أخبرته أنها ليست من سكان المنطقة، ولا تعرف اسما لأي من الشوارع هنا. طلب منها أن تصطحبه للشارع بنفسها، زادها ذلك توترا ورعباً، وقفت استعدادا للذهاب معه وقد اعتزمت في بالها أن تزوغ منه حين يخرجان معاً للشارع، وتنسى الأمر برمته. أستأذنها أن تنتظر لثواني حتى يحضر أمين شرطته معه. استهجنت التعبير قليلاً، وبدا ذلك جلياً على قسمات وجهها. نده الضابط على الأمين قائلاً:"يا عبد المولى"، بصوت عال واثق، اعقبه بصوت من شفتيه كالذي يستخدم عادة للنداء على الكلاب أو لفت نظرهم، جاء "عبد المولى" على أربع! أمين شرطة عادي، في كامل زيه الرسمي، لكنه يمشي على ركبيتيه ويديه معاً، وعوضاً على أن ينبح كالكلاب كان يطلق سيلاً من الشتائم القبيحة، ويرغي بلعاب يبلل شاربه الكث. فور دخوله المكتب، أخذ ينعتها بالشرموطة ويشم في حذاءيها وشنطة يدها، نهاه الضابط عن ذلك، واعتذر لها، ثم وضع طوق ينتهي بسلسلة على عنق الأمين، الذي توقف عن شتمها، لكنه لا يزال يشم بإصرار شنطة يدها، تذكرت الكاتر في شنطتها، وعوضاً عن أن ترتعب غرقت في الضحك بصوت عال.تفصيلة كهذه هدمت المنطق بالكامل في هذا العالم، هي تعرف الآن أنها تحلم، ولا شيء بعد الآن يستدعي قلقها.
وبالرغم من كل هذا لا زلت غير متيقنة إن كانت إيمان المذكورة أعلاه هي في حلم تحلمه إيمان أخرى نزلت من بيتها بعد صلاة الجمعة، لتشتري بعض الأغراض لبيتها، أم العكس. إيمان الأخرى تعمل في شركةتصدير ملابس، واليوم هو يوم عطلتها الأسبوعية. أفطرت إفطارا خفيفياً يحوي بسكويتا وشايا بلبن، وأشرفت ببعض التوجيهات على السيدة التي تنظف بيتها، استأذنتها للذهاب لشراء بعض الأغراض، على أن تنهي ما طلبته منها حتى تعود. ارتدت جينزا وبلوفرا عليه جاكيت، وهاف بوت في قدميها، يبدوا هذا أكثر منطقية وواقعية من البالطو قاتم اللون والفورير. تضفر شعرها، وترتدي نظارةشمس، وتفضل أن تخرج بمحفظة في يدها عوضاً عن شنط الخروج. من ميدان تريومف تشتري كيلو من الطماطم، وكيلوين من البصل، وحزمة شبت وأخرى بقدونس. تتجه بعدها إلى محل بالجوار يدعى "العائلة" للأدوات المكتبية. تبحث فيه عن أقلام للخط العربي،وألوان فلوماستر ذات سن رفيع يناسب خلقها للتفاصيل التي لا تنضب في رسمها. تسأل البائع أيضاً عن كاتر، فيعطيها واحداَ ضخماً للغاية، تسأله عن آخر أصغر، فيجيب أن ذلك هو الحجم الوحيد المتوافر هنا. تأخذه مضطرة وتخفيه في محفظة يدها. قد لا يسعفها حجمه ذلك في قص الكارتون الذي ترسم عليه، لكنها ستحاول-على أي حال- استخدامه بصورةمؤقتة. إيمان هنا تحب الرسم في أوقات فراغها، وتستخدمه كوسيلة لتزيين جدران بيتها، ترسم على الحصى والكارتون أشكال عدة، ثم تعيد تجميعها مكونة بها لوحة واحدة، ذات تفاصيل بارزة على أحد جدران بيتها. عادت إلى البيت -تخفي سعادة طفولية تقفز من عينيها-بما اشترت، تمنّي نفسها بيوم سترسم في وتبدع بلا كلل مستخدمة أقلامها الجديدة. في البيت أبدلت ملابسها سريعاً وأثنت على ما قامت به السيدة أثناء غيابها، ليس ذلك لأنها استحسنت ما قامت به السيدة بالفعل، ولكنه كان لابتهاج مزاجها. أعدت مسرعة الطاولة التي ستعمل عليها، أحضرت جميع الأدوات التي ستحتاجها وكوبا من الشاي الأخضر بالبرتقال لتدلل به نفسها. تذكرت أنها لم تسق الزرع في فيراندة بيتها الواسعة ولم تطعم "كوكي" أيضاَ وجبة غذائه، أخضرت زجاجة مياه فارغة من تحت حوض المطبخ، وملأتها بالمياه لري زرعها، أحضرت أيضاً طبقا بلاستيكيا، ثم من خزانة في المطبخ أخرجت كيسا بلاستيكيا مكتوب عليه "طعام مجفف لأمناء الشرطة البالغين"، ملأت الطبق البلاستيكي من الكيس، ومضت لتسقي الزرع وتطعم "كوكي"الذي تربيه في فيراندة بيتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية، صدر لها "الحجرات وقصص أخرى" عن الكتب خان، ومرشحة في القائمة القصيرة لجائزة ساويرس 2015