” الخروج إلى النهار ” لنجلاء علام ورحلة الأنثى للانعتاق من القهر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 71
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم حمزة

القارىء العابر لهذه الرواية سيجد صعوبة فى تتبع أحداث الرواية ، خاصة مع امتداد فصولها إلى أربعة وثلاثين فصلا ، ومع تحول الأزمنة فى الرواية يتأكد للقارىء أننا أمام عمل يمتلك وجهة نظر ، وعمقا فعليا ، بعيدا عما يمكن أن يمارسه البعض من " براعة رخيصة " – بتعبير يحيى حقى – ليتهم الرواية بالتفكك والغموض ، لكننا أمام قطعة جوهر مصفاة نقية مكتوبة  بوعى ولغة تجعل القارىء يجاهد لفتح مغاليقها ، لأنها تستحق العناء.

ـ الانعتاق من الأسر :   

” الخروج إلى النهار ” عنوان فصل من فصول ” كتاب الموتى ” وإن كان قد ترجم إلى ” الظهور فى النهار” تطمح ” نجلاء علام فى روايتها الثانية لتقديم  حكاية الكون ، ومسيرة البشر ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، بداية من ” كرة مثقلة بالغازات ، وبأقدار من سيأتون عليها ، ضغط شديد ، تفاعلات لا تنتهى ….” ثم فى الفصل الثانى فى كلمتين اثنتين : ” وجاء الإنسان ” . ها هى إذن بداية لحظة تعاسة البشر، منذ حمل ” قابيل خطيئة فعلته حين قتل أخاه ، ليفوز بأنثى مقهورة مرهونة متعتها بالألم دوما ، وكأنه ” كتب على ذريته التعاسة ” من هذه البداية للكون يأتى الفصل الرابع عابرا كافة الأزمان ، إلى المستقبل   حين يتحول الإنسان إلى آلة بلا مشاعر ولا حلم ولا رغبة ،ولا غناء ، بلا لغة تعبر عن الروح ،  حين يتحكم فيه قوة غامضة مجهولة تجرده من كل قوة وضعف ورغبة وأمل ،يتحول الفرد إلى رقم بلا اسم ، بلا نوع لا ذكر هو ولا أنثى ، يتحول العقل إلى شريحة ألكترونية ، يتم شحنها ، ليتحول الأمر كله إلى “آلية ” بلا نهاية ، فى هذه الحالة يسقط شخصان فى حفرة هائلة ضيقة ، يسعى المسئولون لإنقاذهما ، وتفشل الجهود ، فيكتفون بالحفاظ على حياتهما ، فيرسلون لهما كروت الشحن التى توضع فى عقولهم ، ويرسلون لهم الطعام والماء ، وعبر توالى الفصول ، نعرف أننا أمام أنثى وذكر سقطا فى الحفرة ، وندرك محاولاتهما للتخلص من الكروت الموجودة فى شريحة توضع بالمخ ، لكنهما يتخلصان منها بعد جهاد وعنف ” شددت فروة رأسى مرات ومرات ، حتى لانت ، وارتخى الجلد ، نشبت أظافرى حولها أشدها ، … ، وفتحت رتقا فى الجلد ، ونزعتها ، ويدى يتساقط منها الدم ” صـ53

ومن هنا تنبثق حياة جديدة هى الثالثة بعد : آدم وحواء ، ثم قابيل وهابيل ، ثم هذا المد البشرى الطبيعى ، عبر هذين الذين سقطا فى الحفرة ، فصار الرجل ” جموع الذكر عبر التاريخ ” وصارت الأنثى ” جموع الأنثى عبر التاريخ ” ولهذا تنبثق بينهما الرغبة الجسدية ، بعدما كان ينظر إليها أنها ” تعبير صريح عن حيوانية الإنسان ، وعدم اكتمال إرادته ” صـ15

تحولات الرواية هنا تستعصى على تتبع الحدث ، حيث سنجد قصة ” إيزيس وأوزوريس ” تخترق السرد بتأمل جديد ،   مثلما اخترق السرد مرة أخرى بالفصل رقم 13 والذى يحتوى خمسة مقاطع لصور الموت والتفنن فيه ، ثم نجد الرواية تصف رحلة الكاتبة / الساردة لتونس ، ومشاهداتها بها ، ثم تدمج الصفحات الأخيرة كافة أزمنة الرواية لتصل للميلاد الحقيقى برمزيته من خلال ميدان التحرير ، وإن انتهت الرواية وهى تحمل خوفا غامضا من شىء ما ، بقولها ” لففنا آدم وحواء بقماش أبيض يكسوه العلم ، صعدنا تحت إلحاح الجموع إلى أعلى منصة فى الميدان  ، قالوا إنهما التجسيد الحى للانتصار ، ويجب أن تراهما الأرض كلها ، وعندما وصلنا رفعناهما وسط هدير البشر ، وانطلقت الاحتفالات ، ولكن كان هناك غرابا أسطوريا يحلق فى السماء ” صـ 104.

ـ حول البساطة والتعقيد :

يبدو التعقيد فى هذه الرواية أمرا لازما ، بل يصبح سبيلا لمنحها قيمتها الحقيقية ، حيث يضمن للعمل بقاء لا يرتبط بحدث مهما كانت قيمة هذا الحدث ، وكل تعقيد لا يحمل فنا لا يعول عليه ، ولا ترتفع قيمته ، ولذا فنحن أمام بناء روائى متراكب ، يتطور عبر أربعة وثلاثين فصلا ، تتحول الكاتبة من زمن إلى زمن ومن ضمير سارد إلى غيره ، لكن القارىء البصير سيرى الرواية تبدأ وتنتهى فى الميدان – ميدان التحرير – وكل ما عدا ذلك تجليات للمشهد ، وقد اعتمدت نجلاء علام على الترادف اللفظى وسيلة لتوصيل الرسالة ، ففى نهايات الرواية نقرأ : “هنا فى ميدان التحرير ، أشعر أننى أغوص فى أعماق الأرض ، حتى أصل إلى حفرة تضمنى ، وأرانى أحتضنه ، هذا الرجل ظل يطاردنى فى الميدان يوزع الماء والتمر ” صـ82

إنه نفس المشهد الموازى للتنويعة الأولى فى الرواية ، حين يسقط اثنان فى حفرة ثم يلقى لهما الماء والتمر ، إنه تنويع على نفس اللحن الأصلى ، غير أن ثقافة الكاتبة منحت الرواية “رؤية ” أعمق وأبعد غورا ، وهى – كما سبقت الإشارة – محاولة للهروب من مباشرة العمل السياسى الذى يكون – والتعبير للروائى ستندال – مثل الطلقة فى حفل صاخب ” .

القارىء يحتاج بالطبع لـ ” حكاية ” يستمتع بها ، والأعمال الروائية والقصصية الخالدة يمكن النظر لها من هذه الزاوية ، زاوية الحكى ذاتها ، وهو ما يقوله فورستر مثلا ، لكن الحكاية جانب بنائى بجوار اللغة والفكرة والرمز والدلالة ، ولذا فالرواية التى بين أيدينا تخاطب الروح ، وتحتشد بثقافة كونية هائلة لدى الكاتبة ، ويمكن القول باطمئنان أنها رواية أرستقراطية للخاصة .

ـ الأسطورة / الحلم فى الرواية :

تحظى فكرة توظيف الأسطورة بمكانة كبيرة فى أدبنا ونقدنا الحديث ، خاصة مع قدرة الكاتب على دمج الواقعى بالأسطورى ، وإسقاط الحد المتوهم بينهما ، وهو ما فعلته ” نجلاء علام ” بثقة وبراعة ، جسدتها فى الثالوث (الواقعى / الأسطورى / الخيالى ) والخيالى أعنى به الخيال العلمى الذى وظفته بشكل مغاير كما سنرى ، لذا تخرج الكاتبة من لحظة الواقع إلى الحلم لتأكيد معنى تال ، تتأكد بشكل جارح وقاس ، كفكرة التضحية من أجل المبدأ ، فى الفصل الخامس عشر نجد حلما ينتهى بـ ” أحرقتهم النار ، ولم يبق منهم سوى شجاعتهم وشرفهم ، أما نحن من وجدنا كهفا ، واختبأنا فيه عشنا ، ولكن عيش المذلة والجبن ، وكان علينا أن نكفر عن خطيئة حياتنا بإهمالها هذا الإهمال البشع ، الذى جعلنا فى النهاية لا نعيش الحياة ” صـ 52

ثم ياتى الفصل التالى  كنموذج تطبيقى  للرؤية السابقة  ” الحياة لا توهب ، انشبى أظافرك وخذيها ” صـ53

وقد لجأت الكاتبة لاتخاذ الحلم وسيلة لعرض الأسطورة ، فى سابقة ذكية ، حيث نجد الأنثى فى الرواية حين عرفت الحب ، وهى ساقطة مع حبيبها فى الحفرة ” تأخذها سنة من النوم ، فترى إيزيس تجرى فى الطرقات ، وتلملم أشلاء أوزوريس ، ………” صـ63

وهكذا فكل شىء يتخذ رمزيته من منطق الرواية ذاتها ، هذه الحفرة التى اتسعت ، حتى صارت وطنا ، هذه النبتة التى زرعتها الأنثى حتى طالت لتكون سبيلا للخروج من ضيق الوهدة ، هذه الطيور التى دعتهما للطيران من غصن إلى غصن حتى بلغا موضع النور ، ليلتحم الأسطورى بالواقعى حين يصل الاثنان إلى ميدان التحرير .

ـ البنية الماكرة :

عنوان الرواية كما سبقت الإشارة مأخوذ من الفصل الثانى من كتاب الموتى ، وهو كتاب بدأت فكرته تظهر مع الدولة الحديثة ، بأن يوضع كتاب به بعض النصائح والحكم فى ورق بردى ، ويوضع فى صندوق مزخرف بتمثال صغير لأوزيريس ، وهناك مئات المخطوطات تتضمن تلميحات عن جميع نصوص الديانة والرقى ، وعنوان هذه النصوص “صيغ للخروج نهارا ” وقد ظهر هذا الكتاب الذى يضم 190 فقرة منظمة عام 1842م بعناية لبسيوس . (معجم الحضارة المصرية القديمة “صـ281 وما بعدها .

اللافت للنظر أن محتويات كتاب الموتى يوازى بشكل ما مضمون الرواية ، حيث يبرز أوزوريس القادر على قهر أعدائه ، وتضم تعاويذ لوقاية الميت من أكل البراز وشرب البول ، ولتمنع الميت أن يسير مطأطىء الرأس ، وأن تكون له القدرة على أن يعود ليرى بيته على الأرض ، وينفذ إلى السماء ، وألا يموت مرة ثانية …

هذا التوازى الذكى بين الرواية وكتاب الموتى ، يعطى للرواية بعدا  وجوديا ، حيث ترتبط الأزمنة ، وحيث تتيح الكاتبة لروايتها لغة كلغة النبوءات ولغة الأساطير كما سنرى ، ثم إنها ارتبطت بفكرة من الخيال العلمى ، يقوم أساسها على المستقبل الذى ينزع من الإنسان كافة أموره العاطفية القلبية الشهوانية ، ويتركه فريسة لقوة غامضة مرعبة تتحكم فيه  ، وهى فكرة لها أساس علمى قائم ، حيث تتكىء الكاتبة على مشاريع حقيقية لإنسان المستقبل الذى يعمل بعض العلماء لتكوينه ، كعالم المستقبليات الفرنسى جويل روسنى فى كتابه ”    Lhomme symbiotiqe  أو الرجل السامبيوتى ” حيث يسعون ليكون إنسان المستقبل توليفا معقدا من الذكاء الرقمى والذكاء البيولوجى ، عبر ما يسمونه بالأنسال ، هذا التوليف العبقرى الذى سيدفع إلى حدوث نوع من التطور المذهل ، ليصبح الإنسان آليا ذا مشاعر تتفاعل مع غيره من البشر ، بمعنى آخر يصبح للروبوت مشاعر تتفاعل مع البشر ، وهى تضاد لفكرة الكاتبة ” **

ولهذه البنية المعقدة تبشر الكاتبة بنوع من الإبداع العقلى الواثق من طرح فكرته عبر عمق مبهر للحدث والفكرة واللغة . مع ملاحظة بعض التشويش فى منطقية الحدث ، فمثلا : نجد الإدارة تصر على إرسال الكروت لهذين الساقطين فى الحفرة ، ثم نعرف بعدها أن الكروت هذه داخل الرأس وأنها لا تتبدل ، كذلك بعض الخلل فى التذكير والتأنيث بين الأنثى والذكر فى الحفرة ، حيث نعرف أن اللغة لا تفرق بين المذكر والمؤنث ، ثم نجد الفتاة تسأل : لماذا يصر على تذكيرى … وربما يعود هذا التشويش لسيطرة أجواء الحلم على الرواية فى هذه الجزئية .

ـ الانحياز للانثى : لغة وسردا :

من الطبيعى أن تنحاز الأنثى للأنثى ، لكنه انحياز ناتج لقدرة الأنثى على البوح بمشاعر الأنثى ذاتها ، وتبدو ” نجلاء علام ” واضحة الانحياز للأنثى منذ مجموعتها ” أفيال صغيرة لم تمت بعد ” حيث يشير الدكتور محمد عبد المطلب إلى إهداء الكاتبة  مجموعتها إلى “الأم قبل الأب ” ثم اقتصار الإهداءات الداخلية على النساء ، وفى متن المجموعة ذاتها نجد ميل مفرداتها إلى التأنيث ” وكأن الحياة قد تلونت بلون الأنوثة ، وربما سحبت الراوية كفها من الكف الأخرى ، فربما كانت يدا ذكورية ” صـ 100من “بلاغة السرد النسوى ” د. محمد عبد المطلب .

وهو ما سيلاحظه قارىء رواية ” نصف عين ” – صادرة عام 2000م عن هيئة الكتاب – رغم أن المؤلفة تهدى الرواية إلى ( أبى وأمى .. إلى زوجى هشام : كل شىء أهديه إليك ضئيل حتى القلب ) فالمتن يندفع بقوة نحو الأنثى : لغة ورؤية وانحيازا ، وربما يصبح الرجل حلما فى الرواية  ” بعدها ظللت أهتز عليه – الكرسى الهزاز – لكن أبدا ، لم يشق الجدار رشدى أباظة ، ولا حتى أحمد رمزى ..

ولا مصطفى قمر ؟ صـ 9

و” نصف عين ” تنحى منحى اجتماعيا واضحا فى رصد الفقر وتداعياته وقهره ، من سفر وعنوسة وأحلام مشوهة ورضا بالواقع مهما كانت درجة انحداره .. أما فى رواية ” الخروج إلى النهار ” فالتجربة – بلا شك – تختلف كثيرا ، حيث انحيازها لتيار الرواية الجديدة ، من خلال التنوع الثرى فى السارد ، وفى الرؤى وفى التداخل بين الأزمنة … إلخ .

ورغم هذا الاختلاف ، فقد حازت الرواية على حس أنثوى صارخ فمن خلال أربعة وثلاثين فصلا ، تطل المرأة عبر أكثر من ثمانية عشر فصلا ، مقدمة نضالها الناعم الذكى المؤثر :

سأصنع من هابيل رجلا له  أقدام يزرعها فى الأرض ” صـ18

كونى أنسا وبهجة ، كونى الرواء للظمآن ، كونى العشق للمريد ، كونى القلب للجسد ” صـ55

فلتكونى إذن حواء .. – لا بل إيزيس ، أو أفروديت ، أو بلقيس . صـ 70

وهكذا يظهر طابع المرأة قويا مؤثرا مدهشا ، حتى اختيارات الرواية للنماذج يتوقف عند المرأة القوية الفاعلة ، ثم تأتى رحلة الكاتبة ذاتها إلى تونس ، لتأكد واقعية الرواية ، وأن هذا التداخل الزمنى ، هو انعكاس لرحلة المرأة عبر التاريخ ، سعى المرأة لاجتثاث الإنكار الهائل لها ، تصف الكاتبة رحلتها رغم ما يراود القارىء أن هذا الفصل خارج السياق الروائى ، رغم أنه يفسر تلاحم بنية الرواية بشكل ممتاز ، فتأكيد ذات الكاتبة يربط الخيالى بالواقعى ، وأنها رمز للأنثى ، أو قل نموذج لها ، تنحاز للأنثى  [ سجيعة التونسية ] القادرة على إدارة دفة حياتها كما تريد ) صـ88

فى موقف آخر نقرأ على لسان الأنثى  ( ها أنت ترين ، إننى أدفع حياتى ثمنا لكرامتى ) صـ82

وقبلها نقرأ عن المرأة النماء / العطاء :

” منذ بلغت العاشرة وليت أمر الشجرة : أنظفها وأرويها وأغسلها بالماء ، أقص فروعها النافرة ” صـ 60

ها أنت ترين أننى أدفع حياتى ثمنا لكرامتى .

خذى منى الإصرار والشموخ .

بهذه اللغة الراقية المعتقة من خمر النصوص الدينية القديمة ، اللغة التلغرافية الخالية من الثرثرة ، الحافظة  لمجاز الفصحى ، الباعثة على النشوى ، تقدم ” نجلاء علام ” واحدة من أهم روايات الثورة .  

___________________________

* نجلاء علام – الخروج إلى النهار – الأدهم للنشر والتوزيع – القاهرة 2013م .  

** انظر المقال القيم للدكتور أمير زكى بمجلة العربى العلمى يونيه 2013م

     صـ18 ، بعنوان أخلاقيات العلم بين الإنسان والأنسال ” .

………….

نشرت هذه الدراسة بمجلة الرواية – ملف خاص– العدد 15 – يونيه 2015

 عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم