قراءة نقدية في مجموعة (أفيال صغيرة لم تمت بعد )

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

منار فتح الباب

(فتحت الصنبور _وكالعادة _انتظرت أن تندفع القطرات الصغيرة ثم ينزل خيط الماء الرفيع ...ضربت الصنبور بباطن يدي وكنا اذا ضربناه ينهمر الماء )

بهذه العبارات تفتتح نجلاء علام مجموعتها القصصية الأولى (أفيال صغيرة لم تمت بعد ) باكورة انتاج سلسلة كتابات جديدة بالهيئة العامة للكتاب ، والمجموعة مكونة من جزئين : اهتزازات غائرة واهتزازات صغيرة .

فى الجزء الأول نلمح تلك النزعة القوية للبحث عن الحرية والنقاء وتطهير العالم من الزيف ورموز القصص في هذا واضحة فالألفاظ القطار _وهو ذو ارتباط بتسمية القصص اهتزازات _والنار والدخان والسفر والرحيل والسماء والحمام الطائر والعصافير البريئة والفراشات والأفيال في الغابة البعيدة والنوافذ والباب الذي يُغلق ، تتكرر فى القصص الخمسة عشر الأولى ، ونستطيع أن نلمح تكرار الفاظ الظل والخيال والظلال بما يشير إلى الشعور بانكسارات الواقع واحباطاته حيث تنمحى الشخصية الحقيقية الواضحة وراء أغلفة وأقنعة مزيفة فلا يبقى  ربما سوى ظل وحيد أو شبح إنسان لا يخلو من الابهام .

 أبطال القصص مجهولون يحاولون النجاة في محاولة سيزييفية لتكوين ملامح محددة لواقعهم لا يطمسها الزمن ، هكذا وجدوا الواقع ، قاسياً مأسوياُ دون مبرر أو سبب وليس عليهم سوى أن يتحملوه إذا لم يستطيعوا تغيره أو تحريكه ، إنسان ما يحاول الصعود نحو الحلم فيحبط ، فتاة تريد الفرار من قسوة الواقع وضروراته ، ولمس اشعة الشمس والتعرف بغيرها فتقهرها السلطة العليا ممثلة فى الأب ، امرأة _هى أصل النار فى الأساطير  القديمة _تجد سلواها الوحيدة في صنع الشاى ووضع  البراد على النار بعد أن تركها زوجها أو ابنها بلا سبب .

 عنوان المجموعة شديد الإيحاء ، أفيال تقاوم_ رغم ضخامتها _الموت والشعور بالانسحاق ، ورغم حركتها البطيئة فإنها تدافع عن ذاتها ووجودها ، المجموعة مليئة بالرموز و الدلالات ، الوحدة ، طيور برغم خفتها تختنق ، الغبار سد فتحات النوافذ لتعتيم الرؤية ، سلالم المنازل _ وهى رمز الصعود والأمل ، القلل مصدر الماء /النقاء والتطهر _شبه محطمة ، والصور القديمة منثنية عند المنتصف لا تمنح  المشاعر الإنسانية المتدفقة الذي يثيرها الماضى ،  فهو تائه منقسم ضائع لاحدود له ولا معالم كل شيء باهت والذات متقوقعة دون تواصل مع الآخر ، لا حماية لها ولا ملاذ والمشاعر تغوص في صحراء  جديدة من القهر والعطش والخوف والانزواء والهرب ، يهتز الواقع دون أن يتكسر ( ولنذكر هنا أيضا تسمية القصص اهتزازات )

لاشيء يتجدد ، الزمن يمضي ويشيخ العمر .. ثلاث شعرات بيضاء في رأس امرأة تزداد وتتقدم فالعمر يمضي والأحداث ثابتة تنثنى وتنقصف ، لاشيء يكتمل …الحلم يجهض والحرية محاصرة والقطار يدهم الأفق  بلا توقف وبلا نهاية .

 للموت عالمه السحرى الخاص فى قصص نجلاء ، فهو ينهي عمراً باكمله فى لحظة واحدة لا غير ، وهو عمر يشبه الشجرة ، تتنبأ به شخصية تُدعى ( نور ) مما يمنح دلالة البعث لموت قد يسبب فزعا لكنه حقيقة ، فإظلام العينين من أجل الموت قد يكون  دلالة لرفض مانراه من قبح ليس يتعلق بالموت وحده وإنما بحياة تشبههه ، لا يتحقق فيها الإنسان ( أجمع الأوراق المتساقطة وأحفظها في كتبي ، كل ورقة تمثل عمراً يتهادى ويتهاوى حتى يسقط  ، وأُلقي لها وصيتى كل يوم قبل الرحيل ، أرقب المدى البعيد واحس مناوشة فراشة أو أرجل طائر حين يحط ) احساس الكتابة هنا احساس مرهف بالزمن  وبالرحيل إلى عالم مجهول اسمه الموت ، قد لا تقوى على التصريح  باللفظ لكنك تحسه ، ونراه يطل من بين ثنايا القصص ليمنحها طاقات دلالية لا محدودة ، والشيء الجدير بالملاحظة في ذلك هو محاولة استنطاق الموتى للحياة من جديد فى قصة ( ظلال ) إذ يبدو الموت الوجه أو الظل الآخر للحياة ، الراوية تعتذر للموتى لأن الأحياء ينسونهم ، في الحين الذي يبدو فيه الأحياء أنفسهم موتى لأنهم يعيشون بلا هدف حياة خالية من الجوهر ، والموتى احياء يبعثون ..الغناء يبعثهم أحياناً من مرقدهم حيث يمر طيفهم كالطيور الراحلة _ كما يحدث في الأساطير الاشورية القديمة _ أو كطيور الفينيق الأسطورية التي تُبعث من الرماد والموت والتشبث بالذكرى يبقى أملا ينشده الإنسان ويتخذه وسيلة من أجل البقاء .

( أغنى أغانى أمي عن الطيور الراحلة ، تتلاقى وتبتعد وتقترب على زجاج الصور الكثيره المعلقة ببراويزها القاتمة )

الشمس منبع آخر للبقاء والتشبث بالحياة حتى أخر قطرة ضوء ، من عمق قوى الظلام والشعور بالاختناق وضيق العيش تتسلل عيون البشر نحو ضوء الشمس ، فاذا لم يوجد فانهم يشعلون الكبريت واللمبات ويفتحون الشبابيك كى يحققوا كينونتهم ويستمدوا الشعور بالمقاومة ، لم يعد ثمه مكان للبطولة الفردية _ ننظر هنا قصة الحاوى _فالفرد الواحد منسحق تماما وأصحاب السيوف الخشبية لم تعد سيرتهم عن التضحية والبسالة والنقاء والشرف تثير اهتمام أحد في دنيا المادة واللهاث وراء السفر من أجل الارتزاق فقط ، لا من أجل استشراف أفق ومبادئ مثلى للحياة .

فى قصة (الطريق ) تعدو الكرة من أجل الخروج من الحصار لكنها لاتستطيع ، فالكل محاصر حتى الكرة / اللعب . القاهرة مزدحمة لا وقت فيها للتأمل ، الحلم فى الأفق وفي السماء التي لا تكاد تظهر أعلى الأسطح المكتظة بالمساكن والمقتنيات وأدوات التسلية لا مكان لحمام يرفرف ، فهل اختفى ، او اختنق فلقى حتفه ؟

(لابد أن السماء رحبة جدا وبها أماكن كثيرة يختفى فيها الحمام )

نجلاء علام تعلو بقصصها من فوق النوافذ .. تجرد المحسوس وتجسد المجرد ، وتشب نحو الظلال ، ترصدها وتراقبها من أجل أن تشهد السماء المفتوحة وميلاد الشمس ، توهج اشعتها أو تواريها مؤقتا ، الطيور وهى تحط وتطير فى حركة جدلية من التوقف والبعث … تتنفس الطبيعة حين تقترب منا أو تبتعد غاضبة .

عالم نجلاء القصصي عالم كبير وعميق يعج بالتفاصيل الدقيقة وجدلية الحياة التي يصعب التعبير عنها إلا من خلال بناء قصصي محكم الاغلاق شديد التركيز والرهافة فى آن واحد يحكمه الوعي الاجتماعي وتيار اللاوعي المتدفق معا ، يمضى مناسباً _ عبر العناوين الموحية _ ممسكاً بلحظات عادية في الواقع الحي تبدو للناس بسيطة ، مكونا منها عالما موازيا دون قطع أو ترهل أو افتعال أو تهويمات هى سمة بعض الكتابات الجديدة المنعزلة عن واقع الناس .  

فالنص يكتب نفسه بشفافيه ، يعبر عن الموت دون دماء أو غلظة ، يصنع أسطورته الخاصة داخل الواقع ويستنطق الكائنات بمنطق  المشابهه الخفى ذى السحر الفنى  حيث الكاتبة تتوارى لتترك الحدث والحاله النفسية لتيار الشعور لمصيرها إذ تلمع أو تنطفئ حيث الصمت كالروح الخفيه للموسيقى واصداء الكون .

لاشك أننا ننتظر الكثير من هذا العالم الذي يضج بالغناء والألوان وتشكيلية الصور المبتكرة عندما نتذكر أن هذه المجموعة ( أفيال صغيرة لم تمت بعد ) هى المجموعة الأولى لنجلاء علام التي تندفع بقوة نحو العالم الأكبر للقصة فى مصر ، وتقضى على وهم ما يسمى بالكتابة النسائية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جريدة الأهرام ، ملحق الجمعة ، بتاريخ : 17 / 4 / 1998 م .

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم