سرديات صغري وقصص الحياة .. قراءة فى رواية ) نصف عين ( للكاتبه نجلاء علام

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رمضان بسطاويسي محمد

حين نقرأ هذه الرواية يستشعر القارئ أنه أمام نص حي ينقل الإحساس بأن كل تجربة إنسانية تمتلئ بالأسرار المكنونة التي يستطيع الإبداع الإشاره إليها من خلال هذا الحديث الوجدانى عن توحد الذات واغترابها عن العالم المحيط بها ، فالنص ينقل مشاعر حزينة عن )نور ( الفتاة التى تتحدث عن الموت الذي يلازمها فيمن تنتمى إليهم مثل أبوها ، وأمها ،والتوأم التى وُلدت معها ، ومشاعر الإحباط فى محاولات التحقق في الحياة ، والصعوبة البالغة فى توفير شروط الحياة ، وصعوبة الاحتفاظ بالقدرة على الحلم وسط العالم .

الزمان النفسي  

تقوم تجربة الكتابة القصصية عند نجلاء علام فى معظم نصوصها على تقنية خاصة فى القص ، حيث يبدأ النص لديها من لحظة زمنية تمثل الأفق الذى تنتهى عنده الحدث السردى الذي تقدمه ، ثم تتنقل بين اللحظات الزمانية السابقة على هذا الحدث من أجل إضاءته ، وهى لا تلتزم بترتيب معين للزمان وإنما تنقل مشاهد مختلفة زمنيا فى بقية النص ، وهذا يمثل تقنية خاصة بها تقوم على ترتيب وحدات الزمان ، ففى النصوص التقليدية ننتقل من الماضى للحاضر ، ونستشرف آفاق المستقبل بينما فى نصوص نجلاء تنتقل من الحاضر للماضى وهذا يجعل الرواية ترتبط بما يُسمى بالزمان النفسي الذي لايعترف الترتيب المنطقى لﻷحداث ، وإنما تختار الأحداث الزمنية التي تتوافق مع الحالة العامة الذى يريد أن ينقلها النص ، وهذا واضح فى هذه الرواية ، وفى قصة قصيرة لها بعنوان ) أم الرجال ( تبدأ فيها من نهاية الحدث القصصى ، ثم تنقل لنا مايفسر التجربة التى تريد نقلها للقارئ .

الغموض و ليس الإبهام

 وتتميز نصوصها إلى جانب هذا أيضا بنوع من الغموض وليس الإبهام ، بمعنى أن الغموض يتأتى من عمق التجربة التي تريد نقلها للقاري ، ومن أكثر من منظور ، ومن خلال أزمنة وأصوات متعددة ، ولذلك نجحت فى تقديم نص متعدد المستويات والدلالة ، وينشأ هذا التعدد أساساً من تعدد الأزمنة ، التي لابد للقاري لكى يتواصل مع النص فى أن يعيد ترتيب المشاهد البصرية والأحداث وفق مفهوم خاص للزمان ، ولذلك فإن الكاتبة لا تقدم نصاً تقليدياً  ، وإنما تقدم نصاً نفسياً ، ولعل هذا واضح فى عنوان الرواية التي تقدمها : )  نصف عين ( ، وتقصد بها أن شخصيه التوأم ترى بنصف عين ، وتكتمل الرؤية من خلال النصف الآخر الذى يُكمل التوأم ، وعين القارئ الذي تكتمل الرؤية من خلال فاعليته فى فهم النص وإعادة بناء وحداته ، فالكاتبه تعول على القارئ وجهده فى فهم النص والتفاعل معه ، ونجد هذا بوضوح فى التنقل بين ضمائر الرواة الذين يحكون الحدث من زاوية مختلفة ، ولذلك فالرواية تقدم حياة التوأم بحيث ندرك عبرها أنه لايمكن فصل حياة كل منهما عن الآخرى ، والأم وهى القاسم المشترك بينهما تحتل مساحة فى الرواية هى المساحة النفسية التي تحتلها فى وجدان كل منهما ، ولهذا تفرد لها الكاتبة هذه المساحة من الرواية ، وتقدمها بعدة صور ، فتارة تقدمها فى صورة الأم التي يموت زوجها ( المراكبى ) وتتزوج آخر ، وتارة آخرى فى صورة إنسانة بسيطة ( فايزة ) مثلهم تعيش تجربة الزواج مرتين ، وتموت ويصبح العثور على النقود التى تركها الأب مستحيلا فتراود كل منهما الشكوك فى الآخرى فى أنها تعلم مكان النقود، وتسرد فى الرواية أيضا حكاية الزواج لكل منهما ، ولذلك فإن هذا النص يهتم بتقديم دراسة أولية لوجدان التوأم وإحساسها بالحياة، وتنقل لنا هذا المستوى المرتبط بالتوحد الذى ينقل الشعور بالأسى والحزن وهذه سمة أيضا يميز معظم نصوصها أيضا .

تعدد الأصوات

 تقوم تجربة هذه الرواية على تقديم الحياة فى صورة سرديات صغرى ، أو حكايات صغيرة تكون العالم الروائى ، وتتعدد الأصوات التى تقدم لنا هذا العالم القصصى ، من خلال مشاهد وصور بصرية سريعة ، ولذا فإن الجدة والطرافة فى هذه الرواية فى هذه التقنية التى تقدم بها الكاتبة عالمها الأدبى ، فالرواية تتناول مواجهة توأمين من البنات مع العالم ، إحدى التوأمين مفتون بصورة الحياة فتكتب هذه الصور التي جاءت بديعة وصادقة ، ومثل قطع الفسيفساء الصغيرة التي تتجاور مع بعضها البعض لتقدم لوحة للحياة التى عاشتها كل من التوأمين ، والكاتبة شغوفة بتقطيع الأزمنة ، وتحويل الحياة إلى صور ، مثلما تتداول صور الأغانى فتحول بين الناس والحياة الحقيقية ، واستطاعت الكاتبة تجسيد ذلك من خلال لغة شديدة الخصوصية .

مصادر الحلم

 ومن السمات الهامة لهذا النص قدرة الكتابة على وصف مصادر الحلم لدى الإنسان فى عالم اليوم ، فمشاهد السينما تتداخل مع صورة الحياة اليومية وتشكل أحلام المرء ، وإحساسه بالعالم المعيش ، والحياة هنا لاتُرى من خلال منظومة متماسكة أو رؤية كلية تجسد الوعى بالأزمنة التي تتنقل بينها ، ولكنها تُرى عبر واقعها اللحظى ، ولذلك يبدو عالمها نثريا ويعبر عن التناثر الوجدانى ، رغم الترابط العضوى بين الشخصيات الراوية ،والأحداث الماضية التى تحكيها لنا لاتستمد قيمتها من قدرتها على الحدث بالفعل ، بل بقدرتها على الإمتداد فى الحاضر والتأثير فيه ، فاﻷب لم يمت ، وكذلك الأم كل منهما يمتد تأثيره فى الشخصية من خلال صور وأشكال عديدة فى الرواية . 

ونلاحظ أن الكاتبة تقرأ المعاملات وتحكى من أكثر من منظور ، وترصد تجربة عاشها أكثر من طرف ، وتلتقط مشاهد شديدة الدقة والرهافة ، وتصور الألم الإنسانى فى أصفى صورة ،  وهو يحاول الحياة وسط شروط صعبة ، وكل هذا يعكس قدرتها ككاتبة أصيلة قادرة على أن تقدم لنا الكثير فى هذه الرواية وفى أعمالها القادمة .

………….

 مجلة االثقافة الجديدة : العدد 159 ، أغسطس 2003 . 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم