هذا أفضل ما يمكنني قوله عن الموسيقى

روبير فالزير
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

روبير فالزير

تقديم وترجمة: عثمان بن شقرون

ما هي الموسيقى؟  وما علاقتها بالأدب والرسم وباقي الفنون؟ وهل كان الأديب السويسري روبير فالزير موسيقيا فعلا؟ وكيف تجلت الموسيقى في أعماله النثرية والشعرية؟ وكيف نظر إليها وكيف أحس بها، وما هو مفهوم الموسيقى الذي تشكل لديه من خلال رؤيته للحياة وتجلى في كتاباته. ذاك ما سنتلمسه في ترجمتنا لأحد النصوص التي أفردها للكلام عن الموسيقى. لكن دعنا في البداية نوضح بأن الموسيقى تختلف اختلافًا جوهريًا عن الأدب من حيث افتقارها إلى الدلالات المعجمية. هذا هو السبب في أنه من غير الممكن أن ننتظر من فالزير أن يقول بالضبط ما هو معناها، وهذا هو السبب في أنه يُنظر إليها بعدة طرق مختلفة: فما يبدو فيها سعيدًا بالنسبة للبعض هو بالفعل حزين للغاية بالنسبة للآخرين؛ ذلك أنه عبر تاريخ الموسيقى، حاول الإنسان مرارًا وتكرارًا إنشاء أطر مفاهيمية، مثل نظرية التأثيرات، حيث تمثل علامات معينة كالحزن أو البهجة، لكن هذه الأشياء مفهومة فقط لأولئك الذين تعلموا هذا النظام. وتختلف طريقة الغموض في الأدب والموسيقى في جانب واحد مهم: في الأدب يأتي من مركز واضح، وهو نظام متكامل غني بالدلالات.، فيما تفتقر الموسيقى إلى هذا المركز الواضح للغة اللفظية. وبالتالي لا يمكننا القول إن الموسيقى ليس لها معنى، لكن معناها ليس له تعريف، مهما كان واسعا.

تتعامل نصوص روبير فالزير مع الموسيقى من زوايا مختلفة بشكل مؤكد ومكثف وتمكنت من الارتباط بالتقاليد الحسية. فكتاباته مليئة بالإشارات إلى الملحنين والمغنين والأوبرا والآلات الموسيقية. بل أن الموسيقى تتجلى كمبدأ بنيوي مهم في عمله. فصدى الإيقاع والنقر واللحن والانسجام والتنافر والتناغم في نصوص فالزير تعطي لغته طابعها الموسيقيِّ. وأن الديناميكيات الخاصة للغته تكمن في إيقاعها ولحنها. ومن ثم يرى هيرمان هيس في قدرة فالزير على العزف مع اللغة مثيل عبقرية عازف البيانو أو الملحن الموهوب. وقد وصفه بأنه “موسيقي خالص”. بمعنى أنه يعتمد على موسيقى اللغة وعلى مبادئ التصميم ذات التوجه الموسيقي للنصوص، وعلى التدفق اللحني للجمل وعلى الإيقاع، من خلال تقارب كبير مع العديد من عوالم الصوت المختلفة.

وعلى الرغم من أن فالزير قد لقي من محيطه تشجيعا علىى العزف على البيانو عندما كان طفلاً، إلا أنه لم يجنح فيما بعد إلى مقاربة نظرية سليمة للموسيقى ولم يستمع بأذني خبير. ومع ذلك، تلعب الموسيقى دورًا مهمًا في عمله: في الإدراك الواعي أو اللاواعي من قبل الشخصيات ورواة نصوصه والتحفيز الذي يسمح لهم بمراقبة العالم بطريقتهم الخاصة. تؤكد ذلك جل نصوصه النثرية والشعرية بشكل مثير للإعجاب، فهي تتعامل مع الموسيقى بالمعنى الضيق والأوسع. وتغطي فترة زمنية من 1899 إلى 1933، أي من أول عمل له إلى دخوله عالم الصمت.

وقد اخترت أن أقدم ترجمة لأطول وأهم نص كتبه فالزير شكلت فيه الموسيقى الموضوع الرئيسي. [“الموسيقى”  1904] وهو مقتطف من أول كتاب أصدره روبير فالزير [مقالات فرينز كوشير].  ويتكون من نصوص نثرية قصيرة يقترحها المؤلف، في لعبة من المرايا، على أنه عمل لمراهق توفي قبل الأوان، وأن فالزير نفسه كما يشرح في تقديم غامض، قد كرس نفسه لنشر هذه المقالات. وتم عرض العمل على أنه مجموعة من الملاحظات أو من الواجبات الكتابية المدرسية، بريئة في ظاهرها، والتي تغطي عددًا لا يحصى من الموضوعات، (الإنسان والطبيعة والتهذيب والمدرسة والعمل والوطن والموسيقى)، من منظور التلميذ، يجعله فالزير كشخص وسيط يحاول تمويه صوت المؤلف والاختفاء وراءه.

 

المــوسـيــقى

الموسيقى بالنسبة إليَّ هي أعذب ما يوجد في العالم. أُحِبُّ الأصوات الجميلة أكثر مما يمكن أن يُتصور. ومن أجل سماع صوت واحد فقط، أنا على استعداد لأعدو ألف خطوة، الواحدة تلو الأخرى. في كثير من الأحيان في فصل الصيف، عندما يكون الجو حارًا في الشوارع وأسمع صوت البيانو قادمًا من منزل مجهول، أتوقف وأرهف السمع وأقول في نفسي إنني سأموت على الفور. أود أن أموت وأنا أستمع إلى الموسيقى. يبدو هذا أمرا سهلاً للغاية، وطبيعيا جدًا، ومن ناحية أخرى، يبدو بالطبع مستحيلا. ستكون الأصوات بمثابة طعنات ناعمة جدًا. إنها بالتأكيد تُحْدِثُ جروحا تكوي، لكنها لا تُلهب. إنها تجعلني أنزف، ولكن بدلاً من أن أنزف دما، أنزف قطرة بقطرة أفكارا مؤلمة. بمجرد أن تتوقف الأصوات، يصبح كل شيء في داخلي هادئًا مرة أخرى. ثم أشرع في إنجاز واجباتي المدرسية وفي الأكل واللعب ثم أنسى. أكثرُ الأصوات التي تمارسُ سحرَها عليَّ هو صوت البيانو. حتى لو كان العازف أحد السفاحين. أنا لا أستمع إلى العزف، إنما فقط إلى الصوت. لا يمكنني أن أصير موسيقيًا أبدًا. لن أجد هذا مُسكرًا أو حلوًا بما يكفي لعزف الموسيقى. أجد أن الاستماع إليها أكثر قداسة. الموسيقى دائما ما تجعلني حزينا، لكن مثلها مثل الابتسامة يمكن أن تكون حزينة. أقول: حزينة بلطف. حتى الموسيقى الأكثر بهجة لا تجعلني أحس بها مُبهجة، والموسيقى الأكثر قتامة ليست بالنسبة لي وبشكل خاص قاتمة ولا مُعتمة. أمام الموسيقى، لا أشعر أبدا إلا بإحساس واحد فقط: أحس بالافتقار إلى شيء ما. لن أفهم أبدا سبب هذا الحزن العذب، ولن أحاول فهمه أيضا. ولا أريد أن أعرفه. ولا أريد أن أعرف كل شيء. بشكل عام، وعلى الرغم من أنني أعتقد أنني ذكي، إلا أنه  ليس لدي ميل كبير إلى المعرفة. والسبب، على ما أعتقد، هو أنني عكس الشخص الفضولي تمامًا. تركت الكثير من الأشياء التي تهمني تحدث، دون القلق حول كيفية حدوثها. إنه خطأ بالتأكيد، وهذا نادرا ما يساعدني على النجاح في الحياة. إنه أمر ممكن. أنا لست خائفا من الموت، والحالة هذه، لا أخاف الحياة كذلك. ها أنا ذا الآن في صلب الفلسفة. إن الموسيقى هي الفن حيث توجد أقل الأفكار، وهذا هو السبب في أنها أعذب الفنون، إن الناس الذين يحبون فقط أن يفهموها لن يكونوا قادرين على تقديرها، ولكن بالنسبة لهم تحديدًا، حيث في اللحظات التي يستمعون إليها، ستفعل في أعماق أنفسهم فعلها الجميل. لا يجب على المرء أن يرغب في كبح جماح فن من الفنون أو تقدير سعره. يرغب الفن في أن يحتك بنا كما يحلو له. إنه كائن خالص إلى حد بعيد ومستقل لدرجة أننا نذله عندما نعتني به أكثر من اللازم، وهو دائمًا على استعداد لمعاقبة من يقترب منه للاستحواذ عليه، هذا ما يحدث للفنانين، أولئك الذين يمتهنون محاولة فهمه، بينما هو لا يريد أن ينقاد لهم بأي شكل من الأشكال. ولهذا السبب لا أريد أن أصبح موسيقيًا أبدًا. سينتابني خوف كبير من أن يعاقبني مثل هذا الكائن الكريم. يمكننا أن نحب فنا من الفنون، لكن يجب أن نكون حريصين على عدم البوح بذلك. لأننا عندما لا نعرف ما الذي نحبه، فإننا نحبه بشدة وعمق. الموسيقى توجعني. لا أدري إن كنت أحبها حقًّا. إنها تجدني هناك بالضبط حيث تريد أن تجدني. أنا لا أبحث عنها، إنما أنقاد لمداعباتها. لكنها مداعبات تؤلم. كيف عساني أقول؟ الموسيقى مثل شجن طروب، وذكرى نُسجت من الأصوات، إنها لوحة للأذن. ها أنا ذا أعبر بشكل سيء. كل هذه الكلمات عن الفن التي استخدمتها أعلاه لا يجب بالتأكيد أن تؤخذ على محمل الجد. لم أتوصل إلى معرفة العثور عليها، كما لم يعرف إلى اليوم أي صوت جميل كيف يعثر عليَّ. أفتقد شيئا عندما لا أسمع الموسيقى، وعندما أسمعها يكون الفقد أكبر. هذا أفضل ما يمكنني قوله عن الموسيقى.

 

مقالات من نفس القسم