لعبة الحجلة..رواية ما وراء الرواية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
ترجمة: مها عبد الرءوف قبل ما يقرب من خمسين عاما صدرت رواية لعبة الحجلة لتمثل ثورة في عالم الادب..وكانت عملية كتابتها كذلك ثورة في عالم كورتاثر الادبي واستمر مخاضها حتى خرجت للنور عدة سنوات دفعته لأن يصفها في سلسلة من الرسائل بعث بها لمجموعة من أصدقائه بأنها "قنبلة ذرية" ستتفجر في أدب أمريكا اللاتينية..هذه الرسائل التي يتطرق فيها كورتاثر إلى كواليس عملية الكتابة  يمكن بدورنا أن نصفها بأنها "رواية ما وراء الرواية".

رسالة إلى خوان بارنابيه ..

17 ديسمبر 1958

    انتهيت من كتابة رواية طويلة تحمل اسم “الرابحون” اتمنى أن تقرأها قريبا..والآن أود أن أكتب رواية أخرى أكثر طموحا، وأخشي أن تكون أيضا غير قابلة للقراءة..أعني أنها لن تكون بالشكل المفهوم للرواية، ولكنها شكل أدبي يضم مجموعة من الرغبات والافكار والآمال ..والكثير من الفشل أيضا..ولما لا..غير أنني حتى الآن لم أجد نقطة الانطلاق المناسبة ..فكما تعرف فإن هذه اللحظة تكون دوما الأكثر صعوبة وخاصة بالنسبة لي..

*****

رسالة إلى خوان بارنابيه..

27 يونيو 1959

           أنت تعتقد أنني ربما أصبحت روائيا ..ولكن ينقصني كما دأبت على أن تقول لي ” قليل من قوة الدفع للوصول للقمة” ..ولكن في هذه اللحظة يا خوان فإن ثمة عوامل أخرى تتدخل في الأمر ، سواء كانت فكرية أم جمالية.. الحقيقة –حزينة كانت أم مبهجة- أنني مع مضي الوقت أفقد شغفي بالروايات والفن الروائي بالشكل الذي اعتدنا أن نمارسه به في هذه الاوقات..إن ما أكتبه الآن (اذا كتب لي ان انتهي من كتابته يوما ما) هو ما يمكن أن نطلق عليه “رواية مضادة”،إنه محاولة لكسر القوالب الجامدة التي تسيطر على هذا النوع الادبي .أنا أعتقد أن الرواية النفسية قد وصلت إلى نهايتها، ومن ثم فإننا لو أردنا أن نمضي في كتابة أشياء لها قيمة فإن علينا فعلا ان نسلك اتجاها مختلفا.ان الاسلوب السريالي ترك اثرا ملحوظا في بعض الاتجاهات الا انه ظل في النهاية مقصورا على مجال الرسم والتصوير. من المؤكد أنه لا يمكن الاستغناء بشكل كامل عن الرواية النفسية وعن الشخصيات المستكشفة ولكن تقنيات ميشيل بوتور وناتالي ساروتى باتت تصيبني بالملل الشديد.انهما لا يهتمان الا بالجوانب النفسية السطحية رغم اعتقادهما أنهما يتوغلان في العمق..

إن تقدم الانسان يقاس بكيفية تصرفه في حريته، ومن هنا فهو يصنع الحدث والرؤية، البطل والشخصية المساعدة..لا أعني أن الرواية يتعين أن تقوم على هذه الشخصيات فقط لانه في النهاية أفضل الشخصيات تلك التي تكون من لحم ودم وليست تلك المبتكرة من وحي خيال روائي ما..ما أؤمن به حقا أن الواقع اليومي الذي نعتقد أننا نعيشه يقبع في الحقيقة على حافة واقع اسطوري وأن الرواية مثلها مثل الشعر والحب والافعال ينبغي أن تتوغل في هذا الواقع. وعلى هذا فإن الأهم في الأمر هو أنه لكي تكسر هذه القشرة من العادات والحياة اليومية المعتادة فإن الادوات الأدبية المعتادة لم تعد صالحة لذلك ..فكر مليا مثلا في اللغة التي كان على رامبو أن يستخدمها ليشق طريقه في مغامرته الروحية ..تأمل كذلك بعض الابيات في “كمير” لنيرفال ، وتأمل أيضا بعض الفصول في “عوليس “..كيف يمكنك أن تكتب رواية إذا لم تتحرر من الكتابة ومن التعلم وأن تنطلق من الصفر إلى تسعة في حالة لا آدمية بالمرة.. ولأوضح لك أكثر فإن مشكلتي حاليا هي مشكلة كتابة، ذلك أن الادوات التي اعتدت استخدامها في كتابة قصصي السابقة لم تعد تنفعني في إنجاز ذلك الذي أرغب في القيام به قبل أن أموت..وعلى هذا فعليك أن تعرف من الآن أن الكثير من القراء الذي يحبون قصصي سيصابون بخيبة أمل مريرة اذا حدث وانتهيت من كتابة ما أفكر فيه ونشرته.إن القصة بنية وعلى الآن أن أفكك هذه البنية حتى أصل- لا أعرف كيف تحديدا- إلى بنية أكثر واقعية ، فالقصة هي نظام مغلق بشكل تام مثل الحية التي تبتلع ذيلها، وما أغرب فيه حاليا هو القضاء على النظام حتى أتمكن من الوصول للمعمل المركزي وأشارك-اذا سمحت لي قواي- في عملية اصدار الاوامر ووضع الانظمة..

وبالاضافة إلى ذلك، خوان، فإني ارغب في هجر عالم الجماليات لأحاول الدخول إلى العالم الشعري..اتراني أهذي؟عندما انتهي سأكون قد كتبت كتابا أو مجموعة كتب ستكون دوما خاصة بي، أعني أنها ستحمل اسلوبي وايقاعي وابتكاراتي. ربما يحدث ذلك ولكني سألعب دوما بشرف وعندما يخرج العمل للنور فسيرجع ذلك بشكل اساسي إلى أنني لا أستطيع أن أقوم بأمر آخر..الحقيقة أنني لو واصلت كتابة القصص الفانتازية فإنني سأصبح مخادعا كبيرا، لأن كتابة هذا النوع من القصص اصبح بالنسبة لي -وبكل تواضع-أمر سهل للغاية.. ولهذا فإن “المطارد” مختلفة وحتما ستدرك ذلك لدى قراءتك لهذه السطور المربكة…ها أنا ذا أمضي باحثا عن الباب الآخر، بيد أن كل شيئ يبدو معتما تماما وأجد نفسي عاجزا بشكل كامل عن كسر هذا الاعتياد وهذه الاريحية العقلية والجسدية، تماما كالاعتياد على تناول الشاي في الرابعة والذهاب للسينما في التاسعة..ولكن لكي تصعد على متن ساتنا ماريا   وتوجه دفتها لسبر أغوار المجهول فعليك أولا أن تبدأ في إزالة الاعشاب التي تغطيها ..وبهذه المفارقة التاريخية أنهي هذا الخطاب ولا أخفي سعادتي بكتابته إليك باعتباره سرا أفضيت لك به وإعلانا كشفت لك عنه..

 

خطاب إلى خوان بارنابيه

30 مايو 1960

أكتب كثيرا ولكن بالمقلوب ..لا أعرف تحديدا ما الذي ستتمخض عنه هذه التجربة الطويلة التي أعتقد اني اشرت إليها في خطاب سابق ..إنها ليست رواية بل قصة طويلة جدا من المؤكد أنها سينتهي بها الأمر لتصبح حكاية حالة من الجنون..لقد بدأت في عدة أجزاء في نفس الوقت وأنا قارئ وكاتب  في الوقت ذاته لكل ما ينتج عن هذه العملية..ولأوضح أكثر فإنني مثلا أكتب أحيانا وقائع تتعلق بالنهاية (عندما ينتهي كل هذا سيكون لدي تقريبا ألف صفحة) وما أكتبه بعد ذلك من أحداث تنتمي للبداية أو للمنتصف تعدل ما كتبته سابقا وعندها يكون علي أن أعود لكتابة النهاية  (أو بالعكس لأن النهاية أيضا تغير البداية) .إن الأمر معقد بشكل مفزع، ذلك أنني يخطر لي أحيانا أن أكتب نفس الوقائع مرتين، أقص في إحداهما الحدث بشخصيات معينة ثم أعيد روايته بشخصيات مختلفة، أو أنني أكتبه في المرتين بنفس الشخصيات مع تغيير الملابسات التي غالبا ما تتعلق بحدث ثالث مختلف..أفكر في أن أدع جانبا القصتين المتعلقتين بالواقعتين لأنني مرة بعد مرة تزداد قناعتي بأنه لا شيئ يحدث بطريقة محددة بل ان كل شيئ يتكون في واقع الامر من أشياء متعددة..

إن كل روائي جيد يعرف تماما أنه لو حدثت واقعة ما في حضور عدة شهود فإن كلا منهم سيرويها بشكل مختلف، وهذا ما ركز عليه ويلكي كولنز في “حجر القمر”.غير أنني أرغب في المضي إلى ما هو أبعد من ذلك لأنني لن أغير الشهود بل سأجعلهم يكررون نفس الواقعة فتخرج بشكل مختلف. ألا يحدث ذلك معك عندما تحكي موقف ما لصديق ، إلا تنتبه لتلك اللحظة التي تختلف فيها الامور عما كنت تعتقد ..في منتصف الحكاية تأتي تلك الضربة التي تغير اتجاه دفة السفينة..والافضل في هذه الحالة هو تقديم الرؤيتين، ولكن بما أن القارئ سيشعر بالملل إذا تعين عليه قراءة نفس الحدث مرتين متتاليتين، خاصة اذا كان الاختلاف بينهما ضئيلا اذا ما قورن باجمالي الحدثين، فإنني قد ابتكرت سلسلة من الخطوات الاكثر دهاء سيكون من الصعب التطرق اليها حاليا لفرط طولها.يكفي أن أذكر لك أن نصف الكتاب يقع في بوينوس أيرس بينما يدور النصف الاخر في باريس(اعتقد أن لدي المعرفة الكافية بهما لاقوم بذلك) ولكن دائما ما تكتمل الاحداث في “لامكان” ثالث يحدده احساس القارئ إذا نجح في ذلك. في الواقع  أقترح البدء من النهاية  لأجبر القارئ بعد ذلك أن يبحث في أجزاء الكتاب المختلفة، مثل دليل الهاتف، عبر نظام من التقديم والتأخير سيمثل عذابا شديدا لعامل المطبعة المسكين ..هذا إذا وجد مثل هذا الكتاب من ينشره ..وهو ما أشك فيه قطعا..

*******

خطاب إلى باكو بوروا

30 أغسطس 1960

أحيانا ما تعجز الخطابات عن الافصاح عن بعض الامور ولكن أريد أن أعرف رأيك الذي أقدره كثيرا فيما أكتب ..أعتقد أني سبق أن أخبرتك بذلك في خطابي الاول، ولكنك الآن تعود لاستخدام تلك الكلمات التي تؤثر في نفسي بشدة، ليس لما تتضمنه من إشادة بل لأن من نطق بها ناقد لا يعرف المجاملات..يوما ما سأطلب منك قراءة ما أكتبه الآن ، بالنظر إلى أنه سيكون من المستحيل أن أشرحه في خطاب ناهيك عن أنني أنا نفسي لا أفهمه.حقيقة لا أعرف متى ولا كيف سأنتهي منه .لدي الآن بالفعل 400 صفحة تضم مقاطع من النهاية ومن البداية ومن منتصف الكتاب ولكنها ربما تتلاشي أمام ضغط 400 أو 600 صفحة أخرى سيكون علي أن أكتبها خلال هذا العام والذي يليه.

النتيجة ستكون نوعا من “التقويم”، ولا أجد كلمة أفضل من هذا لوصفه.إنها رواية من زوايا مختلفة وبلغة تكون أحيانا همجية لدرجة أنني شخصيا أرفض أن أعيد قراءتها وأشك  في أنني أجرؤ على أن أظهرها لأي شخص، وتارة آخرى تكون مباشرة وتفتقر قليلا للطابع الادبي.ولكن ماذا أعرف أنا عما سينتج..إن هناك أمرا واحدا مؤكدا وهو أنني ما عدت أستطيع كتابه القصص القصيرة وأن “الرابحون” قد أصبحت أمرا من الماضي لدرجة أنني سأبذل مجهودا رهيبا لتصحيح الاختبارات.

إنني أروي لك كل هذا باعتباره الوسيلة الاقل رعونة التي يمكن بها أن أخبرك بمدى ثقتي في صداقتنا وسعادتي بقدرتي على أن أسر لك بما أقوم به وما أرغب في القيام به مستقبلا..

*******

خطاب إلى بول بلاكبورن..

15 مايو 1962

انتهيت أخيرا من “لعبة الحجلة”، تلك الرواية الطويلة التي حدثتك عنها في مرات سابقة .إنها كتاب بلا نهاية (بالنظر إلى أن المرء يمكنه أن يظل يضيف إليها أجزاء جديدة حتى الممات) وأعتقد أنه أصبح علي أن أنفصل عنها بشكل كامل.سأعيد قراءتها وسأرسلها إلى ناشري .إذا كنت تريد أن تعرف رأيي في هذا الكتاب،بتواضعي المعتاد، فإنه سيكون بمثابة “قنبلة ذرية” تهبط على الساحة الأدبية في أمريكا اللاتينية .. 

مقالات من نفس القسم