المرأة

خوان بوش
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خوان بوش*

ترجمة: عبد الغني محفوظ

الطريق ميت. لا أحد ولاشيء يمكن أن يعيده إلى الحياة. طويل، طويل إلى ما لانهاية، حتى أديمه الرمادي لا يشي بأي علامة على الحياة. قتلته الشمس، الشمس الفولاذية التي تتقد لدرجة الاحمرار-  احمرار لا يلبث أن يتحول إلى اللون الأبيض. فيما بعد يستحيل اللون الأبيض الفولاذي شفافا ويبقى هناك جاثما على ظهر الطريق.

لاشك أن قرونا مضت منذ موته. حفره رجال مزودون بالمعاول والجواريف. كانوا يغنون ويحفرون، غير أن هناك البعض ممن لم يغنوا أو يحفروا. استغرق كل ذلك العمل وقتا طويلا. وتستطيع أن تدرك أنهم أتوا من أماكن بعيدة. كانوا يتصببون عرقا وتفوح منهم رائحة كريهة. وفى الأصيل كان الفولاذ الأبيض يتحول إلى الأحمر، ثم تشتعل مجامر صغيرة للغاية خلف بؤبؤ عيون الرجال الذين كانوا يحفرون الطريق.

عبر الموت البطحاء، وغطته التلال والرياح بالتراب. بعد ذلك مات التراب هو الآخر وانتهى به الأمر إلى الرقاد على الأديم الرمادي.

على طول الجانبين تناثرت الأشجار الشوكية القصيرة. عادة ما يمض العين ذلك الفضاء الشاسع ولكن السهول جرداء، والبرية تمتد على مدى البصر. وربما تتوج الطيور الجارحة أشجار الصبار. والصبار هناك، بعيد وذائب في الفولاذ الأبيض.

ثمة أكواخ أيضا، كلها تقريبا منخفضة ومبنية من الطين، بعضها مطلي باللون الأبيض وتتعذر رؤيته تحت الشمس. فقط يشخص السقف الخشن، جافا، ومتحفزا للاحتراق بحرارة الشمس يوما بعد يوم. وبرزت من تلك السقوف بعض الشعيرات الرمادية التي لا تنحدر عليها أي قطرة مياه.

الطريق الميت، يتمدد هناك، ميتا تماما، محفورا ورماديا. بدت المرأة أولا كبقعة سوداء، ثم كحجر تركه شخص ما على المومياء الطويلة. تمددت هناك دون نسمة هواء تحرك أسمالها. لم تحرقها الشمس، صرخات طفلها فقط هي التي جعلتها تشعر بالألم. كان الطفل محمرا من اثر الحرارة وضئيلا وعيناه مفعمتان بالضوء وراح يتشبث بأمه محاولا جرها بيديه الصغيرتين. سرعان ما سيحرق الطريق الجسد الضئيل لذلك الطفل العاري الذي يصرخ أو على الأقل يحرق ركبتيه.

كان البيت قريبا ولكن لا يمكن رؤيته.

بينما كان يتقدم في سيره كبر الشيء الذي كان يبدو كحجر ملقى في وسط الطريق الكبير الميت واستمر في النمو. وقال “كويكو” لنفسه: “لابد انه عجل دهمته سيارة”.

تطلع حوله:  السهل والبطحاء وربوة رملية عالية مكسوة بهشيم الأشجار، كما لو كانت هذه الربوة بمثابة ركام من الرمال كومته الرياح. وقاع النهر، الفكان الجافان للأرض اللذان حملا المياه منذ ألف سنة. الوادي الذهبي تشقق وتصدع تحت الفولاذ الشفاف الثقيل، وأشجار الصبار تتوجها الطيور الجارحة.

والآن بعد أن صار أكثر قربا، رأى كويكو أن ذلك الشيء كان إنسانا وسمع صرخات الطفل بوضوح.

لقد ضربها زوجها. طاردها في أرجاء الغرفة الوحيدة في الكوخ، التي كانت حارة مثل فرن وهو يجرها من شعرها ويدق رأسها بقبضتيه.

“أيتها الفاجرة، أيتها الفاجرة، سوف أقتلك مثل كلبة قذرة”.

“ولكن لم يمر احد يا “شيب”، لم يمر احد”. وحاولت أن تشرح له.

“لا؟ حقا؟ والآن سوف ترين”. وضربها ثانية.

وتعلق الطفل بساقي أبيه ورأى المرأة تنزف من انفها. لم يخفه الدم ولكنه جعله فحسب يريد أن يبكى ويصرخ كثيرا، فقد تموت أمه بالتأكيد إذا استمرت في النزيف.

حدث كل ذلك لأن المرأة لم تبع لبن العنزة كما أمرها أن تفعل. فعندما عاد من التلال إلى البيت بعد أربعة أيام لم يجد النقود. قالت إن اللبن قد حمض. وكانت الحقيقة أنها شربته مفضلة ألا تترك الطفل يعانى من الجوع مثل ذلك الوقت الطويل على أن يكون لديها بضع عملات.

أخيرا أمرها أن تترك البيت هي وطفلها: “سوف أقتلك إذا عدت إلى هذا البيت”.

استلقت المرأة منبطحة على الأرضية الترابية تنزف بغزارة ولا تسمع شيئا. جرها شيب إلى الطريق في اهتياج جنوني، وهناك استلقت شبه ميتة على ظهر المومياء الكبيرة.

كان لدى كويكو ماء يكفى يومين آخرين من السفر ولكنه استخدمه كله تقريبا لرشه على جبين المرأة ثم أخذها إلى الكوخ بجعلها تتكئ على ذراعه. وفكر في شق قميصه الممزق ليمسح لها الدم. ودخل شيب من خلال الباحة الخلفية.

“لقد قلت لك لا أريد أن أراك ثانية. عليك اللعنة”.

وبدا انه لم ير الغريب، فقد أحاله ذلك الفولاذ الأبيض الشفاف إلى وحش. كان شعره مبيضا ومتيبسا من حرارة الشمس وكانت قرنية عينه حمراء.

وصرخ فيه كويكو ولكنه في حالة تشبه الجنون هدد ضحيته مرة أخرى وكان على وشك أن يضربها. وعندئذ اشتعل القتال بين الرجلين.

وبدأ الطفل دقيقا، دقيقا للغاية، يصرخ مرة أخرى. والآن راح يلف نفسه في تنورة أمه.

كان القتال مثل أغنية صامتة فلم يتفوها بكلمة ولم يكن هناك ما يسمع سوى صرخات الطفل ووقع الخطوات العنيفة.

ورأت المرأة كيف أن كويكو كان يخنق شيب، فقد أطبقت أصابعه على عنق زوجها وراحت عينا زوجها تغلق وفاه يفغر والدم يندفع إلى وجهه.

لم تدر ماذا حدث ولكن على مقربة منها بجانب الباب، كانت هناك صخرة، مثل كتلة من المقذوفات البركانية، خشنة، سوداء تقريبا، وثقيلة. وشعرت بقوة وحشية فرفعتها. وبدت الضربة كليلة. في البداية أطلق كويكو عنق الرجل الآخر، ثم ثنى ركبتيه وفتح ذراعيه عن آخرهما وهوى على ظهره بدون شكوى، بدون مقاومة.

وامتص تراب الأرضية ذلك الدم الذي كان قانيا وغزيرا للغاية واستطاع شيب أن يرى الضوء يتلألأ عليه.

واختلجت يدا المرأة فوق وجهها، وكل شعرها مفكوك، وعيناها تجاهدان في أن تفتحا. وركضت وشعرت بالخور في كل مفاصلها. أرادت أن ترى إذا كان هناك أي أحد قادم. ولكن على الطريق الميت، الميت تماما، لم يكن هناك سوى الشمس التي قتلتها. وعلى المدى، خلف السهل، ربضت ربوة الرمال التي كومتها الرياح، والصبار ذائب في الفولاذ.

…….

*خوان بوش (1909-2001) سياسي ومؤرخ وكاتب من الدومنيكان، سافر كلاجئ سياسي إلى كل أنحاء أوروبا والأمريكتين على مدى خمسة وعشرين عاما وقضى فترة طويلة من هذا الوقت في كوبا. عاد إلى بلاده عام 1961 كقائد لحزب الثورة الدومنيكانى بعد اغتيال الديكتاتور مولينا تروخيو وفى عام 1963 انتخب رئيسا للبلاد ولكن أطيح به بعد بضعة أشهر في انقلاب عسكري. وعندما ثار مؤيدوه ضد العسكريين عام 1965 أرسل الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قوات البحرية الأمريكية “للحفاظ على النظام”. رشح نفسه للرئاسة عدة مرات كان آخرها عام 1990 دون نجاح. تشتمل أعماله على روايتين وعدة مجلدات من القصص القصيرة والمقالات.

 

 

مقالات من نفس القسم