حوار مع أرونداتي روي: التفكير في الامبراطورية

أرونداتي روي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ترجمة: أزدشير سليمان

في روايتها الثانية ، وزارة السعادة القصوى (2017) ، تسأل أرونداتي روي ، “ما هو المقدار المقبول من الدم للأدب الجيد؟ تُعتبر هذه العلاقة بين الخيال ومواضعات الحياة الواقعية – العنف والظلم والقوة – مركزية في كتابات روي ، ويعود تاريخها إلى روايتها الأولى الحائزة على جائزة بوكر (1997)”إله الأشياء الصغيرة”. على مدار العشرين عاماً بين إصدار روايتها الأولى والثانية، أزعجت الكاتبة الهندية الكثيرين – أولئك الذين فضلوا تمسكها بسرد القصص وأولئك الذين كانوا مرتاحين لتحول السياسة العالمية بعد 11 سبتمبر – عبر إفصاحها عن معارضتها السياسية بصوت عالٍ وعلناً.

تتناول مقالاتها النقدية ، التي نُشر العديد منها في الصحف الهندية الكبرى ، الأسلحة النووية ، والسدود الكبرى ، وعولمة الشركات ، ونظام الطبقات في الهند ، وصعود القومية الهندوسية ، والوجوه المتعددة للإمبراطورية ، وآلة الحرب الأمريكية. نالت تلك المقالات المديح والغضب. غالباً ما تعرضت روي في الهند للشتم من قبل وسائل الإعلام ، واتُهمت بالتحريض على الشغب ، بسبب آرائها حول الدولة الهندية ، وفساد المحاكم في البلاد ، ومكافحة التمرد الوحشية التي شنتها الهند في كشمير. حتى أنها سُجنت، في إحدى المرات ، بتهمة “ازدراء المحكمة”. على الرغم من ذلك ، تظل روي صريحةً. في هذه المقابلة ، تتأمل في العلاقة بين الجمالي والسياسي في عملها ، وكيف تفكر في السلطة ، وماذا يعني العيش والكتابة في العصر الإمبراطوري.

أفني سيجبال: في كتابك ، دليل الشخص العادي للإمبراطورية (2004) ، حددتِ بعض الركائز المختلفة للإمبراطورية: العولمة والليبرالية الجديدة ، النزعة العسكرية ، ووسائل الإعلام المشتركة. كتبتي  “مشروع عولمة الشركات كسر قانون الديمقراطية. الانتخابات الحرة والصحافة الحرة والقضاء المستقل لا تعني شيئاً يذكر حين تختزلها السوق الحرة إلى سلع معروضة للبيع لمن يدفع العرض الأعلى “. كيف يمكنكِ تحديث هذا اليوم؟

أرونداتي روي: كان ذلك قبل أربعة عشر عاماً ! ستشمل التحديثات الآن الطرق التي يستخدم بها رأس المال الكبير العنصرية ، والطبقة الاجتماعية (النسخة الهندوسية من العنصرية ، أكثر تفصيلاً، وتوافق عليها الكتب المقدسة) ، والتمييز على أساس الجنس والتعصب الجنسي (المعتمد في كل كتاب مقدس تقريباً) بطرق معقدة وخيالية للغاية لتقوية نفسها وحماية نفسها وتقويض الديمقراطية وتشتيت المقاومة. ولا يفيد أنه كان هناك فشل من جانب اليسار بشكل عام في معالجة هذه المشكلات بشكل صحيح. في الهند ، اندمجت الطبقية – ذلك النظام الأكثر وحشية في التسلسل الهرمي الاجتماعي – والرأسمالية في خليط جديد خطير. إنه المحرك الذي يدير الهند الحديثة. لا يساعد فهم أحد عناصر السبيكة دون الآخر. الطبقية غير مشفرة بالألوان “غير مرمزة”. لو كان الأمر كذلك، لو كان مرئياً للعين غير المدربة ، ستبدو الهند إلى حد كبير كدولة تمارس الفصل العنصري.

“التحديث” الآخر الذي ينبغي أن نفكر فيه هو أن التكنولوجيا الجديدة يمكن أن تضمن عدم حاجة العالم إلى طبقة عاملة واسعة. ما سيبرز بعد ذلك هو مجموعة سكانية مضطربة من الأشخاص الذين لا يلعبون أي دور في النشاط الاقتصادي – فائض سكاني إذا أردت ، فائض سيحتاج إلى إدارته والتحكم به. ستضمن إحداثياتنا الرقمية سهولة التحكم بنا. تحركاتنا ، وصداقاتنا ، وعلاقاتنا ، وحساباتنا المصرفية ، والوصول إلى الأموال ، والطعام ، والتعليم ، والرعاية الصحية ، والمعلومات (المزيفة ، وكذلك الحقيقية) ، وحتى رغباتنا ومشاعرنا – كل ذلك يخضع للمراقبة والسيطرة بشكل متزايد من قبل قوى بالكاد ندركها. كم سيمضي من الوقت قبل أن تشعر النخبة في العالم أنه يمكن حل جميع مشاكل العالم تقريباً إذا تمكنوا فقط من التخلص من هذا الفائض السكاني؟ لو تمكنوا فقط من إبادة مجموعات سكانية محددة بدقة وبطرق محددة – باستخدام أساليب إنسانية وديموقراطية بالطبع. ويفضل أن يكون ذلك باسم العدالة والحرية. لا شيء على نطاق صناعي، مثل غرف الغاز أو الرجل البدين[1] والولد الصغير[2]. وإلا ما الغرض من الأسلحة النووية الذكية والحرب الجرثومية؟

أ.س: كيف غير صعود القوميات العرقية والشعبوية تشخيصك؟

أ.ر: ليست القومية الإثنية  سوى سلالة خبيثة من القومية. لطالما كانت القومية جزءاً من مشروع الشركة العالمي. كلما أصبح رأس المال العالمي أكثر حرية، كلما أصبحت الحدود الوطنية أكثر صعوبة. احتاج الاستعمار إلى نقل أعداد كبيرة من الناس – العبيد والعمال المأجورين – للعمل في المناجم والمزارع.  يحتاج النظام الجديد الآن إلى إبقاء الناس في أماكنهم وتحريك الأموال – لذا فإن الصيغة الجديدة هي رأس المال الحر ، العمل في قفص. وإلا فكيف ستخفض الأجور وتزيد هوامش الربح؟ الربح هو الثابت الوحيد. وقد نجح إلى حد ما. أما الآن فحروب الرأسمالية من أجل الموارد والقوة الاستراتيجية (المعروفة باسم “الحروب العادلة”) دمرت بلداناً بأكملها وخلقت أعداداً ضخمة من لاجئي الحرب الذين يخرقون الحدود. شبح التدفق اللامتناهي للمهاجرين غير المرغوب فيهم بلون البشرة الخاطئ أو الدين الخطأ يُستخدم الآن لحشد الفاشيين والقوميين العرقيين في جميع أنحاء العالم. هذه الشمعة تحترق من كلا طرفيها ومن منتصفها أيضاً. لا يمكن وضعها كلها في باب نهب الموارد أو التفكير الاستراتيجي. لأنها تطور في النهاية زخمها ومنطقها الخاصين.

بينما تتصاعد العاصفة ، يخرج القوميون الإثنيون لاستغلال الريح ، ويعطون بعضهم البعض الشجاعة. أقرت إسرائيل للتو مشروع قانون جديد يعلن رسمياً عن كونها وطناً قومياً للشعب اليهودي ، مما يجعل مواطنيها العرب من الدرجة الثانية. هذا غير مفاجئ ، ولكن لا يزال ، حتى بمعاييره الخاصة ، وقحاً جداً. في بقية أنحاء الشرق الأوسط ، بالطبع ، تعمل إسرائيل والولايات المتحدة بجدية على شحذ الانقسام بين السنة والشيعة ، والذي قد تكون نهايته الكارثية هجوماً على إيران. هناك خطط لأوروبا أيضاً. أسس ستيف بانون ، المساعد السابق للرئيس دونالد ترامب ، منظمة الحركة ، مقرها في بروكسل. تهدف الحركة إلى أن تكون “مركز تنسيق” للحركات الشعبوية القومية في أوروبا”. وتقول إنها تريد إحداث “تحول جذري” في السياسة الأوروبية. يبدو أن الفكرة هي شل الاتحاد الأوروبي. سيكون الاتحاد الأوروبي المفكك كتلة اقتصادية أقل رعباً ، ويسهل على حكومة الولايات المتحدة أن تتنمر عليه و تتفاوض معه. ومع ذلك ، في الوقت نفسه ، فإن توحيد العنصريين البيض في أوروبا والولايات المتحدة هو محاولة لمساعدتهم على الاحتفاظ بالقوة التي يشعرون أنها تبتعد عنهم.

لقد قيل ما يكفي عن سياسات الهجرة التي ينتهجها ترامب – الأقفاص ، وفصل الرضع والأطفال الصغار عن عائلاتهم – كل ذلك كان أسوأ قليلاً فقط  مما فعله باراك أوباما خلال فترة رئاسته التي كان الصمت المطبق مدوياً فيها. في الهند أيضاً، قنبلة الهجرة اليدوية نُزعت عتلتها للتو. انطلاقاً من روح الفاشية المعولمة  ، فإن منظمات اليمين البديل الأمريكية أصدقاء جيدون للقوميين الهندوس. انظر إلى الهند ، إذا كنت تريد فهم العالم في صورة مصغرة. في 30 يوليو 2018 ، نشرت ولاية آسام السجل الوطني للمواطنين (NRC). يأتي السجل بديلاً عن سياسة هجرة غير موجودة تقريباً. الموعد النهائي الذي حدده السجل للاجئين لأهلية الحصول على الجنسية الهندية هو عام 1971 – وهو العام الذي شهد تدفقاً هائلاً للاجئين من بنغلاديش بعد الحرب مع باكستان. استقر معظمهم في ولاية آسام ، مما فرض ضغوطاً هائلة على السكان المحليين ، لا سيما على مجتمعات السكان الأصليين الأكثر ضعفاً. لقد أدى ذلك إلى تصعيد التوترات ، التي تحولت في الماضي إلى جرائم قتل جماعي. في عام 1983 قُتل ما لا يقل عن 2000 مسلم ، مع تقديرات غير رسمية تشير إلى أن الرقم الحقيقي هو خمسة أضعاف هذا العدد. الآن ، في الوقت الذي يتم فيه شيطنة المسلمين علانية ، ومع وجود حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي في السلطة ، ستتم معالجة الانقطاع السياسي الذي لا يغتفر لمدة نصف عقد. ستؤدي عملية الاختيار ، وغربلة ملايين الأشخاص الذين ليس لديهم جميعًا “أوراق إرثية” – شهادات الميلاد أو أوراق الهوية أو سجلات الأراضي أو شهادات الزواج – إلى حدوث فوضى على نطاق لا يمكن تصوره. تم إعلان أربعة ملايين شخص عاشوا وعملوا في ولاية آسام لسنوات ، عديمي الجنسية – مثل الروهينجا في بورما في عام 1982. وهم معرضون لخسارة منازلهم وممتلكاتهم التي حصلوا عليها على مدى أجيال. من المرجح أن يتم تقسيم العائلات بطرق تعسفية تماماً. في أحسن الأحوال ، يواجهون احتمال أن يصبحوا مجموعة سكانية عائمة بلا حقوق ، و سيكونون بالتالي بمثابة تجمعات للعمالة الرخيصة. في أسوأ الأحوال ، يمكنهم محاولة ترحيلهم إلى بنغلاديش ، والتي من غير المرجح أن تقبلهم. في ظل المناخ المتزايد من الشك وعدم التسامح ضد المسلمين ، قد يعانون مصير الروهينجا ذاته.

أعلن حزب بهاراتيا جاناتا عن خططه لإجراء هذا التمرين في ولاية البنغال الغربية أيضاً. إذا حدث ذلك في يوم من الأيام ، فسيُقتلع عشرات الملايين من الناس. يمكن أن يتحول هذا بسهولة إلى تقسيم آخر. أو حتى إلى ، معاذ الله ، رواندا أخرى. لا ينتهي الأمر عند هذا الحد. في ولايتي جامو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة ، أعلن حزب بهاراتيا جاناتا، من ناحية أخرى، أنه يريد إلغاء المادة 370 من الدستور الهندي ، التي تمنح الدولة حالة الحكم الذاتي والتي كانت الشرط الوحيد لانضمامها إلى الهند في 1947. وهذا يعني بدء عملية إغراق السكان المحليين بمستوطنات من النوع الإسرائيلي في وادي كشمير. على مدى السنوات الثلاثين الماضية ، لقي ما يقرب من 70 ألف شخص حتفهم في كفاح كشمير من أجل تقرير المصير. إن أي تحرك لإلغاء المادة 370 سيكون كارثياً.

وفي الوقت نفسه ، فإن المجتمعات الضعيفة التي جرى قمعها واستغلالها واستبعادها بسبب هوياتها – طبقتها أو عرقها أو جنسها أو دينها أو إثنيتها – تنظم نفسها أيضاً ، وفقاً لهذه الخطوط ذاتها ، لمقاومة الاضطهاد والإقصاء.

في حين أنه من السهل اتخاذ مواقف أخلاقية سامية ، في الحقيقة ، ليس ثمة شيء بسيط حول هذه المشكلة. لأنها ليست مشكلة. إنها عارض من أعراض المخاض الشديد والاعتلال العميق. إن تأكيد الإثنية ، والعرق ، والطائفة ، والقومية ، والنزعة دون القومية ، والنظام الأبوي ، وجميع أنواع الهوية ، من قبل المستغِلين وكذلك المستغَلين ، له علاقة كبيرة – ولكن بالطبع ليس كل شيء – بإثبات المطالبة الجماعية بالموارد ( الماء والأرض والوظائف والمال) التي تختفي بسرعة.
ليس هناك من جديد هنا سوى النطاق الذي يحدث فيه ، والتشكيلات التي تتغير باستمرار، والفجوة المتسعة باطراد بين ما يقال وما يُراد قوله. قلة من البلدان في العالم ستخسر من طريقة التفكير هذه أكثر من الهند – أمة من الأقليات. يمكن أن تشتعل الحرائق ، بمجرد اندلاعها ، لألف عام. إذا مضينا أسفل هذا الوجر واخترنا البقاء هناك ، إذا سمحنا لخيالنا أن يكون محاصراً داخل هذه المصفوفة ، وتوصلنا إلى الاعتقاد بأنه لا توجد طريقة أخرى لرؤية الأشياء ، إذا ما فقدنا رؤية السماء والصورة الأكبر ، سنكون ملزمين حينها بأن نجد أنفسنا في صراعات تتصاعد وتنتشر وتتضاعف ويمكن أن تتحول بسهولة إلى صراعات مروعة.

أ. س: لقد كتبتِ ذات مرة أن جورج دبليو بوش “حقق ما جهد الكتاب والعلماء والناشطون إلى تحقيقه على مدى عقود. لقد أبرز الأحشاء. لقد وضع على مرأى من الجمهور الأجزاء العاملة ، وصواميل ومسامير الماكينة القيّامية للإمبراطورية الأمريكية”.  ماذا كنتي  تقصدين بهذا ، وبعد عشر سنوات ورئيسين بعد ذلك ، هل لا تزال الطبيعة المروعة للإمبراطورية الأمريكية شفافة للغاية؟

أ. ر: كنت أشير إلى تعليق بوش غير الدقيق وغير الذكي أبداً  بعد أحداث 11 سبتمبر وفي الفترة التي سبقت غزو أفغانستان والعراق. لقد فضح تفكير الدولة العميقة في الولايات المتحدة. اختفت هذه الشفافية  في سنوات أوباما ، كما تميل عادة عندما يكون الديمقراطيون في السلطة. في سنوات حكم أوباما ، كان عليك اكتشاف المعلومات وتجميعها معاً لمعرفة عدد القنابل التي تم إسقاطها وعدد الأشخاص الذين قُتلوا ، بينما كان خطاب قبول جائزة نوبل للسلام يُلقى ببلاغة. على الرغم من الاختلاف في أداء سياساتهم الداخلية على أرض الوطن ، فمن البديهي أن السياسة الخارجية للديمقراطيين تميل إلى أن تكون عدوانية مثل سياسة الجمهوريين. ولكن منذ الحادي عشر من سبتمبر ، بين بوش وأوباما ، ما هو عدد الدول التي تم تدميرها فعلياً؟ والآن لدينا عصر ترامب ، حيث نتعلم أن الذكاء والفروق الدقيقة هي مصطلحات نسبية. وأن بوش، بالمقارنة مع ترامب ، كان مفكراً جاداً.  السياسة الخارجية للولايات المتحدة تُرسل إلى العالم كل ساعة. لا يمكنك الحصول على شفافية أكثر من ذلك. نهاية العالم غير المعقولة. من كان يتخيل أن هذا ممكن؟ لكن هذا ممكن – أكثر من الممكن – وسيكون أسرع في المستقبل إذا ارتكب ترامب الخطأ المروع بمهاجمة إيران.

أ. س: هناك فارق أسلوبي ملحوظ بين روايتيك ، “إله الأشياء الصغيرة” و “وزارة السعادة القصوى” ، اللتي تم نشرها بعد عقدين من الزمان. في حين تتحدث كلتاهما عن السياسة والعنف ، فإن الأولى مكتوبة بأسلوب يوصف غالباً بالواقعية الغنائية. يشكل الجمال إحدى انشغالاته وينتهي بنبرة أمل. من ناحية أخرى ، فإن وزارة السعادة المطلقة هي رواية أكثر إلحاحاً وتفككاً وسوداوية ، حيث يصعب تحمل الخسائر. بالنظر إلى هيمنة الواقعية الغنائية في رواية ما بعد الكولونيالية والعالمية ، هل كان اختيارك الأسلوبي أيضاً بياناً حول الحاجة إلى سرد أنظمة الهيمنة العالمية بشكل مختلف؟ هل الرواية دعوة غير مباشرة لإعادة التفكير في التمثيل في الرواية الإنجليزية الهندية؟

أ. ر: إله الأشياء الصغيرة ووزارة السعادة القصوى  نوعان مختلفان من الروايات. لقد تطلبا طرقاً مختلفة لرواية القصة. في كليهما ، تطورت اللغة بشكل طبيعي بينما كنت أكتبهما. لم أكن أع حقاً تبني “خيارات أسلوبية”. في “إله الأشياء الصغيرة” ، شعرت بطريقي نحو لغة تحتوي على كل من الإنجليزية والمالايالامية – كانت الطريقة الوحيدة لرواية تلك القصة عن ذلك المكان وهؤلاء الأشخاص. كانت وزارة السعادة القصوى مشروعًا أكثر خطورة. لكتابتها ، كان عليّ دفع لغة “إله الأشياء الصغيرة” من سطح مبنى شاهق جداً ، ثم الاندفاع إلى أسفل وجمع الشظايا. وزارة السعادة القصوى مكتوبة باللغة الإنجليزية ولكن تم تخيلها بالعديد من اللغات – الهندية والأردية والإنجليزية … أردت أن أجرب كتابة رواية ليست مجرد قصة يتم سردها من خلال شخصيات قليلة تستند حياتها إلى خلفية معينة. حاولت أن أتخيل الشكل السردي للرواية كما لو كانت واحدة من المتروبولات العظيمة في الجزء الذي أعيش فيه من العالم – قديمة وحديثة ، مخطط لها وغير مخطط لها. قصة بها طرق سريعة وأزقة ضيقة ، أفنية قديمة ، طرق سريعة جديدة. قصة تضيع فيها وتضطر إلى أن تجد طريق العودة . قصة يتوجب على القارئ أن يعيش فيها لا أن يستهلكها. قصة حاولت فيها ألا أتجاوز الناس دون أن أتوقف للتدخين والترحيب السريع. قصة تخبرك فيها حتى الشخصيات الثانوية بأسمائها وقصصها ومن أين أتت والمكان الذي ترغب في الذهاب إليه.

أوافق ، وزارة السعادة القصوى متشظية ومُلحة – أحب فكرة أن تكون الرواية المكتوبة على مدى ما يقرب من عشر سنوات مُلحة – لكنني لن أدعوها قاتمة. معظم الشخصيات ، بعد كل شيء ، هي شخصيات عادية ترفض الاستسلام للكآبة التي تحيط بها ، وتصر على كل أنواع الحب الهش والفكاهة والابتذال ، والتي تزدهر جميعها بعناد في أكثر الأماكن غير المتوقعة. في حياة الشخصيات في كلا الكتابين ، يتشابك الحب ، والحزن ، واليأس ، والأمل على نحو محكم جداً، وعابر جداً ، لست متأكدة من أنني أعرف أي رواية أكثر كآبة وأيها أكثر تفاؤلاً.

لا أفكر في بعض النطاقات التي يطرحها سؤالك عليّ. على سبيل المثال ، لا أفهم ما هي الرواية “العالمية”. أعتقد أن كلتا روايتيّ محلية جداً جداً. أنا مندهشة من مدى سهولة انتقالها عبر الثقافات واللغات. كلا الروايتين تُرجمتا إلى أكثر من أربعين لغة، لكن هل يجعلهما هذا “كونيتان” أم “عالميتان” فقط؟ ثم أتساءل عن مصطلح ما بعد الاستعمار. لقد استخدمتُه كثيراً أيضاً ، لكن هل حقاً أضحى الاستعمار خلفنا؟ كلتا الروايتين ، بطرق مختلفة ، تتأملان هذا السؤال. لايزال ثمة أنواع كثيرة من الاستعمارات المستحكِمة وغير المعترف بها. ألا نحررها من الشرك ونحاول فهمها؟ حتى السرد  “الإنجليزي الهندي” ، في ظاهر الأمر ، فئة واضحة جداً. ولكن ماذا يعني ذلك حقاً؟ تم رسم حدود الدولة التي نسميها الهند بشكل تعسفي من قبل البريطانيين. ما هي “الإنجليزية الهندية”؟ هل تختلف عن الإنجليزية الباكستانية أو الإنجليزية البنغالية؟ الكشميرية الإنجليزية؟ هناك 780 لغة في الهند، 22 منها “معترف” بها رسمياً. إن معظم لغاتنا الإنكليزية على ألفة مع واحدة أو أكثر من هذه اللغات. المتحدثون باللغة الهندية والتيلوجوية والمالايالامية ، على سبيل المثال ، يتحدثون الإنجليزية بشكل مختلف. الشخصيات في كتبي تتحدث بلغات مختلفة ، وتترجم لبعضها ومن أجل  بعضها البعض. الترجمة ، في كتابتي، عمل أساسي خلاق. إنها “أي الشخصيات” ، وكذلك المؤلف ، تعيش فعلياً في لغة الترجمة. حقاً ، أنا لا أعتبر نفسي كاتبة “للرواية الإنجليزية الهندية” ، بل أعتبر نفسي كاتبة يعيش عملها وشخصياتها في عدة لغات. النسخة الأصلية هي في حد ذاتها ترجمة جزئية. أشعر أن سردي يأتي من مكان أقدم ، وكذلك أكثر حداثة وبالتأكيد أقل ضحالة من مفهوم الأمم.

هل وزارة السعادة القصوى دعوة غير مباشرة لإعادة التفكير في التمثيل في الرواية الإنجليزية الهندية؟ ليس بصفة واعية، لا. لكن نوايا المؤلف الواعية ليست سوى جزء مما ينتهي به الكتاب. عندما أكتب السرد ، يكون هدفي الوحيد هو محاولة بناء عالم أحثّ القراء على ولوجه.

أ.س:  قرب نهاية وزارة السعادة القصوى ، تسأل إحدى الشخصيات: “كيف نحكي قصة متشظية”؟ تعج الرواية بشخصيات تم تقليص حياتها أو تهميشها بطريقة ما نتيجة لقيود الخيالات الوطنية. ومع ذلك ، فإن قصصهم غنية بالفكاهة والغضب والإرادة والحيوية. كيف تتعاملين مع رواية القصص في وقت يشعر فيه الناس بالإحباط المستمر من سرديات الدول القومية الإمبريالية الجديدة؟

أ.ر: الخيالات “الذهانات” الوطنية وسرديات الدولة القومية ليست سوى جزء واحد مما يتعين على الشخصيات في وزارة السعادة القصوى التعامل معه. كما يتعين عليهم التفاوض بشأن أنواع أخرى من الخيالات السفيهة والمحدودة –  الطائفة ، والتعصب الديني ، والقوالب النمطية الجنسانية. الأسطورة التي تتنكر في صورة التاريخ ، و التاريخ  الذي يتنكر على هيئة أسطورة. إنه عمل محفوف بالمخاطر ، وقصة محفوفة بالمخاطر لمحاولة سردها. في الهند اليوم ، تتم مراقبة رواية القصص ليس فقط من قبل الدولة ، ولكن أيضاً من قبل المتعصبين الدينيين ، والجماعات الطبقية ، واللجان الأهلية ، والغوغاء الذين يتمتعون بالحماية السياسية ، الذين يحرقون قاعات السينما ، ويجبرون الكتّاب على سحب رواياتهم ، ويغتالون الصحفيين. لقد أصبح هذا الشكل العنيف من الرقابة وسيلة مقبولة للتعبئة السياسية وبناء الدوائر الانتخابية. يتم التعامل مع الأدب والسينما والفن كما لو كانت بيانات سياسية أو مشاريع قوانين تنتظر تمريرها في البرلمان والتي يجب أن ترقى إلى  فكرة الأوصياء أصحاب الأسهم عن كيفية تمثيلهم أو تمثيل مجتمعهم أو تاريخهم أو بلدهم. ليس من المستغرب أن يستمر التعصب بجميع أنواعه في الازدهار والانقلاب على أولئك الذين ليس لديهم دعم سياسي أو دائرة انتخابية منظمة. لقد شاهدت مؤخراً فيلمأً من مالاياما في ولاية كيرالا المتحررة بعنوان “أبناء ابراهيم”. الأشرار، الأغبياء والمجرمين كانوا جميعاً من الأفارقة السود. نظراً لعدم وجود مجتمع من الأفارقة في ولاية كيرالا ، كان لا بد من استيرادهم وتمثيلهم في عمل خيالي من أجل ممارسة هذه العنصرية ! لا يمكننا إلقاء اللوم على الدولة في مثل هذا النوع من الأشياء. هذا هو المجتمع. هكذا هم الناس. الفنانون والمخرجون والممثلون والكتاب – الهنود الجنوبيون الذين يسخر منهم الهنود الشماليون بسبب جلودهم الداكنة يهينون بدورهم الأفارقة لنفس السبب. هذا مُحير.

إن محاولة الكتابة أو صنع الأفلام أو ممارسة الصحافة الحقيقية في مناخ كهذا أمر مًثير للأعصاب. همهمة الغوغاء المقتربين تشبه جرحاً مزمناً ماثلاً. تلك القصة يجب أن تُروى أيضاً.

كيف تحكي قصة متشظية؟ هو سؤال كتبته إحدى الشخصيات الرئيسية في وزارة السعادة القصوى – تيلو – تيلوتاما – التي تعيش في بيت ضيافة غير قانوني في مقبرة دلهي ، في دفتر ملاحظاتها. تجيب على السؤال بنفسها: هل يكون ذلك بأن تتمثل “تكون” الجميع ببطء؟ لا. بأن تتمثل “تكون” كل شيء ببطء. تيلو هي مهندسة معمارية ، ومؤرشفة لأشياء غريبة ، وكاتبة اختزال لوصايا المحتضرين ، ومعلمة ، ومؤلفة حكايات غريبة غير منشورة. الخربشة في دفتر ملاحظاتها عبارة عن تأمل في الأشخاص والحيوانات والجان والأرواح التي شاركت معهم أماكن معيشتها. بالنظر إلى المناقشات التي تدور حولنا هذه الأيام ، من المحتمل أن يتم توبيخ تيلو بشدة لتفكيرها بهذه الطريقة. سيقال لها أن  “أن تتمثل “تكون” الجميع ببطء” ، أو الأسوأ من ذلك ، “أن تتمثل “تكون” كل شيء” ، ليس أمراً عملياً ولا صائباً سياسياً. وهذا صحيح تماماً. ومع ذلك ، بالنسبة إلى راوي القصص ، ربما لا يهم كل هذا. في الأوقات المجنونة والمتصدعة مثل أوقاتنا ، ربما تكون محاولة “أن تتمثل كل شيء ببطء” نقطة جيدة ليبدأ الكاتب.

أ.س: بالإضافة إلى كتابة الروايات ، فأنت أيضاً كاتبة مقالات وناشطة سياسية غزيرة الإنتاج. هل ترين النشاط والسرد وكتاباتك غير الخيالية امتدادات لبعضها البعض؟  أين يبدأ أحدها وأين ينتهي  الآخر بالنسبة لك؟

أ. ر: لست متأكدةً من أنني أمتلك القسوة العنيدة التي لا هوادة فيها التي يتطلبها تكوين ناشط جيد. أعتقد أن  توصيف “كاتب” يغطي أكثر أو أقل ما أقوم به. لا أرى في الواقع سردي وكتابتي غير الخيالية كامتداد لبعضهما البعض. إنهما منفصلان جداً. عندما أكتب الروايات ، آخذ وقتي. إنها “أي الكتابة” روية ، وبطء ، وتمنحني متعة كبيرة. كما قلت ، أحاول إنشاء عالم للقراء ليسيروا فيه.

المقالات هي دائماً مداخلات مُلحة في موقف مُرتج على الناس. إنها حجج ، مناشدات ، للنظر إلى شيء مختلف. كتبتُ مقالتي السياسية الأولى ، “نهاية الخيال” ، بعد تجارب الهند النووية عام 1998. والثانية  “المنفعة العامة العظمى”  جاءت  بعد أن رفعت المحكمة العليا تعليقها على بناء سد سردار ساروفار على نهر نارمادا. لم أكن أعرف أن تلك المقالات كانت مجرد بداية لما سيصبح عشرين عاماً من كتابة المقالات. تلك السنوات من الكتابة ، والسفر ، والجدل ، والمحاكم ، وحتى الذهاب إلى السجن ، عمقت فهمي للأرض التي عشت فيها والأشخاص الذين عشت بينهم ، بطرق لم أكن أتخيلها. لقد نشأ هذا الفهم بداخلي ، طبقة فوق طبقة.

لو أني لم أعش تلك السنوات العشرين بالطريقة التي عشتها ، لما تمكنت من كتابة وزارة السعادة القصوى. لكن عندما أكتب السرد ، وعلى نحو مغاير لكتابتي للمقالات سياسية ، فأنا لا أكتب من موقع المنطق والعقل والجدل والواقعة. يأتي السرد من سنوات من التأمل في تلك التجربة الحية ، وتقليبها مراراً وتكراراً حتى تظهر على بشرتي مثل العرق. أكتب السرد بجلدي . في الوقت الذي بدأتُ فيه كتابة وزارة السعادة القصوى ، شعرتُ وكأنني صخرة رسوبية تحاول تحويل نفسها إلى رواية.

أ.س:  كتبتِ في “سياسات القوة” (2001) : “يبدو الأمر كما لو أن شعب الهند قد تم تجميعه وتحميله في قافلتين من الشاحنات (كبيرة جداً وصغيرة جداً) انطلقت بحزم في اتجاهين متعاكسين. القافلة الصغيرة في طريقها إلى وجهة لامعة في مكان ما بالقرب من قمة العالم. القافلة الأخرى تذوب في الظلام وتختفي… بالنسبة للبعض منا ، تبدو الحياة في الهند مثل أن تكون معلقاً بين شاحنتين ، واحدة في كل قافلة ، وأن تتقطع أوصالك أثناء تحركهما بعيداً ، ليس جسدياً، ولكن عاطفياً وفكرياً”. بالنسبة للدول حول العالم التي شهدت مقدمات مفاجئة ومتسارعة للعولمة والليبرالية الجديدة ، هل تقولين إن القافلة المتجهة إلى قمة العالم قد تحطمت؟ وما مصير أولئك الذين يُصار إلى تقطيعهم ببطء؟

أ. ر: لم تتحطم بعد. لكن عجلاتها غارقة ، والمحرك محموم. أما بالنسبة لأولئك الذين يتم تفتيتهم ببطء ، فقد تم استقطابهم ويستعدون لتمزيق بعضهم البعض. رئيس الوزراء ناريندرا مودي هو تجسيد لما يمكن أن نطلق عليه قومية هندوسية مشتركة. مثل معظم أعضاء حزب بهاراتيا جاناتا ، فهو عضو في راشتريا سوايامسيفاك سانغ (RSS) ، النقابة الثقافية القومية الهندوسية التي تعد أقوى منظمة في الهند اليوم. حزب بهاراتيا جاناتا هو في الحقيقة مجرد الذراع السياسية لجمعية RSS . كان الهدف من RSS ، التي تأسست عام 1925 ، منذ فترة طويلة تغيير الدستور الهندي وإعلان الهند رسمياً دولة هندوسية. بدأ مودي حياته السياسية في أكتوبر / تشرين الأول 2001 ، عندما عينه حزبه (غير منتخب) رئيسًا لوزراء ولاية غوجارات. في فبراير 2002 (في ذروة الإسلاموفوبيا الدولية بعد 11 سبتمبر) جاءت مذبحة غوجارات التي ذُبح فيها مسلمون في وضح النهار على يد حشود من الحراس الهندوس ، وتم طرد عشرات الآلاف من منازلهم. في غضون أشهر من ذلك ، دعم العديد من رؤساء الشركات الكبرى في الهند مودي علناً ، وهو رجل ليس له سجل سياسي ، كمرشحهم لمنصب رئيس الوزراء. ربما كان هذا لأنهم رأوا فيه سياسياً صارماً لا يرحم يمكنه أن يطبق سياسات اقتصادية جديدة ويقضي على الاحتجاجات والقلق في البلاد التي بدت حكومة حزب المؤتمر غير قادرة على التعامل معها (وفي الوقت نفسه ، تأخير تنفيذ مئات مذكرات التفاهم التي وقعتها الحكومة مع مختلف الكيانات الاعتبارية). استغرق الأمر اثنتي عشرة سنة. في مايو 2014 ، أصبح مودي رئيساً للوزراء بأغلبية سياسية ضخمة في البرلمان. تم الترحيب به على المسرح العالمي من قبل وسائل الإعلام الدولية ورؤساء الدول الذين اعتقدوا أنه سيجعل من الهند وجهة حلم للتمويل الدولي.

على الرغم من أن السنوات القليلة التي قضاها في السلطة قد شهدت مضاعفة الشركات المفضلة لديه وعائلات حلفائه المقربين لثرواتهم  مرات عدة ، إلا أن مودي لم يكن النصير القاسي والكفؤ للسوق الحرة و الذي كان الناس يأملون فيه. أسباب ذلك تتعلق بعدم الكفاءة أكثر من الأيديولوجية. على سبيل المثال ، في وقت متأخر من إحدى الليالي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 ، ظهر مودي على شاشة التلفزيون وأعلن عن سياسته في “شيطنة العملة”.[3] منذ تلك اللحظة ، لم تعد 80 بالمائة من الأوراق النقدية الهندية عملة قانونية. كان من المفترض أن يكون هذا ضربة خاطفة  لمكتنزي “النقود السوداء”. بلد يزيد عدد سكانه عن مليار نسمة توقف. لم تحاول أي حكومة من قبل شيئاً بهذا الحجم.  كان عملاً من أعمال الغطرسة  ينتمي إلى ديكتاتورية شمولية. لأسابيع معاً ، وقف العمال المياومون وسائقو سيارات الأجرة وأصحاب المتاجر الصغيرة في طوابير طويلة ، ساعة تلو الأخرى ، على أمل تحويل مدخراتهم الضئيلة إلى أوراق نقدية جديدة. تمت إعادة جميع العملات ، حتى الروبية الأخيرة ، “السوداء” وكذلك “البيضاء” ، إلى البنوك. لم يكن هناك، رسمياً على الأقل ، “نقود سوداء”. كانت ميزانية كبيرة مبهرة. لقد أدت إزالة العُملة وضريبة السلع والخدمات الجديدة الفوضوية إلى اختناق الشركات الصغيرة والناس العاديين. بالنسبة لكبار المستثمرين ، أو بالنسبة للأشخاص العاديين ، فإن هذا النوع من النزوة من جانب الحكومة التي تقول إنها “صديقة للأعمال التجارية” يُعتبر نزوة مُهلكة. إنه إعلان قوي أن كلمتها “أي الحكومة” لا يمكن الوثوق بها وليست ملزمة قانونياً.

كما أدت عملية الشيطنة أيضاً إلى إفراغ خزائن جميع الأحزاب السياسية تقريباً ، نظراً لأن ثروتها غير المحسوبة عادة ما تكون نقدية. من ناحية أخرى ، ظهر حزب بهاراتيا جاناتا بشكل غامض كواحد من أغنى ، إن لم يكن أغنى ، حزب سياسي في العالم. لقد وصلت القومية الهندوسية إلى السلطة بسبب القتل الجماعي والخطاب المتعصب الأكثر خطورة الذي قد يمزق نسيج السكان المتنوعين. قبل بضعة أشهر ، عقد أربعة من كبار قضاة المحكمة العليا مؤتمرا صحفيا حذروا فيه من أن الديمقراطية في الهند في خطر شديد. لم يحدث شيء مثل هذا من قبل. بينما يتم تقطير الكراهية في أرواح الناس ، كل يوم ، بقلوب متقززة ، نستيقظ على مقاطع فيديو لإعدام المسلمين يتم نشرها على YouTube فيما نرى شماتة الحراس ، وأخبار تعرض الداليت “المنبوذون” للجلد علناً ، واغتصاب النساء والرضع ، وآلاف المسيرات الداعمة من الأشخاص الذين تم القبض عليهم بتهمة الاغتصاب، من المدانين بارتكاب جرائم قتل جماعي في مذبحة غوجارات وقد جرى إطلاق سراحهم من السجن بينما كان المدافعون عن حقوق الإنسان وآلاف من السكان الأصليين في السجن بتهمة التحريض على الفتنة ، وكتب التاريخ المخصصة للأطفال التي يكتبها الحمقى تماماً ، وذوبان الأنهار الجليدية وانهيار منسوب المياه بنفس سرعة معدل الذكاء الجماعي لدينا.

لكن كل شيء على ما يرام ، لأننا نشتري أسلحة من أوروبا والولايات المتحدة أكثر من أي حكومة أخرى تقريباً. لذلك ، فإن الهند ، التي تضم أكبر عدد من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في العالم ، والتي انتحر فيها مئات الآلاف من المزارعين وعمال المزارع المثقلين بالديون ، الهند التي من الآمن أن تكون فيها بقرة أكثر من أن تكون امرأة ، يتم الاحتفاء بها كواحد من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم.

أ.س: غالباً ما تم التذرع بكلمة “إمبراطورية” على أنها مشكلة أوروبية وأمريكية فريدة. هل ترين أن الهند ودول ما بعد الاستعمار الأخرى  تتكيف مع الأشكال القديمة للإمبراطورية في ملابس جيوسياسية جديدة؟ في وزارة السعادة القصوى ، تظهرين لنا كيف طورت الحكومة الهندية إستراتيجيات للمراقبة ومكافحة الإرهاب والتي هي ، بعبارة ملطفة ، شمولية في نطاقها.
كيف يمكننا التفكير في الإمبراطورية الآن في جنوب الكرة الأرضية ، خاصة في وقت كانت فيه دول ما بعد الاستعمار تحاكي الحسابات الأخلاقية لأسيادها الاستعماريين القدامى؟

أ. ر: من المثير للاهتمام أن الدول التي تسمي نفسها ديمقراطيات – الهند وإسرائيل والولايات المتحدة – مشغولة بإدارة الاحتلال العسكري. كشمير واحدة من أعنف الاحتلالات العسكرية وأكثرها كثافة في العالم. تحولت الهند من مستعمرة إلى قوة إمبريالية بين عشية وضحاها. لم يكن هناك يوم واحد منذ مغادرة البريطانيين للهند في أغسطس 1947 لم يتم نشر الجيش الهندي والقوات شبه العسكرية داخل حدود البلاد ضد “شعبها”: ميزورام ومانيبور وناغالاند وآسام وكشمير وجامو وحيدر أباد وجوا والبنجاب والبنغال والآن تشهاتيسجاره و أوريسا و جارخاند. عدد القتلى عشرات أو ربما مئات الآلاف. من هم هؤلاء المواطنون الخطيرون الذين يحتاجون إلى قمعهم بقوة عسكرية؟ هم السكان الأصليون والمسيحيون والمسلمون والسيخ والشيوعيون. النمط الذي يظهر ينبئنا بالكثير. ما يظهره بوضوح هو دولة هندوسية “عليا” تنظر إلى أي شخص آخر على أنه عدو. هناك الكثير ممن يرون الهندوسية نفسها كشكل من أشكال الاستعمار – حكم الآريين على الدرافيدانس[4] وغيرهم من الشعوب الأصلية التي تم محو تواريخها وتحول حكامها المخلوعون إلى شياطين مهزومة وأسورا [5] الأساطير الهندوسية. تستمر قصص هذه المعارك في العيش في مئات الحكايات الشعبية ومهرجانات القرى المحلية التي تمثل فيها “شياطين” الهندوسية آلهة الشعوب الأخرى. لهذا السبب أنا غير مرتاحة لكلمة ما بعد الاستعمار.

أ.س: أصبح الحديث عن المعارضة والعدالة الاجتماعية سائداً  في عصر ترامب – لكن علامات التصنيف “الوسوم” على وسائل التواصل الاجتماعي غالباً ما تكون بمثابة عمل مباشر ، وكثيراً ما تستخدم الشركات لغة الارتقاء والمسؤولية الاجتماعية مع مضاعفة ممارسات الأعمال غير الأخلاقية. هل أُفرغت الاحتجاجات من طاقاتها اليوم؟ وفي مثل هذه البيئة ، أي نوع من المعارضة قادر على كسر صرح الإمبراطورية؟

أ. ر: أنت محق. تستضيف الشركات مهرجانات السعادة وندوات المعارضة وترعى المهرجانات الأدبية التي يدافع فيها الكتاب العظماء بقوة عن حرية التعبير. المعارضة هي الموضة الجديدة الرائعة (والجماعية). ما الذي نستطيعه حيال ذلك؟ عندما تفكر في عظمة حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة ، والاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام ، فإنها تجعلك تتساءل عما إذا كان الاحتجاج الحقيقي ممكناً بعد الآن. الاحتجاج ممكن. هو كذلك بالتأكيد. كنت في جوتنبرج ، السويد ، مؤخراً ، عندما اندلعت أكبر مسيرة نازية منذ الحرب العالمية الثانية. كان عدد النازيين يفوق عدد المتظاهرين المناهضين للنازية ، بما في ذلك أنتيفا[6] الشرسة ، بأكثر من عشرة إلى واحد. في كشمير، يواجه القرويون العزل رصاص الجيش. في باستار ، في وسط الهند ، أوقف الكفاح المسلح من قبل أفقر الناس في العالم بعضاً من أغنى الشركات في مساراتها. من المهم أن نحيي انتصارات الناس ، حتى لو لم يتم الإبلاغ عنها دائماً على شاشات التلفزيون. على الأقل تلك التي نعرف عنها. جعل الناس يشعرون بالعجز والضعف واليأس هو جزء من الدعاية.

لكن ما يحدث في العالم الآن يأتي من كل اتجاه ومضى أبعد مما ينبغي. هذا يجب أن يتوقف. ولكن كيف؟ ليس لدي أي نصيحة شافية ، حقاً. أعتقد أننا جميعا بحاجة إلى أن نصبح متمردين بجدية. أعتقد ، في مرحلة ما ، أن الوضع سيصبح غير مُحتمل للقوى الموجودة. ستأتي نقطة التحول. الهجوم على إيران ، على سبيل المثال ، قد يكون تلك اللحظة. سيؤدي ذلك إلى فوضى لا يمكن تصورها ، ويخرج منها شيء لا يمكن التنبؤ به. الخطر الأكبر هو أنه ، مراراً وتكراراً ، يتم نزع فتيل عاصفة الغضب التي تتراكم وتجييرها إلى حملة انتخابية أخرى. نحن نخدع أنفسنا بالاعتقاد بأن التغيير الذي نريده سيأتي بانتخابات جديدة ورئيس جديد أو رئيس وزراء على رأس نفس النظام القديم. بالطبع ، من المهم إبعاد الأوغاد القدامى عن مناصبهم وترحيل الأوغاد الجدد ، لكن لا يمكن أن يكون هذا هو الدلو الوحيد الذي نصب فيه شغفنا. بصراحة ، طالما واصلنا النظر إلى الكوكب على أنه “مورد” لا نهاية له ، طالما أننا نؤيد حقوق الأفراد والشركات في جمع ثروة لا حصر لها بينما يعاني الآخرون من الجوع ، طالما أننا لا نزال نعتقد أن الحكومات لا تملك مسؤولية إطعام الجميع وكسوتهم وإسكانهم وتعليمهم – كل حديثنا هو مجرد تظاهر. لماذا تخيف هذه الأشياء البسيطة الناس كثيراً؟ إنها مجرد آداب عامة. دعونا نواجه الأمر: السوق الحرة ليست حرة ، ولا تهتم بالعدالة أو المساواة.

أ.س: قد ظهر السؤال المحير المتمثل في النضال العنيف ضد الهيمنة في لحظات مختلفة من التاريخ. وقد نوقش في سياق كتابات فرانتز فانون ، غاندي ، حياة السود مهمة ، فلسطين ، والحركة الناكسالية ، على سبيل المثال لا الحصر. إنه سؤال يظهر أيضاً في رواياتك وكتاباتك الواقعية. ما رأيك في التحذير ضد استخدام العنف في المقاومة من أسفل؟

أ. ر: أنا ضد الأوامر والتعليمات غير الملزمة من الأعلى للمقاومة من الأسفل. هذا سخيف ، أليس كذلك؟ يخبر الظالمون المظلومون كيف يتوجب عليهم أن يقاوموا؟ سيختار الناس المقاتلون أسلحتهم الخاصة. بالنسبة لي ، مسألة الكفاح المسلح مقابل المقاومة السلبية هي مسألة تكتيكية وليست أيديولوجية. على سبيل المثال ، كيف يقاوم السكان الأصليون الذين يعيشون في أعماق الغابة بشكل سلبي الحراس المسلحين وآلاف القوات شبه العسكرية الذين يحاصرون قراهم ليلاً ويحرقونها على الأرض؟ المقاومة السلبية مسرح سياسي. يتطلب جمهورا متعاطفاً. لا يوجد أحد داخل الغابة. وكيف يضرب الجائعون عن الطعام؟

في مواقف معينة ، يمكن أن يكون التبشير باللاعنف نوعاً من العنف. إنه أيضاً نوع من المصطلحات التي تتوافق بشكل جميل مع خطاب “حقوق الإنسان” حيث يمكن ، من موقع رفيع من الحيادية الزائفة ، والسياسة ، والأخلاق ، والعدالة ، أن يُطرح من الصورة ، ويمكن إعلان جميع الأطراف منتهكي حقوق إنسان  ، ويمكن الحفاظ على الوضع الراهن.

أ.س: في حين أن هذا الجرم يُسمى إمبراطورية الشر ، وهو مصطلح مستعار من وصف رونالد ريغان للاتحاد السوفيتي ، هناك الكثير ممن يعتقدون أن الإمبراطورية هي الآلية الإدارية والسياسية الوحيدة المستدامة لإدارة أعداد كبيرة من السكان. كيف يمكننا تحدي الأصوات المهيمنة ، مثل نيال فيرجسون ، الذي وضع الكثير من الإيمان في التفكير في غلال الإمبراطورية؟ على الجانب الآخر، كيف يمكننا التحدث إلى الليبراليين الذين وضعوا ثقتهم في عسكرة الإمبراطورية الأمريكية في فترة ما بعد 11 سبتمبر؟ هل ترين أي مخرج من قبضة التفكير الإمبراطوري الحالية؟

أ. ر:  لا يفكر “السكان المُدارون” بالضرورة من منظور فيرجسون الإداري. ما يراه المدراء على أنه استقرار ، يراه المُدراون  بوصفه عنفاً على أنفسهم. ليس الاستقرار هو الذي يدعم الإمبراطورية، بل العنف. وأنا لا أعني فقط الحروب التي يحارب فيها البشر بعضهم. أعني أيضاً العنف الذهاني ضد كوكبنا المحتضر. لا أعتقد أن المؤيدين الحاليين للإمبراطورية هم مؤيدو الإمبراطورية بشكل عام. إنهم يدعمون الإمبراطورية الأمريكية. في الحقيقة ، الرأسمالية هي الإمبراطورية الجديدة. الرأسمالية يديرها الرأسماليون البيض. ربما لن تلهم إمبراطورية صينية أو إمبراطورية إيرانية أو أفريقية نفس المشاعر الدافئة؟ “التفكير الإمبراطوري” ، كما تسمونه ، ينشأ في قلوب أولئك الذين يسعدون بالاستفادة منها. يقاومها من ليسوا كذلك. والذين لا يرغبون في ذلك.

ليست الإمبراطورية محض فكرة. إنها نوع من الزخم. قوة دافعة للسيطرة تحتوي داخل دائرتها على حتمية التجاوز والتدمير الذاتي. عندما يتغير المد ، وتبرز إمبراطورية جديدة ، سيتغير المدراء أيضاً. وكذلك بلاغة المدراء القدامى. وبعد ذلك سيكون لدينا مدراء جدد ، بخطابات جديدة. وستكون هناك شعوب جديدة ستنهض وترفض أن تُدار.

……………………

*حوار أجرته Boston Review مع أرونداتي روي عن الرقابة ورواية القصص ومشكلتها مع مصطلح “ما بعد الكولونيالية”.

1) “فات مان” هو الاسم الرمزي للقنبلة النووية التي فجرتها الولايات المتحدة فوق مدينة ناغازاكي اليابانية في 9 أغسطس 1945. وكانت الثانية من بين سلاحين نوويين تم استخدامهما في الحرب ، أولهما هو ليتل بوي ، وكان تفجيره ثالث انفجار نووي في التاريخ. تم بناؤه من قبل العلماء والمهندسين في مختبر لوس ألاموس باستخدام البلوتونيوم من موقع هانفورد ، وتم إسقاطه من Boeing B-29 Superfortress Bockscar بقيادة الرائد تشارلز سويني[1]

[2] “ليتل بوي” هو الاسم الرمزي لنوع القنبلة الذرية التي أُلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية في 6 أغسطس 1945 خلال الحرب العالمية الثانية. كان أول سلاح نووي يستخدم في الحرب. أسقطت القنبلة من قبل بوينج بي -29 سوبرفورترس إينولا جاي بقيادة العقيد بول دبليو تيبيتس الابن ، قائد المجموعة 509 المركبة للقوات الجوية للجيش الأمريكي والكابتن روبرت أ.لويس. انفجرت بطاقة تبلغ حوالي 15 كيلو طن من مادة تي إن تي (63 تي جي) وتسببت في قتل وتدمير واسع النطاق في جميع أنحاء المدينة. كان قصف هيروشيما ثاني انفجار نووي من صنع الإنسان في التاريخ ، بعد اختبار ترينيتي.

[3]الشيطنة هي عملية تجريد وحدة عملة من وضعها كعملة قانونية. يحدث كلما كان هناك تغيير في العملة الوطنية: يتم سحب الشكل أو الأشكال الحالية للأموال من التداول والتقاعد ، وغالبًا ما يتم استبدالها بأوراق نقدية جديدة.

[4]السلالة الدرفيدية أو العنصر الدرفيدي ‏ شعب جنوب الهند ذو أصل جنوب آسيوي يتحدثون أيًا من اللغات الدرافيدية. هناك حوالي 245 مليون ناطق للغات الدرافيدية أغلبهم في جنوب الهند، كما ينتشرون في الهند وسريلانكا وبنغلاديش وجنوب باكستان وأفغانستان والمالديف. وبأقلية في سنغافورة والإمارات من خلال الهجرة الأخيرة .

[5] هي فئة من الكائنات أو العشائر التي تسعى إلى السلطة Devas الأكثر إحسانًا (المعروفة أيضًا باسم Suras في الهندوسية

[6] أنتيفا ‏ هي حركة محتجين يسارية مناهضة للفاشية والنازية ومعارضة للرأسمالية والنيوليبرالية واليمين المتطرف، ويعتنق أغلبهم الأفكار الشيوعية والاشتراكية واللاسلطوية مع بعض الأفكار الليبرالية.

مقالات من نفس القسم