حكايات من الحياة .. حكايات من السينما (2/3)

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

2- "إليز ماكينا"

 (1)

عرفت في عينيك "إليز ماكينا" .. الفنانة المسرحية مرهفة المشاعر من "مكان ما في الزمان"، تلك الشخصية التي يكتنف تفاصيل حياتها الكثير من السحر .. والكثير من الغموض، تلك التي تجمع بين الحقيقة والخيال، بين العلم والأسطورة، تلك التي تنتظر أن يظهر رجلها فجأة من مكان آخر أو زمان آخر، تنتظر أن تحدث المعجزة ويلتقيان، فتستعيد معه ذكريات الحب الذي كان .. وتعيشه للحظات، حينها اختفي فجأة كما ظهر فجأة، فتعيش عمرها كله على ذكرى تلك اللحظات، وعلى الأمل المستحيل .. أن تراه مرة أخرى، فتحدث المعجزة وتراه لثوان معدودة في مكان آخر.. وفي زمان آخر، وبينهما عشرات السنين، تطلعين في مشهد الافتتاح العبقري .. في اللحظات الأخيرة من حياتك، فتبزغين كالشمس رغم غياب الإضاءة عن وجهك، بينك وبين رجلك ـ الكاتب المسرحي الشاب ـ الذي تنتظرينه عقودا متعاقبة، تتقدمين في هدوء وثقة، فيفسح لك الجميع الطريق مأخوذين بقوة حضورك التي لم ينقص منها شيء بفعل الزمن، تصلين إلى حبيبك الذي لا يعرف عنك حتى تلك اللحظة شيئا وظهره إليك، تلمسينه برفق فيستدير ويده اليسرى مرفوعة في الانتظار، تأخذه المفاجأة ويأخذه الحضور هو الآخر، تضعين هديتك في يده اليمنى برفق وتغلقينها، ثم تطلقين كلماتك البسيطة المعبرة: "عد إلي"، ترحلين بعدها في صمت وهو لا يزال مأخوذا، يفتح يده ليجد فيها ساعتك الذهبية الجميلة والعتيقة، تلك الساعة التي تمثل أحد رموز تلك العلاقة العجيبة بين "إليز ماكينا" ورجلها "ريتشارد"، ترحلين وعلى وجهك رضا وفي عينيك قطرات دمع تنساب هادئة على وجنتيك، فبعد ستون عاما من الانتظار ها أنت تستعيدين حبيبك ولو للحظة قبل رحيلك الأبدي، ها أنت تحققين الحلم المستحيل فتعبرين الزمان والمكان، تلقين عليه نظرتك الأخيرة، نظرة الوداع .. ونظرة البداية، بداية تلك الحكاية العجيبة .. والعلاقة الغريبة، تتركين أثرك على الشاشة .. وفي الحياة، في مشاهد قصيرة سريعة تصاحبها موسيقى جميلة معبرة، هكذا ترحلين .. وهكذا تبدأ الحكاية بكل ما تحمله من خيال وغرابة، وجمال ينساب مع المشاهد التالية حتى النهاية .. وما بعدها.

(2)

انجذبت إليك كما انجذب “ريتشارد” إلى “إليز ماكينا”، فإذا به يحبها ويعشقها دون حتى أن يراها، فيما عدا ذلك اللقاء الغامض في نهاية حياتها، فبعد سنوات منذ ذلك اللقاء الأول ها هو يهجر حياته التي اتخذت مسارا مضطربا ليبحث عن شيء ما يعيد إليها البهجة والاطمئنان، فيقوده قدره وتقوده روحك إلى ذلك الفندق الشهير، حيث مسرح الأحداث وأصل الحكاية ومستودعها، وكأنه على الموعد، ذلك المشهد المبهر في قاعة التاريخ بالفندق العريق، عندما يسيطر عليه البورتريه البديع الذي يصورك، تلك الصورة التي تكاد تحيا وتنطق فيقع في غرامها، تسيطر عليه بالكامل فيملأ قلبه وعينيه شغف لا حدود له، أراني كأني هو .. يشعر بوجودك قبل أن يرى صورتك، يستدير ويقترب منها ببطء، يعمي عينيه لثوان معدودة شعاع شمس قد تكون صورتك هي مصدره، فيقرر أن يهجر كل شيء في حياته ويبدأ رحلة البحث المستحيل عنك، رحلة تجمع بين العلم والوهم والخيال، فتكون المفاجأة .. وتكون الدهشة حينما يكتشف أنك أنت هي، تلك التي أهدته منذ سنوات ساعتها الذهبية الجميلة، تلك الساعة كأنها روحك أصبحت دون أن يدري رفيقة حياته منذ لحظة امتلاكه لها، فيقرر أخيرا أن يسافر إليك عبر الزمن، ليحظى بلقاء آخر في زمان آخر، وليحقق لك رغبتك: “عد إلي”.

(3)

كنت موجودا معكما .. حين تحدث المعجزة وتلتقيان، لحظتها هزني ذلك السؤال البسيط المعبر الذي سألته “إليز ماكينا” بكل كيانها عند رؤية رجلها “ريتشارد” القادم إليها من زمان آخر: “أهو أنت؟”، سألته وهما يلتقيان في ذلك المشهد الأسطوري عند ضفاف البحيرة، تظلهما الأشجار وتحفهما السكينة، سمعته على وقع الموسيقى الرائعة المصاحبة لهما كأنني أسمعه منك أنت وحدك، تسأله كل ذرة فيك: “أهو أنت؟”، هكذا سمعت .. أو هكذا ظننت أنني سمعت، ذلك الاستفهام البسيط المعبر عن معنى الانتظار ومعنى الأمل، عن معنى الصبر والإيمان بوقوع المعجزات، فتتضاعف سعادتي ويتضاعف رضاي، وأكتفي من الحياة بما حصلت عليه، لا أرجو شيئا آخر، ولا أطلب شيئا آخر.

(4)

أراك عندما يصل إليك “ريتشارد” رغم كل محاولات مدير أعمالك كي يفرق بينكما، تتغلبين على مخاوفك .. وتتغلبين على تحذيراته لك، فتتوالى الأحداث بين جنبات الفندق العريق، بين الأشجار وعلى ضفاف البحيرة، تعمل الكيمياء عملها وتشتعل الرغبة في الحياة والحب بداخلك، وفي تلك النزهة التي تتوطد خلالها العلاقة بينكما تسألينه عن الوقت فترين الساعة، تلك الرمز والمدخل لتلك الحكاية العجيبة، تسألينه عنها وأنت من أهديتها إليه في زمن لاحق: “كيف حصلت عليها”، فيجيبك وهو متحير: “لقد أعطيت إلي”، ويأبى القدر إلا أن تنمو الحكاية سريعا حتى تبلغ ذروتها، فها أنت على خشبة المسرح تجسدين شخصية المرأة المقبلة على الزواج من رجل لا يميزه إلا المال، تتعمدين هجر الكلمات المكتوبة لك لتخاطبين رجلك الجالس بين الجمهور بما يحمله قلبك من مشاعر تجاهه، تصارحينه على الملأ بالحب الذي عرفته معه لأول مرة في حياتك، تصله تلك الكلمات وتلك المشاعر النابعة من أعماق قلبك، تصله وحده وهو جالس بين مئات من الحضور، فيدرك أن رحلته الغريبة عبر الزمن لم تضع هباء، ثم تأتي اللحظة التي ينتج عنها ذلك البورتريه الرائع .. لحظة أن رأتك أثناء جلسة التصوير والمصور يستحثها أن تبدو مشرقة مبتسمة، فلا يأتي ذلك التعبير الفاتن في عينيك وعلى وجهك إلا عندما يظهر حبيبك، تلك الصورة البديعة التي تمثل رمزا آخر من رموز تلك الحكاية الأسطورية، ثم يلقي مدير أعمالك بورقته الأخيرة محاولا أن يفرق بينكما بالقوة، فهو لا يريد إلا السيطرة عليك وعلى نجاحك وشهرتك، فيكون هو الوحيد صاحب الفضل وصاحب القرار، فيحتجزه بعيدا عنك، آملا أن ترحلين معه ومع باقي أعضاء الفرقة في غير تواجد حبيبك “ريتشارد”، لكن القدر لا يمكنه من ذلك فيكون اللقاء مرة أخرى بعد فراق قصير، تعدينه ألا يفقدك أبدا، تعدينه وأنت لا تعلمين أن أوان الفقد قد اقترب بشدة، ساعتها تتغلب عليكما المشاعر .. والرغبة، فتندمجان معا في جسد واحد وروح واحدة، تنعمان بالقرب والوصال غير مدركين لما يخبئه لكما القدر.

(5)

ما أقسى أن يباغتك الفراق في اللحظة التي تنعم فيها أخيرا بالحب والسعادة بعد بحث وعناء، في لحظة التمتع بالدفء والأمان، تلك اللحظة التي فقدت فيها “إليز ماكينا” “ريتشارد” وفقدها هو أيضا، وها أنا ذا أفقدك وتفقدينني كما فقدا بعضهما البعض، في اللحظة التي ظنا فيها كما ظننا أن الزمان قد منحهما أخيرا بهجة الحياة ونعيمها، في اللحظة التي انغمسا فيها بكل ذرة في كيانهما في وهج الحب واللقاء، يعوضان ما فاتهما من وحشة واغتراب، من برودة الحياة التي لازمتهما من قبل، في تلك اللحظة بعينها يكون الفقد، وتكون الفجيعة، فيتلاشى “ريتشارد” من بين يدي “إليز ماكينا” وهي تحاول جاهدة أن تستبقيه، يتلاشى في المكان وفي الزمان وكأنه لم يوجد قط، هي نفسها تلك اللحظة التي فقدتك فيها، فأي معنى للمكان أو الزمان، وأي طعم للحياة يبقى بعدها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“مكان ما في الزمان” 1980Somewhere in time 1980                             

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال