في ذِكر سيارة حمراء صغيرة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مريم عبد العزيز

لم يكن هناك من يرغب في شراء السيارة الحمراء الصغيرة التي تُثبّت إحدى مرآتيها الجانبيتين بشريط لاصق عريض لتؤدي الغرض المطلوب دون الحاجة لتغييرها, فأنا أجلس هنا بجوارها من الصباح وحين حلت الظهيرة واشتد القيظ أخرج أغلب الموجودين بالمكان مظلات كتلك التي يستخدمها الحجاج,بينما كنت أنا بلا مظلة ينضح العرق من جميع مسامي,وحيداً بائساً تماماً كحال السيارة الحمراء الصغيرة التي تنتظر مصيرها بجوار رفيقاتها في سوق السيارات بالحي العاشر من مدينة نصر.





أتفحص وجوه المارة لعلي أرى في أيّهم نظرة رضا عن سيارة حمراء صغيرة اتسخ فرشها الداخلي ببقايا طعام أطفالي ورماد سجائري, هذه الفتاة القصيرة المحجبة ربما من دول أسيا الإسلامية تبدو من طلاب الأزهر الذين استوطنوا هذا الحيّ لقلة قيمة إيجاراته مقارنة بالمساكن بجوار الجامعة ربما تحتاج لسيارة صغيرة كهذه للذهاب إلى الجامعة, أصوب نظري نحوها لعل مظهري المُرهَق يثير تعاطفها لتشتري السيارة ولو بدافع الشفقة, وهي وسيلة دعاية مستهلكة كتلك التي يستخدمها المتسولون في إشارات المرور, انتبهت على وقوف ميكروباص بيني وبينها وحين غادر موقعه كانت الفتاة قد اختفت, كم هو ساذج أن أظن أن هؤلاء الطلاب الذين تركوا بلادهم لدراسة علوم الشريعة في جامعة الأزهر تحتمل ميزانيتهم رفاهية شراء سيارة حتى وإن كانت صغيرة وحمراء ويأمل صاحبها في التخلص منها ولو بثمن بخس. فلننس الفتاة ولنحاول استقطابذلك الأنيق الذي يدور حول السيارةبوسيلة دعاية أخرى, ابتسمت له ابتسامة كتلك المرسومة على وجوه مندوبي المبيعات ذوي البضائع الهشّة,كنت على وشك أن أعدد له مميزاتها لكني توقفت عن تهوري حين لم أجد لها ميزة سوى أنها لا تغري لصوص السيارات لسرقتها,ابتسم هو ابتسامة مهذبة ومضى دون أن يمهلني لأستعرض مهاراتي في الدعاية, على كل حال أنا لا أمني نفسي بزبون كهذا, فالزبون الذي أنتظره ليس وسيماً ولا أنيقاً إنما رجل مثلي تماماً متردد متأزم متواضع الحال نسي أن يحضر مظلة فأصبح رأسه ينضح بقطرات العرق, لذلك فهو متعجل ويريد إنهاء المهمة بأقل خسائر مادية ممكنة ليرضي زوجة لحوحة أرهقها انتظار المواصلات العامة في شوارع العاصمة فأصدرت فرماناً كذلك الذي أصدرته داليا في يوم ما, حين لوحت بعد زواجنا بشهرين أننا بحاجة لسيارة.

كان الوضع حقا يستحق الشكوى, فأن تسكن في مدينة جديدة لم تخترقها شبكة المواصلات بعد بينما تعمل في المدينة القديمة فإن ذلك سيكلفك على أقل تقدير ثلاث ساعات إضافة لعدد ساعات العمل التي لا تقل عن الثمان ساعات,تسألت داليا بلهجتها الحادة : “أومال هنعيش إمتى” و كان هذا هو فرمان شراء السيارة.

بدأنا رحلة البحث,تابعنا أسعار السيارات في الصحف و زرنا معارض السيارات,و في ذلك اليوم كنا نتجول داخل أحد المعارض الكبرى نفتح أبواب السيارات الفارهة نتفحص الصالون والتابلوه نجلس بداخلها نتخيلها ملكاً لنا, كنا نسخر من أنفسنا و نضحك… حقاً كنا وقتها نضحك, حتى باغتنا بابتسامته الودود فتى المبيعات الذي قرر تصحيح مسار الحلم لصالح تجار السيارات, فسأل :”أقدر أساعدكم يا فندم”, تبعها ببعض الأسئلة التي تخص الميزانية, وحين أدرك ضعف موقفنا المادي ابتسم مرة ثانية و صحبنا إلى صالة عرض أخرى ربما هي لسيارات محدودي الدخل أمثالي, وبعد عمليات حسابية معقدة وإضافة الفوائد المركبة والتأمين, كتب على ورقة صغيرة قيمة القسط الذي علينا أن ندفعه شهرياً بأقل مقدم ممكن وأطول مدة سداد, وكانت السيارة الحمراء الصغيرة.

سيارة حمراء صغيرة شهدت كل أحداثنا الكبيرة,بداية من رحلتنا اليومية من وإلى العمل, سفرنا القصير في عطلات نهاية الأسبوع إن سمح الوضع المادي بذلك, زيارات متابعة الحمل عند الطبيب ثم إلى مستشفى الولادة والعودة لمنزلنا بأعضاء جدد في أسرتنا الصغيرة المترنحة بين متطلبات الحياة والإمكانيات التي بالكاد تكفينا, وحتى تلك الرحلة الأخيرة.

قضينا فيها ساعات تقارب تلك التي قضيناها في منزلنا البعيد جداً,في أول الأمر كنا نغلق زجاج السيارة ونستمتع بالهواء المكييف, نستمع إلى الراديو ونغني معه بصوت عالٍ, ثم تم تقنين استخدام التكييف حين اكتشفنا أنه يزيد من استهلاك الوقود, ثم استبدلنا الغناء بالشجار بنفس نبرة الصوت بل وأهملنا إغلاق الزجاج لتصبح لحظات الغضب مشاعاً لجميع المارة على الطريق الدائري,تبدء الشرارة بطلب من أحدنا يقابله رفض من الطرف الآخر فتشتعل المعركة يتبعها صمت يطول حتى نصل إلى بيتنا عند أطراف المدينة, إلى أن جاء ذلك اليوم الذي أطلق فيه كلانا كلام ما كان له أن يقال ولا كان لنا أن نغفره, تصاعدت نبرة الصوت و حدّته ثم بكاء الصغار في الخلفية, ثم طريق آخر إلى بيت أهلها والعودة وحيداً.

من ذلك الذي يجازف بشراء سيارة حمراء صغيرة ملك لأسرة آيلة للسقوط تحمل خيباتهم وإخفاقهم وغربتهم وأحلامهم المؤجلة إلى الأبد,تلك التي أسمتها داليا بكل الأسماء المبتذلة للسيارات وأسميتها أنا السيارة الحمراء فقط والتي تناوبنا داليا وأنا على دفع قسطها الشهري, أقف الآن لأبحث عن من يشتريهابعد فرمان آخر وأخير من داليا حين عقدنا جلستنا الأخيرة للاتفاق على ترتيبات الطلاق كمن يفض شراكة, أطلقت داليا السؤال بنفس اللهجة الحادة وكأنها تطلق إجابة لا سؤال : “و العربية الحمرا …. أنا دفعت نص تمنها”.


مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون