الخطة ..

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مريم حسين

سرحتُ في ألوان المفرش البلاستيك الزرقاء والبرتقالية ذات النقش الثعبانى المحدد بخطوط سوادء، بينما انعكس ضيُّ نصف كوب القهوة الفارغ -أثر الشمس من الشباك العريض- على الطاولة بجانبي. لمحته عن بعد على الجانب الآخر من ترعة المنصورية في مزرعة الخيول ذات القباب البيضاء المعروضة للبيع منذ ست سنوات.

 دفء الشمس في يناير أعطاه حماسا ومدَّد جلده وشدَّ عضلاته. كان يرمح بقوة. أبيض تماما. أنا حتى أعتقد أن شعر ذيله ورأسه كان يزداد طولا كلما جرى أسرع، وبعد قليل سيعبر شعره الترعة ويدخل من شباك المطبخ، ويسرح على الطاولة الطويلة، ويسقط طرفة فى كوب القهوة، وسوف أغضب حينها وأسبّه بعنف فينكمش الشعر وينسحب مخذولا إلى مزرعته. 

فزعتُ من صوت “داده” أم أحمد المختصة بشئون المطبخ وهى تغلق الباب وتجرى ناحيتي سعيدة جدا.

-خضيتينى ياداده، فيه إيه؟

-مافيش حد غيرنا، أغنيلك بقى يا ميس، ده أنا والله صوتى حلو.

أضحك.

-ما أنا عارفة. لو غنيتي صح هاجيب الأورج وأعزف معاكي.

-بجد يا ميس؟ طب اسمعي.

تتنحنح أم أحمد مبتسمه ثم تبدأ الغناء. 

-من حبي فيك يا جاري يا جاري من زمان.. أخبي الشوق وأداري ليعرفوا الجيران.. لما تصادف ع السلم وتكلمنى ونتكلم…

أركز وأستعيد كلمات الأغنية في ذهني ثم أتوجه لمحادثتها بجديّه:

-أنتي بتألفي يا أم أحمد؟

تجيب وهى تحاول عدم الخروج من اندماجها:

-لا والله ياميس.

ثم تكمل:

-قلبي بيرقص م الفرحة وتدّوب روحك فيَّا.. معرفش إن كنت رايحة مع…

أتحدث بجدية أكثر:

-إنتي بتألفي على فكرة.

تضحك خجلة:

-مش مهم يا ميس، ماهو الكلام ماشي برضه.

 أضحك بشدة:

-ماااشي.. هاجيبلك الأورج يا ستي.

تشهق فرحة:

-ربنا يخليكى يا ميس. على فكرة سليمان قاللى هايجيبلك زيت الحية من مزرعة التعابين بتاعة أخوه في كرداسة.

-ماشى.. بس قوليله هادفع على مرتين. أنا مفلسة.

-ولا يهمك يا ميس.

أمازحها:

-بس هحاسب ع القهوة ماتخافيش.

أعطيها حساب القهوة دون أى زيادة:

-يا ميس خلّي والله بجد.

أربت على كتفها وأتجه إلى الباب وأنا أعدل ملابسي وشعري. تسير ورائى وهى تريد  أخذ وعد أخير مني :

-هاتخليني أعمل على الأورج؟

أضحك دون الالتفات إليها:

-أمال يعنى هاجيبه نتصور جنبه يا أم أحمد؟

أخرج وأنا مشفقة على الأورج، فحجم إصبع من أصابعها يعادل أصبعين ونصف منه. أخرج وقد نويت فعلها. لن أقدر على التحمل. فقط هى دقة التخطيط.

أصعد بظهري درجتي السلم اللتين نزلتهما توا. اتجه للغرفة الموجود بها أول الخلق وآخرهم ” آدم” .

أجلس  الارض وأضعه بين ساقىَ المضمومتين عليه كقوسين بينما يتجمع حولنا باقى الاطفال المشتركين معه فى غرفة تضم أولاد المدرسات الأصغر سنا من عامين . حين كنت طفلة كنت أقرف جدا لما تخبرني نينة أنها كانت تتناول الطعام من فمي، والآن أتعمد طوال الوقت لمس ريقه وشفتيه المكتنزتين مثل شفتيَّ. حتى دموعه طعمها مالح وحلو، أشعر بها تقطر في فمي الآن وأنا أنسحب خارج الغرفة وهو متعلق بي، باكيا بحرقه:

-يّى يّا.. يّى يّا..

كان قد اخترع لى اسما أسهل على لسانه الضئيل.

-هاجيلك تانى والله. إنت عسل ومربى تين يا دودو.

نزلت إلى الدور الأول حيث الغرفة الخاصة بمدرسات مرحلة رياض الاطفال، ومن أول خطوة خطوتها في الرواق الطويل جدا رنّت في أذني ضحكة بسنت، مدرسة اللغة الإنجليزية ذات الضحكة الرقيعه والتى تنتهى بسحبة نفس مثيرة. ضحكتُ في سخرية، وأكملت سيري وأنا ألقي نظرة على الفصول الخالية من الأطفال في سعادة وراحة بال. إجازة نصف العام أنقذت الجميع من انهيار عصبي بسبب التخوف من انتشار مرض الجديرى المائى بين عدد من الأطفال.

لمحت فى منتصف الرواق مِس فتحية تذاكر لامتحان الجامعه المفتوحة. شجعتها بابتسامة سريعة وجريت من أمامها، فلو اصطادتنى واستمرت فى رغيها الذي لا ينقطع مهما مارست عليها جميع أنواع القمع والإحراج، وخاصة وأنا فى طريقي لتنفيذ خطتي، فسوف ينتهي الموقف بعدد جيد من الأقلام على وجهها النحيف ودماء تسيل من قصبة أنفها الطويلة المكسورة. أي نعم هى ممولتي في أدوات التجميل الغالية وأدفع بالتقسيط، وأي نعم تشاركنا في أراء سياسية كادت تودى برفدنا، لكنني فعلا لن أحتملها.

عبرت في الرواق أمام باب الحديقة الملحق بالمبنى، ولثاني مرّة ألمح تلك اللقطة المقبضة: نخل مقطوع الرأس ويقف بدلا من الرأس المقطوعة غربان على النخل .

البعض يرى أن المنطقه بذلك تُعمَّر وتُزال الأراضي الزراعية لتُبنى المساكن وتقل أشباح القتلى في الجرائم والغرقى في الترعة وضحايا من قتلوا فى حوادث الطريق الضيق، أشباح سمعتُ عنها كثيرا من عاملات النظافة اللاتي يعشن في كرداسة، إذ تقع المدرسة التي أعمل فيها مدرّسة موسيقى على مدخل كرداسة مباشرة، “قرية الدماء والرمال ” كما أسميتها.

عبرتُ أمام غرفة المدرسات : بسنت وسالي مجتمعتان حول صور إباحية في الموبايل مع شريط صوت مكون من ضحكات بسنت، وسوسن الخبيثة كالسرطان تحكي أن أحمد مدرس الألعاب مغرم بي، وأننى اليوم أرتدي حذاء بكعب عال وضروري عندي مشوار خاص بعد المدرسة، بينما ريهام الساخرة جدا تشكو أن زوجها ضربها بالوسادة في وجهها بالأمس وأن في الأمر حلقة مفقودة ووسادة خالية، وهالة مستمرة في محاولة إغراق البسكويت في مَج الشاي باللبن الضخم كالإناء الصغير وإخراجه بسرعة قبل أن يسقط، بينما تطلق جهاد البريئة الجميلة ابتساماتها الرقيقة كلما اشتكت ياسمين من شقاوة جاسمين ابنتها وأن أباها منذ طلاقهما لم يرها سوى مرة واحده وهى تربيها “بطولها”.

كدت أخرج من الرواق وأعبر الملعب ذاهبة لغرفة الموسيقى ومنها للحّمام، فجأة انبثقت سالمة من آخر فصل بجانب الباب. جرت علىّ مسرعة تنهرني فهي تعلم نواياي:

-على فكرة إنتى عليكي جمعية وقسط ومش وقت رفد خالص. خلاص خرمانة أوي يعني؟

تضحك أماني وهى تتابعنا عن بعد- أماني التي ارتبطت ملامحها عندي بالطوفي الأبيض في ورقة شفافة.

أقول لسالمة في نفاد صبر:

-اطلعي لابنك بيعيط فوق. لو اتقفشت هاقول إننا مش اخوات.

ترد بغضب:

-وحياة أمك؟

تعلو ضحكة أماني بينما اتركهما وأذهب.

عبرتُ ملعبا ضخما إلى أن وصلت إلى غرفة الموسيقى في نهاية صف من غرف الأنشطة، ويلتصق بها الحمّام. ألقيت نظرة على الغرفة، كانت صمّاء تماما بعد صخب وغناء وأصوات الآت ودبيب أقدام وزعيق وشكوى ورغي وضحك. تمَّمت على الأورج في جرابه وكتبت اسمي على جسم الدرامز الغارق في التراب، والذي طالما استخدمته كمرآة، حتى العلامات الموسيقية المعلقة على الحائط غُمرت بالتراب. أنا التي صنعتها من الفوم اللامع، استخدمت كل الالوان، ملأت المكان حولى بألوان لامعة لأشكال رشيقة، حينها كنت أعرف شخصا ضحكته لامعة تماما مثل هذا الفوم، كنت أسميه “عود النعناع”، فظهوره بأي شكل كان يسبب لي حالة انتعاش غريبة.

بالأمس جئت إلى هنا لآخذ كتاب شعر للماغوط كنت نسيته في الدرج. فجأة وجدت علاء المشرف على مادة الموسيقى يدخل عليَّ الغرفة ومعه آلة العود . كان عصبيا وحزينا وحالته وحالته سيئه جدا. رحبت به وأعددت له كوب شاى بدون أن أسأله عما به. أيضا لم يتحدث. أمسك بالعود وقال:

-تسمعي إيه؟

أجبت متحمسه لصوتة الرائع وعيونه الزرقاء:

-علي الحجار، “بحبك”.

أمتلأت عيناه بالدموع مما زادهما جمالا، وانطلق يغني:

-ليالينا ليالينا.. وتاهت بينا تاهت…

تركته يغني الأغنية كاملة ثم عقَبت:

-أنا بحب صوت وردة بس مش باقدر أشوفها خالص.

أضحك ساخرة ثم أكمل:

-شكلها بيوحيلي بشوربة بط عليها عشرة ملل دَسَم.

(استشاط غلاء غضبا، وقال لي وهو يقف على باب الغرفة ممسكا بعوده): وقف علاء فجأة على باب الغرفة ممسكا بعوده ومستشيط غضبا:

-مخصوم منك يومين.

ثم أغلق الباب ومضى.

وقفت في الغرفة مذهولة أحدث نفسى غاضبة: إيه ابن الوسخة ده؟ أنا حرَة.

أعلم أنه لا يوجد مدرسون غيري في صف الأنشطة، فالجميع اختاروا إجازاتهم في الأسبوع الأول. حتى دادات الحمّام هنا أخذن إجازة، وأنا الآن وحدي. دخلت الحمّام الجاف ولمحت شبشب داده أم حبيبة البنفسجي مستقرا أسفل الحوض وطرحتها منسية خلف الباب على مسمار، سببتها في سرّي، فطرحتها تلك جعلت الحمّام كله كرائحتها التى كانت كرائحة رُقاق تم تخزينة لفترة طويلة.

واربتُ الباب الخارجي للحمّام فهو لا يُغلق للنهاية ، ودخلتُ أول حمّام قابلنى. أغلقت على نفسي بالقفل وأسرعت في إشعال السيجارة تغلبا على رائحة أم حبيبة. استنشقتُ الدخان بسرعة متأففة: ينعل أبو أمك يا أم حبيبة.

ووضعت عود الكبريت المطفأ في جيبي.

وصلت لمنتصف السيجارة وأذناي تتابعان الصمت في الخارج، بينما أراقب حركة سحلية ذات خطوط زرقاء وخضراء خلف زجاج الشباك. ميزت جيدا صوت باب غرفة الموسيقى وهو يُفتح ويُغلق بسرعة، وصوت أقدام تتحرك أمام الباب الخارجي للحمّام.

رميت السيجارة فورا في الحمام وكدت أشد السيفون، ولكنني تراجعت بسرعة منعا لأي صوت، وفكرت في مد يدي واسترجاع نصف السيجارة لكن لم أقدر. ورأيتنى أنا وسالمة نأخذ مستحقاتنا ونُطرد خارج المكان، وآدم يبكي لإيقاظه من نومه، بينما تنهرني أمي وهي تتساءل مُولْولة عمن سيدفع ماعليَّ من نقود. وعجزتُ بسبب رائحة السجائر عن شم رائحة العطر لمعرفة إن كان رجل أم امرأة. وتمنيت ألا يكون أحد سائقي الباصات من شلّة  فؤاد، فمؤكد سيبتزني، وأقل شيء هو العشرات من القُبل. فُتح باب الحمام الخارجي وميزت حينها صوت الهواء وهو يضرب جونلة واسعة. تحركت الجونلة في الحمام ثم سمعتُ صوت ولاعة أنيقه، وصوت دينا مدرسة الرسم تحدثني ضاحكة:

-شايفاكي من الشباك وأنا فى الدور الرابع. اطلعي يا بطة.

خرجت وأنا أشد السيفون وأنهرها غاضبة وآمرها بإعطائي سيجارة بدلا من سيجارتي المأسوف عليها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاصة مصرية 

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب