الشخص المقصود

موقع الكتابة الثقافي art
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد إسماعيل عمر

الكاتدرائية، تشبه بيتا صغيرا متواضعا، كتلك البيوت التى طالما رأيناها مرسومة فوق لوحة زيتية لرسام أجنبي، وبصورة أدق كانت تشبه البيت المرسوم فى لوحة معلقة بالصالة داخل شقة عمى.. بيت تحيط به أشجار عالية لن يستطع أحد تمييز نوعها حيث جاء رسمها بشكل انطباعي، وكذلك الطيور البيضاء الصغيرة التى بالكاد تتماهى مع ندفات السحب مما يوحى بأن الجو ملبد وبه برودة قاسية فى تلك البلاد.

كان منظر الكاتدرائية يثير البهجة كلما نظرت إليها أثناء سيرى فوق الرصيف الملاصق لسورها العالى. جدرانها تبدو من فراغات بابها بلون أصفر فاتح، يفصلها عن السور من الداخل بضعة أمتار يكسوها عشب أخضر وشجرة سامقة ذات فروع متشابكة مترامية، أوراقها نظيفة يانعة كما لو أن رياح الأيام الماضية المحملة بالغبار لم تمر من هنا. هيكلها ذو طراز عتيق يزيدها إجلالا عندما تكون الشمس متعامدة فوقها، بينما يلتمع لونها الأصفر فيضاهى بريق الذهب. يجاورها على اليسار بعض البنايات وحتى نهاية الطريق المفضى للميدان. أما الجانب الأيمن فيحدها شارع ضيق طويل يغمره الظلام طوال الوقت لارتفاع البنايات بداخله ووفرة ظلال أشجار الفيكس المتراصة على الجانبين. كان بابها ضخما من الحديد يشتمل على مساحة كبيرة من السور تتخلله فراغات مشغولة بإتقان، وإلى جواره شرطى مسلح دائما ما يجلس داخل كشك صغير لا يتسع لغيره. أراه متجهما عند كل مرة أنظر إليه، مع أننى أغبطه على تواجده بهذا المكان متمنيا أن أكون مكانه. فى إحدى المرات أثناء مرورى حاولت التحدث إليه ببضع كلمات، تجاوب معى ثم حين لاحظ أن حديثى بدأ يطول ويتشعب. توجس فيما أخذت عيناه تتفحصنى بتمعن قبل أن يطلب منى الابتعاد لأن هناك قوة أمنية على وشك المجيء لتأمين القداس. انتبهت لما قاله: فمعناه أن الباب سيفتح بعد وقت قليل، فيمكننى رؤية مما يحجبه السور المرتفع. وإذا كان هناك ثمة قداس فيمكننى الدخول خلسة دون أن يلحظنى أحد وسط الحشد.

قررت الابتعاد لبعض الوقت ثم العودة مرة أخرى ريثما ينسى الشرطى أمرى. أخذت أتجول بالشوارع الضيقة الواقعة فى الخلف، فيما بين لحظة وأخرى أتلفت لأعلى محاولا رؤية قمتها ولكن لم أتمكن حيث ارتفاع البنايات قد حجبها. كانت السحب داكنة مثقلة تنبئ بأن سقط المطر سيغمر الأسفلت وبلاط الأرصفة. ما زال الوقت باكرا من هذا اليوم الذى أقضيه فى فراغ من العمل، غير أن نفسى كانت ترتاح قليلا فالفراغ والبطالة أفضل من العمل تحت أمرة أناس أجلاف بلا قلب.

مرت أمامى فتاة جميلة ترتدى بلوزة وبنطالا وحذاء أسود ذا منظر لطيف، يبدو منه بياض قدميها ورقتهما. كما أن ما ترتديه يكشف نعومتها وشعرها الأسود المرسل يؤطر بياض وجهها الشاحب بهالة ملائكية. التقت نظراتنا للحظة  فكادت أن تبتسم ولكن كأن شيئا قد منعها. راقبتها حتى ابتعدت باتجاه معاكس الشارع الموصل للكتدرائية. بعد لحظة ظهرت فتاة أخرى تشبهها فى الملبس وتصفيف الشعر وتنتعل نفس الحذاء، فضلا عن أنها تحمل حقيبة تشى بأن داخلها أطعمة ومشروبات، وقبل  أن تغيب فى نفس الاتجاه أدركت أن ملامح التى سبقتها فى ذات الاتجاه أكثر ملائكية. فكرت فى اللحاق بها سوى أنى خشيت أن يرانى الشرطى الذى من المؤكد أنه إذا لمحنى مرة أخرى سيرتاب فى أمرى. كنت أود سؤالها، هل لها علاقة بالفتاة التى مرت منذ لحظات؟ هل علىّ الذهاب إلى حجرتى لتبديل ملابسى وهيئتى فلا يعرفنى إذا عدت.

استهنت بالأمر حين تأكد لى بعد تفكير لبرهة قصيرة أنه لن يتسنى للشرطى ذلك، ليس لأنه بالطبع مثل الكثيرين لديه ما يفوق طاقته من الهموم والانشغال الذهنى فيصاب بالشك والبلادة. لم أكن قد أنثوية فعل شيء محدد فى ذلك الوقت الذي ابتعدت فيه عن الكاتدرائية على أمل العودة للمرور مراقبا الزيارة المرتقبة. حاولت التفكير فى الوقت اللازم قضاءه قبل العودة. شعرت بأن كل الأشياء متشابهة، ليس بمعنى إنها ذات سمت واحد متطابق، وإنما لم أعثر على شيء يمكن أن يجذب انتباهى حتى أنشغل به لبعض الوقت، ثم أقرر ماذا أنا فاعل؟ فقد كان للملل سطوته بحيث جعلنى أستيقظ باكراً رغم البطالة، ففى الماضى كنت أنام حتى الظهيرة بيوم العطلة الأسبوعية. ومع وجود أهداف بسيطة إلا أن القيام بها يتطلب حماسا يزيل الفتور المتراكم.

هناك ملصقات على جدران بعض البنايات تثير الانقباض مثل تلك التى تعلن عن أشخاص مفقودين وقبور ومبيدات تقتل الجرزان والحشرات المنتشرة بكثرة، لا شيء عن أفلام وندوات وملتقيات. هل يمكن السماح لى بالدخول إذا طلبت ذلك بأدب؟ كما يمكن أن أرجوهم، غير أنه إذا ألححت فى ذلك يمكن أن يحسبوا أنى متعصب جاء من أجل الصلاة، بينما فى الحقيقة أريد الدخول لاكتشاف ما بها من أشياء سمعت عنها كثيرا. ربما يكون لا شيء، فكل ما يبدو لى سيكون قد رأيته من قبل. فالعشب الأخضر الذى أراه من فراغات الباب مثله بل وأفضل منه فى القرية التى ولدت بها. وطرازها العتيق يماثله الكثير فى تلك الشوارع الخلفية التى بناها الأجانب. فالباعث الحقيقى للدافع الذى يأسرني، هو التصور الذي ترسخ عبر كثير من التفكير فمن خلال ذلك تولدت بخيالى تصورات لبعض الأماكن وخاصة المقدسة منها، بأنها تطابق الزمن القديم أو تجعلنى أرغب بالانتقال إليه.

عند نهاية شارع ضيق يوجد بائع جرائد وكتب مستعملة. أنفجر شوقا ورغبة لقراءة عناوين الصحف والتقليب فى أكداس الكتب. بالطبع لم أكن أراه بصورة واضحة وهو جالس داخل الكشك، سوى أننى تذكرت وجوده حيث أتفق أن عبرت من هنا لعدد من المرات. لدى اقترابي من الرصيف الذى يفرش عليه بضاعته، جذبنى منظر الكتب الصغيرة ذات الورق الأصفر القديم الذى يشبه فى لونه أورق شجر الخريف، تلك التى كنت أتسلى بوطئها بحذائى فيشعر بدنى بدغدغة لذيذة تنتابنى، حين سماع صوت تهشمها الخشن. سرعان ما طفت على ذهنى صورة لشجرة عجوز كانت وما زالت قائمة أمام بيت العائلة فى القرية، كما يرافق ذلك  تخلق صور مثقلة بأكثر من ذكرى لطفولتى التى عشتها بالكامل فى القرية قبل الهجرة منها. ولكني طردت كل هذا حين انشغلت بالبحث فى أكداس الكتب، خاصة صغيرة الحجم أو كتب الجيب، التى فى أغلبها مغامرات وقصص بوليسية مترجمة يوجد الكثير منها وبثمن بخس.. ومع إحساسى بالغبطة أثناء إمساك بعضها وقراءة عناوينها، إلا أني لم أعثر على رغبة حقيقية فى شرائها ثم بعد برهة أثناء فحصى لعناوين تلك الكتب، طرأ خاطر أنى سأعثر على كتاب يأتى على ذكر تلك الكاتدرائية. تفاقمت رغبتى وأحسست بيقين جارف بأن ذلك سيحدث حتماً. وبالفعل وجدت كتاب صغير ذا ورق مقوى، فى لغة إنجليزية بسيطة، ويتضمن صورا بالأبيض والأسود، عباره عن دليل للأماكن الدينية القديمة. دفعت للبائع عشر جنيهات ثم سرت مبتعداً بينما عيناى لا تكفان عن تصفح أوراقه التى أقلبها بسرعة.

أخذت أبحث عن مكان يمكننى الجلوس فيه بعض الوقت. لمحت أثناء سيرى ببطء خوفا من التعثر أو الاصطدام بأحد المارة لتعلق عينى بسطور الكتاب، شجرة ذات جذع ضخم تتاخمه صخرة مستوية لامعة من كثرة ما مسحتها مؤخرات من جلسوا عليها. كانت بعض حبات العرق منعقدة فوق جبينى إثر الجهد المبذول لحظات السير رغم ضآلته، شعرت بثقلها حين لفحنى نسيم بارد. اتكأت بظهرى على الجذع ثم عدلت نفسى لحظة رؤيتى لسرب من النمل يتحرك فى خط طويل يشبه سلسله رفيعة. حاول ذهنى تفسير سبب رؤية النمل فى تلك اللحظة ولكنى تراجعت رغبة فى التركيز على أحرف الكتابة الصغيرة لفهم معناها. لاحظت أن الكتاب يؤرخ للمبانى الدينية المسجلة كتراث، مع ذكر لكثير من تواريخ البناء وميلاد ونبذة عن بناتها، إلا إن الصور متشابهة لن أستطع التفريق بين مبنى وآخر إلا فى حالة الوقوف أمامها ومطابقتها. ينبئ ذلك بالطابع السائد لتلك الفترة من منتصف القرن التاسع عشر.

أخذت أفكر فى تفاصيل قبتها ذات الجرس وبرجيها وما بهما من زخارف بديعة، رأيت ما يشبه ذلك بإحدى الصور التى بالكاد تبدو من بين قتامتها. بعد ذلك قرأت التاريخ المدون بالأسفل…. بجوار كلمة القديس ب…..بينما توجد صورة موازية للأرض قبل بنائها، أرض مزروعة بأشجار ومغطاه بالعشب، واسعة كمنتزه عام.

عند طرف ناء مبنى صغير يتعبد به أحد العباد الرهبان الذى ترك الصحراء وأتى إلى هنا، حيث الجو معتدل والأرض يكسوها اللون الأخضر. لم يكن اسمه مذكورا أو ربما مكشوطا فهناك بعض كلمات ذات أحرف باهته لم أتمكن من قراءتها بالحدس. وما اتضح أنه لم يكن له علاقة بالأثر بل له يد رحيمة على الفقراء والمساكين والحائرين، يطوف فى بياض النهار ويتهدج فى سواد الليل لم يره أحد هاجعا نائما. فكانت تضيء الشموع التى يضعها على حافة النافذة المطلة على الخلاء، فى أيام الصيف مستيقظا بينما لسانه يلهج بترانيم قدسية. ورواية أخرى أتت على ذكر أنه كان حاخام يهودى جاء من الأردن ومكث طويلاً. تحيرت لذلك، فلماذا لم يأت مؤلف الكتاب على ذكر هوية هذا الشخص، أو عدم التيقن من اسمه، فهو حائر بين لويس وألبرت، ثم بعد ذلك يغادر المكان متنقلا فعند مجيئه كان يتردد على بعض من أهل طائفته ومعارفه، ثم جعل يتمهل فى الطرقات ويتحدث إلى الناس بصوت خافت. وبعد ذلك صار يذهب إلى السوق ليعلو صوته بالنذير القادم من السماء. وأخذ يخط كلمات على الجدران، وهكذا استمر حاله مع إهمال شأنه فطالت لحيته وارتدى الأسمال البالية، من حيث المأكل والمشرب فاضمحلت صحته وتدهورت.. كان يشخص لساعات طويله بالتفكير دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه.

فى أيامه الأخيرة جعل يخط أسطرا فوق رقائق تشبه البردى بشر فيها بأن سيظهر فى وقت ما شخص سيتمهل بالنظر نحو البناء المقدس ــــ فى تلك اللحظة كان يشير نحو الأرض التى بني عليها هيكل الكاتدرائية ــــ لم يكن أحد يدرى حينها ماذا يقصد بالبناء أو الهيكل المقدس. وعقب وفاته حضر نفر، هم من توصل لتفسير كلامه بأنه يأمرهم بتشييد مكان للعبادة. كما لم يعلم أحد على أى شاكلة سيكون الاهتمام بالبناء المقدس، فلم يستطع أحد أن يفسر كلمة بأن سيتعلق قلبه بها مع ذكر خاطف دون توضيح بأن كثيرا من الناس اعتقد أنه الشخص المقصود بذلك، من غير سرد حدث واحد لأى منهم فكثرت الشائعات وكثر الكذب. وكل من قرأ أقواله قد آمن أنه هو المقصود.

عندئذ اختلطت برأسى كثير من الأفكار، حركتها الخواطر بدماغى، الذى صار مثل الموقد فيما غاب عنى كل ما حولى من أشياء، حتى صفى ذهنى وتجمعت قواه من أجل فكرة واحدة، كنت أستشعرها مثل قطرة الماء الباردة فى هجير الصحراء، تلك  المتمثلة فى البحث عن سيرة الرجل، بعدما تردد بداخلى عدد من الأسئلة، أين تحصل الذين قرأوا سيرة الرجل فى أى كتاب؟ وبأى مكان موجود ذلك الكتاب؟ ومع ما كان مشتعلا من حماس، إلا أني موقن بأني إذا شرعت بفعل ذلك، سيكون هناك صعوبة تتطلب اجتهادا وجلدا. فهذا الشخص ليس مشهورا كسياسى أو قائد جيوش أو لص. ويلزم لكشف  الأمر الاطلاع على كثير من الكتب بدقة ووعى لا يغيب، كى أتمكن من تحصيل ما بين السطور، فما الحال اذا كانت تلك السطور قليلة متناثرة.

فى البداية داخلنى شعور بضرورة مواصلة البحث فى سيرته من أجل التشويق ومغالبة الملل المتفاقم مع مضى الأيام. ثم جال بعقلى خاطر يحدثنى عن إمكانية كونى هذا الشخص الذى أشار إليه ذلك القديس. فعليّ الاستعداد لذلك بالوصول لما على فعله إذا كنت أنا من يقصده.. وجدتنى متشوقا بينما قلبى يخفق بشدة، فنهضت دون القدرة على وقف جماح ما اشتعل من أحاسيس ممزوجة برجفة الدهشة المقلقة والغبطة بأنه سيكون لى هدف سام أعيش من أجله…

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون