مقتطف من رواية “أنا العالم”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

موت الجدة لم يكن بالحدث الذي يستقبله الناس بلا مبالاة، بل كموت العظماء كان؛ يظل البعض غير مصدق، والبعض في حالة من الذهول، حتى يستقر الأمر، ويستجمع الناس أنفسهم، هنا ينزلون للواقع، ويتم تحديد المسؤوليات، من سيجهز الكفن، من يستخرج تصاريح الدفن، من يشتري اللحم والخضار لأجل المعزين القادمين من البلاد البعيدة.

 تم تحديد كل شيء، حتى وصلوا لمن ستغّسل الجدة، من لديها القدرة على أن تنزع عنها الثياب، وتصب الماء، من ستسد فتحاتها بقطع القطن وتلبسها الكفن، بلا خوف، ولا رجفة، من تستطيع مواجهة هاتين العينين، حتى وإن كانتا مغمضتين.

لم يثبت أن الجدة أذت، أو شاركت في إيذاء أحد، ولم يثبت أن قلبها قسى ولو مرة واحدة، الجدة كانت فقط تنعزل عن مشاركة الناس أفراحهم، و أحزانهم.

 وقت اللمة، وقت الأيدي الكثيرة الممتدة، لم تكن تظهر، فقط تظهر عند الاحتياج الحقيقي لها، حينها تجد كتفها في كتفك، عندما تنقطع السبل، وتتملكك الحيرة، ويزيد عليك الحمل، ويصبح وجودها هى فقط الفارق معك، عندها ستجد يدها تمتد، وتحمل عنك، وحدها تفعل، وبلا طلب من أحد، لأنك لو طلبت، لن تجدها.

ربما لكل ما سبق، ولنظرة عينيها القويتين، وللغموض الذي يحيطها، كانت الناس جميعها تهابها، ويتوقعون دومًا منها شرًا ما، ربما يتوقع الناس الشر ممن هو مختلف عنهم، كأنهم يتوقعون دومًا أن تسخط أحدهم فرس نبي، أو تعطل القدرة  الجنسية لآخر، أو تطير ثالثًا في الهواء

في النهاية، كان لا بد للغسل أن يتم، وللأمانة أن تعود على أكمل وجه، أنزلوها برفق داخل النعش، الذي بدا وكأنه يطير، وكأنها تتعجل الرجوع لرحم الأرض، أن تتماهى مرة أخرى مع الكون، وتصير ذرات تراب يطيرها الهواء، كان الناس يهرولون خلفها، ولا يلحقون بها، وكان حاملو النعش لا يشعرون بأي ثقل، هكذا حكى الجميع فيما بعد، وهكذا كان يهمهم الناس وهم يسيرون خلفها.

سيطر الصمت، كما يليق بلحظة مهيبة، ونزلت الجدة لباطن الأرض، أهيل عليها التراب إعلانًا للنهاية التامة لحياة كانت، ووقف الناس على قبرها قليلاً حتى تأنس بهم، أو حتى لا يبدو الأمر كمهمة ثقيلة وانقضت، استمعوا لدعاء الشيخ، ورددوا من خلفه:

آمين” 

قرؤوا لها الفاتحة، وعندما هموا بالانصراف، بدت الجدة وكأنها لم تحب أن تكسر توقعاتهم، بجنازة تليق بها؛ وجدوها داخل الخشبة، كما جاءوا بها، ساعتها سُمعت طقطقات شعر الرجال، كصوت النار عندما تحرق عشبًا جافًا، وسيقسم الحضور فيما بعد، أن معظم الشيب الذي أصاب رؤوسهم، كان من هذا الموقف، لكنهم تماسكوا، وكان لا بد وأن يتماسكوا، وعادوا بها لباطن الأرض مرة أخرى، ورجفة داخلية تتملكهم، قرؤوا كما قرؤوا، ودعوا كما دعوا، ووجدوها كما وجدوها أول مرة بالخشبة، تكرر الموضوع مرة واثنتين وثلاثة، بعدها توجهت العيون حائرة تجاه عبد الجليل، الذي لم تقل حيرته عن الجميع، راح ذهنه خلال دقيقة يفكر في عشرات الأسباب، حتى تنبه لوصيتها، التي نسيها مع مروره بصدمة موتها، ظهرت جدتي وكأنها تأبى أن يلوي أحد ذراعها في موتها كما كانت في حياتها، وكأنها رفضت الرحيل دون تنفيذ وصيتها، خاصة أنها لم تطلب الكثير، هى فقط رغبت في أن تدفن على شاطئ بحر، عندما طلبت ذلك من عبد الجليل، لم يعلق، تخيل أنها مجرد أمنية، لذا لم يعترض، ولم يتناقش كثيرًا حول الأمر، لكنها قالتها واضحة:

وصيتي يا عبد الجليل، تدفني جنب بحر

عندما تذكر عبد الجليل ذلك، شعر بالحيرة، والعجز، إذ كيف لا ينفذ لأمه وصيتها الوحيدة، وطلبها الأخير.

كيف سيسافر بنعشها للبحر، وكيف يحصل على تصريح بدفنها في مكان غير مسموح فيه أصلاً بذلك، الواقفون لم يعلموا شيئًا عن وصيتها، لم يعلن عبد الجليل ذلك لأحد، هم فقط وجدوه يقترب من رأسها، ينحني عليها ويقبلها، ظل يهمس لها ببعض الكلمات، وكأنه يرجوها ألا تفضحه، وأن تسامحه، وتقدر قلة حيلته، ربما أزعجها عجزه، وشعوره بالخزي أمامها، ربما لم تحب أن تراه منكسرًا بهذا الشكل، ما رآه الناس أن جثمانها توارى، لم يعد موجودًا أمامهم، وأغلق القبر.

هل دخلت قبرها كافية خيرها شرها، هل تصرفت هى ودست جثمانها في مكان ما بجوار البحر، لا أحد يعرف، وخاصة أن قبرها ظل مقفولاً، ولم يجرؤ أحد على فتحه بعد ذلك، ولكن ما حصل، أننا صرنا منذ ذلك اليوم كلما مررنا بقبر الجدة، نسمع بوضوح صوت وشيش البحر، وتمتلئ صدورنا برائحة اليود.

…………..

الكتب خان للنشر والتوزيع- 2016.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون