القصة الأولى: عشاق المدينة
بقلم: نادين كَورديمر1975,
ترجمة:د. إقبال محمدعلي
د. فرانز-جوزيف فون لينزدورف، عالم جيولوجي، يحب عمله لدرجة الإدمان،كما يقال. خبرته في هذا المجال، أبعدته سنة بعد سنة عن الناس و المدن و الطبيعة أينما حَلّ. سواء كان ذلك، في بيرو، نيوزيلاندا أو الولايات المتحدة. أكدت والدته ذات الأصول النمساوية، مدى ولعه،بالأحجار و الصخور، مُذ كان صغيراً: “كان يطل عليّ بطلعته الجميلة لدقائق، ثُم ينصرف لممارسة هواياته”. طريقة قضاء أوقات فراغه لم تتغير كثيرا، مازال يستمتع برحلات التزحلق على الجليد، سماع الموسيقى و قراءة الشعر. التقى بالشاعر، راينر ماريا ريلكه حين كان صغيراً في ضيعة الصيد التي تمتلكها جدته في غابات ( ستيريا).
يتنقل بين طبقات الأرض و الدول أينْمَا أخذه عمله، ليستقر في السنوات الخمس الأخيرة، في أفريقيا. عمل في البداية في ساحل العاج، لينتقل في السنوات الخمسة الأخيرة للعمل في جنوب أفريقيا( جوهانسبرغ)، بسبب الحاجة الماسة إلى متخصصين في مجال عمله. لم يكْتَرِث بسياسة الدول التي عمل فيها، فشغله الشاغل كان منصبا على التنقيب عن مصادر المياه تحت الأرض، ويبدو ان هدف الشركة التي عينته مؤخراً كمستشار تنفيذي، لم يكن يهمها الماء، قدر الكشف عن رواسب اليورانيوم، الذهب، النحاس و البلاتين… لذا كان يقضي معظم وقته، في استكشاف حقول المراعي الشاسعة.
في الدول و المدن التي فرضت عليه مهنته العمل فيها، كان من عادة فرانس-جوزيف، استئجار شقة بغرفتين في ضواحي المدينة، تطل على حديقة وتكون قريبة من مخزن مجاور، للتبضع منه. كان عازباً… يعتقد زملاءه في العمل، موظفات الضرب على الآلة الطابعة و سكرتيرات المكتب الرئيسي للشركة انه يتمتع بوسامة غريبة.. فالجزء الأسفل من وجهه يبدو داكناً، بسبب لحيته السوداء المشذبة، المرسومة بدقة بالغة،حول ذقنه و فمه الرفيع المقوس. له عينان عميقتان، غائرتان جعلت البعض، يحتار في لونهما ان كان، أسود أم رمادي! رمشاه و حاجباه كثتا السواد. “رجل غير جذاب”، كانت الصفة السائدة عنه بين زميلاته في العمل، بسبب نظرته المحيرة التي تجمع إلى جانب،الإتقاد و توهج الأفكار، وداعة وسكوناً. تحديقه، يشي بوعود، إلا انه لم يطلب من أية امرأة الخروج معه. لذا جزمن، بوجود خطيبة له في مسقط رأسه. لم يدركن، ان النساء الأوربيات المتعلمات، لا يكترثن على الإطلاق، الحصول على إقامة دائمة في جوهانسبرغ ،كما انهن غير مستعدات لقبول عقلية و افكار النخبة الحاكمة البالية في المستعمرة البيضاء أو الإيمان بواقعية الإندماج، في مجتمع الأفارقة السود.
ميزة العيش الوحيدة في البلدان غير المتقدمة أو شبه المتقدمة ،توفر كامل الخدمات في الشقق المستأجرة. لكن كانت هنالك أشياء، يتوجب على د. فرانز القيام بها بنفسه كالتبضع و طبخ وجبة عشاء ان لم يشعر برغبة في الذهاب إلى مطعم. تَعَود التسوق من متجر البقالة المحلي عند عودته من العمل بعد ان يركُن سيارته في الظهيرة في مرآب العمارة و قَبل دخول شقته. يتجول في البداية بين أرفف المعلبات، اللحوم المحفوظة، الأجبان، الفواكه و الخضروات، قناني الشرب، أنابيب المعاجين و السلع الأخرى بالعربة التي يدفعها … غالبا ما تضع المخازن حوامل صغيرة من المعدن أو الكارتون المضغوط، عند طاولة الدفع، تعلقُ عليها،سلع صغيرة، متنوعة، ان فكر المشتري بحاجته إليها أثناء الإنتظار. عِند بدء العاملة، ضرب اسعار المشتريات في ماكنتها، يلتقط، علبة سكائر أو عُلبةُ بندق مملحة، حلوى النُوغَة أو امواس حلاقة. في شتاء احد الأيام، ذهب كالعادة إلى المخزن، لاحظ خلوَ الحامل من ماركة شفراته المفضلة، فنبه إحدى العاملات بشأنها. غالبية أمينات الصندوق السوداوات، انصاف متعلمات، هدفهن الأول، خدمة الزبائن بأقصر و أسرع وقت….يضربن الأرقام بحزم و يستلمن النقود من المشتري لوضعها في الصندوق و لا يولين اهتماماً لطلبات من هذا النوع، لكن هذه العاملة ، انتبهت. القت نظرة على مجموعة الأمواس المعلقة على الحامل، و اعتذرت بسبب عدم قدرتها ترك ماكنتها، لكنها وعدته، بتوفرها في المرة القادمة. بعد يومان، رأته يقف في الطابور. حين جاء دوره للدفع، أخبرته بحرص: سألت الإدارة عن شفرات الحلاقة، اخبروني انهم لا يمتلكون احتياطياً الآن، لكنها ستكون ضمن قائمة البضائع القادمة. طلب منها ان لا تكترث بالموضوع.. اجابت: سأحتفظ لك بالبعض منها، عند وصول الطلبية. شكرها ثم غادر المخزن.
سافر لمدة أسبوع للتنقيب و رجع إلى المدينة يوم الجمعة، قبل حلول الظلام. نزل من سيارته متوجها إلى الشقة، يداه مثقلتان بحقيبة اليد و حقيبة السفر، و لفائف أكياس من القماش، حين لاحظ شخصاً يقطع عليه الطريق في ممر المشاة، حاول تفاديه بالتوجه إلى رصيف المارة المزدحم، سمعها تخاطبه:” حصلنا على الأمواس و هيّ موجودة الآن في المخزن. لم ارك خلال الأسبوع لذا قررت الأحتفاظ بها لحين عودتك… ف”.
عرفها على التَو، لم يرها واقفة من قبل. كانت ترتدي معطفاً ضيقاً، مفصلاً على جسدها. صغيرة، بقوام جميل على غير عادة نساء جنسها. وجنتاها بلون المشمش الدافيء بسبب البرد. خداها غائران بحلاوة. بشرتها ناعمة، صقيلة تميل إلى صفرة خشب شجرة الماهوغاني.شعرها المجعد معقود بشريط من النوع الرخيص خلف ظهرها… تذكر انه شاهد هذا الشريط معلقا مع مجموعة الأمواس في المخزن. شكرها باستعجال فقد كان عائداً لتوه من رحلته محولا عبء ما يحمل من يدٍ إلى يد… انتبهت لذلك و صاحت : آسفة … بأمكاني الذهاب إلى المخزن سريعا و احضارها لك ان رغبت. كان واضحا له، ان الفتاة تريد الذهاب الى المخزن، لجلب الأمواس، حيث يقف. أجابها بصوت وديع، بعد تيقنه من حسن نيتها: اعيش في هذه الجهة في عمارة آتلانتيس السكنية. هل يمكنك جلبها إلى الشقة رقم 718 في الطابق السابع؟. لم تدخل سابقا إلى واحدة من هذه العمارات السكنية الفخمة القريبة من عملها… كان عليها بعد إنتهاء العمل، أخذ الباص ثم القطار، كل يوم، لحملها إلى غرب المدينة في المنطقة المخصصة للسود و الملونين من امثالها. كان في المدخل الرئيسي لبناية أتلانتيس، مسبح محاط بأشجار سرخس حقيقية و شلال صغير تسحب له المياه المتساقطة على الصخور، بواسطة الكهرباء. لم تأخذ المصعد الذي كتب عليه بضائع بل دخلت في مصعد البيض تتقدمها امرأة بيضاء مع كلبها ذي الأرجل القصيرة و الجسم الطويل، لم تعرها أي اهتمام. الممرات التي تؤدي إلى الشقق كانت جميلة مزججة،مهوّات.
اراد ان يدفع لها 20 سنتا أكرامية، لكنه فكر بأن عشرة سنتات مبلغ جيد لإمرأة سوداء.حين مَدَ يده بالنقود، صاحت: لا أرجوك، خًذ، دافعة يده بإرتباك من باب شقته المفتوح لإعادة ما تبقى من الفلوس التي اعطاها لشراء الأمواس. لأول مرة تبتسم لترفعها أخذ ما تبقى من النقود؛ كان من الصعب عليه فهم التعامل مع ناس هذه البلاد. احست بالحرج لرفضها أخذ النقود، إلا انها ظلت واقفة امامه بتواضع، دافعة يديها في جيوب معطفها الرخيص بسبب برد الشارع. كانت تتمتع بساقين طويلتين، ملفوفتين، متناسقتين، مِن الكاحل حتى الركبة.
– هل ترغبين بقدحٍ من القهوة أو شيء آخر؟ لم يأخذها إلى غرفة الجلوس التي كانت في نفس الوقت مكتبه ليقدم لها كأساً من الشراب. تبعته إلى المطبخ، في اللحظة التي ارادت فيها سحب الكرسي الوحيد في المطبخ لشرب قهوتها، قال لها: لا، أجلبيه هنا. تبعته إلى غرفة كبيرة حيث،كتبه و ورقياته و ملفات بحوثه العلمية.. كانت هناك أيضاً، علب سجائر فارغة ممتلئة بالطوابع، حامل أسطُوانات و عينات من المعادن و الأحجار، يبدو انه يعيش لوحده( هذا ما خطر ببالها).
لم يكن لديها مشكلة في انقاذه من التسوق، كانت تتبضع له مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع.. يكتب لها قائمة طلباته، ثم يضع المفتاح تحت ممسحة عتبة الباب. تذهب لأخذها فترة الغذاء و تضع المشتريات داخل الشقة، بعد انتهاء عملها. في بعض الأحيان، يكون موجودا في الشقة. في أحدى المرات، اشترى لها علبة حلوى مع ملحوظة، يعبر بها، عن إمتنانه لخدماتها..
طافت بنظرها أرجاء الشقة، حاولت جاهدة، السيطرة على أرتعاشة جسدها و أخفاء ما كانت تشعر به في هذا العالم الغريب. و لتجاوز حالة التوتر، تمسكت بحافة الكرسي الذي عرضه عليها. كان معطف الغريب، مُلقى على احد جوانبه و يبدو انه يبقيه على هذا الحال، لحين مغادرته الشقة.
– هل تهوى جمع الأحجار؟
– كلا، هذه عينات لها علاقة بعملي.
– كان من عادة أخي جمع منمنمات في داخلها قنانٍ للويسكي و البراندي، لبلدان و أماكن مختلفة في العالم.
في زيارتها الثانية… كانت تراقبه، يطحن القهوة لفنجانها.
– هل تفعل ذلك دائما؟ اقصد، عندما تهيء فنجان قهوة، لنفسك؟
– اجابها : بالتأكيد… ماذا؟ لَمْ تَعجبكِ؟ هل مذاقها حاد؟…
– انا غير متعودة على هذا النوع من القهوة ..نحن نشتري قناني القهوة الجاهزة، و نضيف عليها القليل من الحليب أو الماء.
– ضحك موضحاً: هذه لا تسمى قهوة. هذه نكهة مُصنعة. في بلدي لا نشرب إلا قهوة البُن الأصلي، الطازج. هل تشمين رائحتها الطيبة، بعد الطحن؟.
في أحد الأيام، دخلت البناية محملة بالأكياس، أستوقفتها المسؤولة و سألتها عما تفعله هنا… اجابتها بصدق، انها تعمل في الشقة رقم 715 في الطابق السابع. لم تطلب منها عدم استعمال مصعد البيض، ربما لأنها لم تكن سوداء جداً، فبشرة عائلتها تميل قليلاَ، إلى البياض.
كان ضمن قائمة المشتريات زرار رمادية.. طلبت منه، ان يعطيها بنطاله لخياطة أحد أزراره..جلست على اريكته المتسخة، المغطاة بالتبغ المتساقط من غليونه. كانت منهمكة بصمت، في غرس و أخراج الإبرة من الثقوب الأربعة، بقدرة و براعة. لم تعجبه، فُرجْة سنيها الأماميين حين تضحك التي ذكرته بالفلاحات، تجاهل ذلك و واصل تأمل، زاوية وجهها، شفتاها الرقيقتان المزمومتان، و نظرتها المركزة على ما تخيط. لم يستطع مقاومة رغبته في لمسها. أقترب منها و قال: انت فتاة طيبة.. و امتدت يده تتحسس، ثنايا جسدها الغض………
كانت تقوم بإعادة ترتيب الفراش عند مغادرتهما السرير مساءً، ترتدي ملابسها ثم تذهب إلى البيت. مر اسبوع على هذا الوضع .. في أحدى المرات نسيا نفسيهما في الفراش بعد ان حل الظلام…
– هل يمكنك قضاء الليلة هنا؟
– و أمي!
– أتصلي بها و حاولي ان تجدي عذرا. رغم انه يعيش في هذا البلد، ما يقارب الخمس سنوات، إلا انه كان مستغربا، عدم امتلاك هؤلاء البشر هواتف في بيوتهم!!. قفزت من الفراش لأرتداء ملابسها. كان لا يريد لهذا الجسد الغض ان يغادره، في هذه الليلة الباردة…حاول إعاقتها بصمت، لكنه لم ينجح… قبل ان تضع معطفها و يغيب جسدها عن ناظريه قال: عليك ان تقومي ببعض الترتيبات بشأن وضعنا.
– و أُمي؟ .. لم يستطع فهم الخوف الذي ملأ وجهها! لأنه لم يكن مقتنعا، ان والدتها تظن ابنتها، ما زالت عذراء!! ..
– ماذا؟
– انها خائفة .. خائفة ان يمسكونا.
– لا تخبريها أي شئ، قولي لها انك تعملين عندي. “كانت العادة في جوهانسبرغ، بناء غرف للخدم في سطح البناية”.
– اجابت:هذا ما قلته لمسؤولة البناية.
كانت تطحن له حبوب القهوة الطازجة حين يطلبها اثناء انغماره في عمله، مساءً.لم تطبخ له، بل كانت تتابع بصمت، طريقة تحضيره الطعام و مِن المراقبة تعلمت طبخ اطباقه البسيطة، المفضلة.
تناولت بعض قطع الصخور و الحجر، و أثنت بإعجاب على جمال ألوانها: بأمكاني، عمل خاتم أو عِقد منها، أليس كذلك!. بدأ يعرفها بالأحجار التي يمتلكها، عن الثلم والخطوط على سطحها و تاريخ تكون كل قطعة، منذ بدايات نشوء الأرض.سمى لها المعادن، بأسمائها، وشرح فوائدها و استعمالاتها. كان ينهمك بالعمل في ورقياته، يكتب و يكتب و يكتب، حتى ساعات متأخرة من الليل، لذا لم يكن لديه الوقت، للخروج معها إلى الأماكن العامة. أخذها في أحد أيام الأحد بسيارته التي كان يركنها عادة، في قبو العمارة، في نزهة إلى (ماغاليسبرك)، حيث لا يراهما أحد. كان ينكز الصخور و يتفحصها بنظره، أثناء السير.تسلقا الجبل للتمتع بالبحيرة النائمة في أعى قمة الجبل و لون مائها الأزرق الصافي.علمها السباحة، لم ترَ البحر سابقاً، كان يراقبها، تزعق وتصرخ عاليا في الماء، كاشفة عن فَجوة سنيها… يبدو انها تتصرف بنفس التلقائية و الفرح، حين تكون بين أقرانها( هذا مادار في ذهنه في تلك اللحظة).
كان أحياناً، يلبي دعوات الغذاء في بيوت اصدقائه الذين يعملون معه في شركة المناجم. عندما لا يكون في البيت، تقضي وقتها في الحياكة و الإستماع للمذياع، و يجدها نائمة، دافئة في الفراش حين يعود..ينسل إلى جانبها، يضاجعها دون كلمات، فيستجيب جسدها له، بصمت. كانت تراقبه في أحدى المرات، ينفض بالفرشاة، بعض الشعرات المتساقطة على كتفي بدلته السوداء الأنيقة، المفصلة على جسده، لحضور، دعوة العشاء في قنصليته…. تخيلت نفسها تجلس بجانبه في السيارة، لمرافقته إلى الحفل…..صالة ضخمة، تتدلى منها الثريات و الحضور يرقصون بملابسهم الأنيقة متشابكي الأيدي، كما يحدث في الأفلام السينمائية. لم يحدث، ان قَبَل احدهما الآخر عند مغادرة الشقة… وقف امامها لبرهة بعد ان وضع علبة الدخان و المفاتيح في جيبه، قائلاً بلطف: ” أرجو ان لا تشعري بالوحدة” ثم أضاف: لِم لا تذهبي لزيارة عائلتك، حين أسهر خارج البيت، في بعض الأحيان؟.
لم تحدثه عن القصة التي أختلقتها لوالدتها، بشأن عملها. أخبرتها، انها تعمل مساعدة طبيب جراح خلال النهار، و عند المساء، تذهب إلى بيته لمساعدة زوجته الطيبة التي كانت بمنتهى السعادة، في الحصول على فتاة تساعد زوجها صباحاً في العمليات الجراحية و تتولى في المساء، تدبير شؤون الشقة و الأولاد.
كانت تُدهشها قدرته على العمل إلى ما بعد منتصف الليل و الإستيقاظ مبكراً إلى عمله. لأنها تعود من عملها، مجهدة لدرجة الإعياء، بالكاد، تستطيع مغالبة النوم أثناء العشاء، لذا تذهب، مبكرة لفراشها. حاول ان يشرح لها بطريقة مبسطة، تستطيع فهمها، ان عملها الروتيني لا يتطلب الكثير من الجهد الفكري و الجسدي، لذا فهو غير مجز، في حين عمله يمنحة الكثير من المتعة و الإثارة و يتطلب منه أستخدام اقصى قدراته الفكرية و الذهنية، لفك معضلات لا يستطيع آخرون حلها. خرج من صمته بعد ان وضع اوراقه جانباً: هل مارست أعمالاً أخرى، سابقاً ؟”.
– أجابت : كنت اعمل في معمل، لخياطة القمصان الرجالية، ولم يكن الدفع جيدا كما في عملي الحالي.
في البلدان التي عمل فيها، كانت قراءة الجرائد اليومية تشكل أهمية كبيرة له ليتعرف على ما يدور حوله، لذا كانت لديه فكرة واضحة عن محلات بيع القمصان التابعة لمصانع تجارة المفرد، حيث كانت تعمل سابقأ. قرأ مؤخرا أنهم بدؤا بتعيين الملونين، كمساعدين في محلاتهم، لذا فمن غير المستغرب مستقبلاً، لعاملات أمينات الصندوق من أمثالها، ان يتقدمن في التدرج الوظيفي بسبب استمرار تناقص عدد البيض من ذوي المهارات المتوسطة، لينظممن فيما بعد، لذوي الياقات البيضاء.
بمساعدته، بدأت تتعلم الضرب على الآلة الكاتبة. كان يعرف جيداً ان انجليزيتها ركيكة، و كأجنبي، لم تكن طريقة لفظها تخدش أذنه أو تدفعه للحط منها و إدراجها في” قوائم تصنيف الفئات الإجتماعية” التي يقوم بها للأسف، أشخاص بمستوى تعليمه من الناطقين بالأنجليزية،(لغتهم الأم ).
كان يصحح أخطاءها النحوية والأملائية، برحابة صدر، لكنها أستمرت باستعمال ضمير المفرد”هو”،لدلالة الجمع “هُم”. كان متساهلاً معها، لأنه كأجنبي، ما زال يخطيء. هذا ما دعا بها إلى عدم الشعور بالإحباط، أمام هذا الرجل الذي كان بنظرها، غاية في الذكاء.
في احدى ليالي الصيف القريبة من “احتفالات عيد الميلاد”، اشترى لها ساعة جميلة، ملفتة للنظر، كان يعلم انها ستعجبها و خبئها للمناسبة. كان منهمكا في عمله، حين سمعا دقات قوية على الباب، دفعت بها الخروج من الحمام و أقتضاه النهوض من كرسيه. لم يأتِ احد سابقا، في مِثل هذه الساعة و لم يكن له اصدقاء مقربون يأتون للزيارة دون اعلان. تواصلت الدقات، بقوة و اصرار دون توقف، مما حدا به التوجه لفتحها.
هرعت من غرفة النوم حافية القدميين، عارية، عاجزة عن الكلام أو حتى الهمس.كانت الشقة ترتج بسبب الضربات القوية المتتالية. قبضت على ذراعيه بقوة، هازةً رأسها بعنف، شفتاها متدليتان و اسنانها تصطك من الرعب. جرجرته إلى غرفة النوم، اختطفت بعض الملابس النظيفة التي كانت منثورة على الفراش.. دخلت دولاب الحائط و وضعت المفتاح في كفه. رغم الضعف و البرودة التي بدأت تدب في فخذيه و ذراعية، إلا ان رؤيتها مختبئة، تحت معطفه و بدلات ملابسه المعلقة،جعلته يشعر بالغثيان و التقزز..
– صرخ بهمس: أُخرجي.. لا يجوز .. أُخرجي ..
– اجابت بصوت اشبه بفحيح الأفعى: أين؟ أين يمكنني ان أذهب؟.
– غير مهم. أخرجي الآن..
مد يديه ليسحبها من الزاوية التي حشرت نفسها فيها.. اطلقت همسة رعب من فُرجه أسنانها: سألقي بنفسي من النافذة، ان فَعلت.
وضعت المفتاح في كفه بالقوة، مثل مقبض سكين. اقفل باب الدولاب و رمى المفتاح مع خردة النقود في جيب سرواله.
توجه إلى الباب، رفع المزلاج المتدلي ثم أدار قفل الباب. كان هناك ثلاثة رجال شرطة، اثنان منهما بملابس مدنية يقفون بهدوء( لكأنهم لم يدقوا الباب، بعنف قبل دقائق). قدم له الرجل الضخم الداكن البشرة ذا الشارب المعقوف يلبس في اصبعه خاتماً مجدولاً ذهبي اللون، بطاقته الشخصية.
– شعر د. فون لينسدورف بأن الدم بدأ يدب في ساقيه و ذراعيه مجدداً و استفسر: ما الأمر؟.
– أجاب الرقيب : نحن نعرف ان في شقتك فتاة ملونة… لدينا معلومات تؤكد ذلك .. انا نفسي ،كنت اراقب شقتك في الأشهر الثلاثة الأخيرة.
– انا وحدي في الشقة . اجاب د. فرانز دون ان يرفع صوته.
– نحن نعرف من عندك .. ثم اومأ لمساعديه الدخول و تفتيش غرفة الجلوس ، المطبخ و الحمام.. اخذ النقيب بيده زجاجة ( كولونيا)، وتمعن في علامتها الفرنسية، توجه بعدها إلى غرفة النوم. رفع مساعداه ملابس الكوي النظيفة الملقاة على الفراش. قلبا حشية الفراش على الوجه الآخر و أخذا الشراشف إلى الرقيب ليفحصها عل ضوء المصباح. تحدثوا بينهم باللغة الأفريقية التي لا يفهمها د. فرانز. نظر النقيب بنفسه تحت السرير و رفع الستائر الطويلة. لحظ ان باب دولاب الحائط التي كانت دون مقبض، مقفلة. تكلم مع مساعديه باللغة الأفريقية ثم تحول إلى الإنجليزية مخاطباً، د. فرانز: اعطنا المفتاح.
– آسف تركته في مكتبي. من عادتي قفل الأشياء قبل الخروج، و اخذ المفاتيح معي إلى المكتب.
– هذا الكلام لا يفيد.. الأفضل ان تسلمني المفتاح.
– ابتسم بحصافة وقال: انها على طاولة مكتبي في الشركة.
وقف يراقب المساعد يخرج المفك و يضغط بحزم بين ظلفتي باب الدولاب .. سمع بعدها تكة القفل، ينفتح.
نعم. كانت عارية حين طرقت الشرطة الباب، لكنها تمكنت من خطف بعض الملابس من على الفراش عند مداهمة الشرطة للشقة لتستر نفسها. و ها هيّ الآن، تقف امام الطبيب، حافية القدمين، ترتدي بنطلوناً من الجينز و قميصاً بأكمام طويلة، أحد جوانب الصدر مطرز بفراشة من القماش.كانت مكتئبة حزينة، و يبدو انها لم تتوقف عن البكاء داخل الدولاب، أثناء التفتيش، لأن آثار الدموع المتيبسة على خديها، كانت واضحة. كانت تتنفس بصعوبة، لربما بسبب انقباض و توسع حجابها الحاجز غير الطبيعي و التصاق صدرها بقميصها،كان سببه، نقص الأوكسجين، حيث كانت تختبيء. كان وضعها النفسي المزري، يعكَس بوضوح، مشاعر الغضب التي تعتمل في داخلها. لم تنظر إلى د. فون لينسدروف و لم تجب على اسئلة رقيب الشرطة.
تم نقلهما إلى مركز الشرطة و فصلهما و اقتيادهما بالدور إلى غرفة الفحص الذي اجراه طبيب المنطقة. أخذوا ملابس الرجل الداخلية و الشرشف لمعرفة ان كان هناك مَنِيّ. حين خلعت الفتاة ملابسها، وجدوا، انها كانت تلبس قطعتين من الملابس الداخلية الرجالية، أسم د. فرانز خيط بعناية، على علامة الكوي . يبدو انها بسبب العجلة و ظلمة الدولاب، حيث كانت تختبيء، لبست الملابس الداخلية الخطأ. تظاهر طبيب المنطقة بكياسة، أنه لم يلحظ، ذلك. كانت تقف امامه تبكي، محرجة، بملابس رجل داخلية. طلب منها الطبيب ان تتعرى و تستلقي على الشرشف الأبيض و تفرج ساقيها. أدخل بينهما آلة صلبة باردة بدأت تنفرج أكثر فأكثر في داخلها. لم تتمكن من السيطرة على رجفة، فخذيها وساقيها وهو يولج أجهزة صلبة أخرى محملة بالشاش الأبيض،اعمق فأعمق. حين خرجت من غرفة الفحص الطبي إلى مكتب الإستجواب لم يكن د. فون ليسيندروف موجودا. لربما أخذوه لمكان آخر. قضت ما تبقى من ليلتها في زنزانة و يُحتمل انهم فرضوا عليه العقوبة، نفسها. اطلقوا سراحها في الصباح الباكر و نقلها رجل ابيض بسيارة، إلى حي الملونين حيث تسكن والدتها، أوضح لها في الطريق، انه يعمل في مكتب المحامي الذي عينه د. ليسندروف للنظر بقضيتها ايضا و أنه تم اطلاق سراح د.فون ليسندروف في الصباح، لكنه لم يذكر لها متى أو ان كان بامكانها رؤيته مرة اخرى.
ذكرت الفتاة في الشهادة التي قدمتها للمحكمة عند وقوفها امام القاضي، بتهمة اخلالها بالآداب العامة التي تتعارض مع مواد ” قانون الجرائم الجنسية”، في جوهانسبرغ: “في ليلة التاسع عشر من كانون الثاني: عشت مع الرجل الأبيض في شقته، كنا نمارس الجنس في بعض الأحيان و كان يزودني بحبوب منع الحمل”. كما و صرحت الفتاة لجريدة الأحد: “عن مدى أسفها للحزن الذي سببته لوالدتها …فهيّ واحدة من أصل9 أخوان و أخوات. اضطرت لترك المدرسة في الثالث الإبتدائي، لأن والدتها( عاملة المكوى الفقيرة) لا تملك ما يكفي من النقود لشراء، ستر مدرسية و ملابس رياضية لأولادها. تشتغل في الوقت الحاضر، عاملة في مصنع إضافة لعملها بائعة في مخزن. علمها د. فرانز، طبع ملاحظاته على الآلة الكاتبة.
اصدر الحاكم قراراً بتبرئتهما لأن السلطات العليا اخفقت في تقديم أدلة، تبرهن وجود علاقة جنسية بينهما في شقته، في ليلة التاسع عشر من شهر كانون الثاني.
كتبت الصحافة، ان د. فرانز- جوزيف فون ليسندروف، ينحدر من عائلة نبيلة، جدته”بارونة”، رجل ذو ثقافة عالية و يعمل في المعهد الدولي للبحث و التنقيب عن المعادن. يؤمن بالتمايز الطبقي لكنه يرفض تطبيقه قانونيا.”في مسقط رأسي، من الصعب على شخص مثلي الزواج من طبقة ادنى”.
لم يسلمَ أو يتكلم المتهمان مع بعضهما في المحكمة كما ولم يعترفا بوجود علاقة بينهما. و أعتبر محامي الدفاع، إفادة رقيب الشرطة مِن أنهما:”كانا يعيشان معاً كزوج و زوجة” ووصفهما “مدبرة بيت مع كلب الماني”،مجرد هرطقة. قام الحاكم بتبرئتهما، لأن السلطة اخفقت في تقديم أدلة، تبرهن على وجود علاقة جنسية بينهما في شقته، ليلة التاسع عشر من شهر كانون الثاني.
صرحت الأم مع صورة مرفقة لها على أحد صفحات، جريدة الأحد:”بأنها لن تسمح لإبنتها العمل، بعد اليوم، خادمة في بيت رجل أبيض”.
_______________________________
* الصورة لنادين كًورديمر، بكاميرا الشاعر سعدي يوسف في نيويورك
*”قدمت هذه المرأة من خلال اعمالها الملحمية، خدمة عظيمة للإنسانية”.ألفريد نوبل
كاتبة، ناشطة سياسية و حائزة على جائزة نوبل عام 1991. ولدت في مدينة صغيرة للمناجم تسمى”سبرنكَس”، في جنوب أفريقيا، عام 1923. كانت من عائلة يهودية مهاجرة. بدأت الكتابة في سن مبكرة و نشرت أولى قصصها عام 1937، وهيّ في سن الخامسة عشرة .. كانت تعتبر نفسها من الأقليات البيضاء في نظام جنوب افريقيا العنصري، هذا الشعور أثار عندها، الكثير من التساؤلات حول هويتها، فيما بعد. أنتقلت عام 1948 إلى جوهانسبرغ. اعتقال اقرب صديق لها شجعها الالتحاق بالحركة المناهضة للفصل العنصري وانضمامها إلى المؤتمر الوطني الأفريقي خلال الأيام التي تم فيها حظر المنظمة. كانت صديقة مقربة لِ “نيلسون مانديلا”.
تناولت في كتاباتها القضايا الأخلاقية و العرقية و على وجه الخصوص (التفرقة و الفصل العنصري)، لذا مُنعت بعض اعمالها: مثل (أبنة برغر و شعب يوليو). هذه القصة القصيرة التي تقع أحداثها في المدينة هيّ الجزء الأول من قصتين منفصلتين، تناولت فيهما، موضوعة الحب بين الأعراق للذين يتجاوزون حدود قوانين الأعراف و التقاليد المرسومة لهم و تحمل تبعاتها المأسوية، لاحقاً.