عن تلك النجمة السريّة التي تضيء الشّعر

جيرار لوغويك
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مختارات قصائد للشاعر الفرنسي جيرار لوغريك

 ترجمة وتقديم: خالد النجار

يعد جيرار لوغريك من أجمل الأصوات الشعرية وأكثرها غنائيّة في فرنسا منذ السبعينات والثمانينات. في تلك الحقبة التي انفجر فيها الخطاب الشعري الفرنسي، وخرج عن سلطة الآباء نهائيا. بعد حركتي الدادا والسريالية في العشرينات التي ثورت جذريّا الكتابة الشعرية والسرديّة مستفيدة من عطاءات التيارات اللاعقلانية في الفكر الغربي التي مثلها نيتشة وأدبيات الوجوديين ومنجزات التحليل الفرويدي التي كشفت قارّة اللاوعي الغامضة والسريّة والفاعلة في وجودنا…

بعد كلّ هذه الانجازات

 يجيء جيل جيرار لوغريك في النصف الثاني من القرن العشرين ممثلا لحرية سعيدة، وليست مقاومة أي أنّها ليست ردّة فعل لعالم ضاغط وإنّما هو التعبير الفرح والسعيد عن لا نهائيّة الوجود بأشكال تعبير لانهائية. مستعيدا بذلك الغنائية التي افتقدها النصّ الشعري الفرنسي بعد الحربين ذاك النصّ الذي تحوّل وخاصة في ستينات القرن العشرين على ايدي الأساتذة الأكاديميين ومنظري الحداثة ممثلة في جماعة مجلة  TEL QUEL تال كال المتشكلة من فيليب سولرز وميشال دوغي وجون بيير فاي  تحول إلى تمرين لغوي خاو من أي حس شعري إلا ما ندر… غطى التنظير لدى هؤلاء الأساتذة على الابداع، واختفت من نصوص هؤلاء الشعراء المنظرين والمهووسين بالتحديث تلك النجمة السريّة التي تضيء الشّعر… لم يخرج من مجلة تال كال شاعر مهم وكانوا محل نقد الشعراء غي غوفيت وجون لومير ولوران غسبار، وجاك ريدا وبرنار مازو، وجماعة مجلة  POESIE 1

في حوار لي مع برنار مازو عبّر عن هذا الموقف للشعر المتعالم بقوله:

رغم تباين التيارات والمشارب الشعرية اليوم في فرنسا، فثمة قطيعة بين الشعراء الجامعيين وبقية الشعراء؛ أريد أن أقول أن مقدمة المشهد مشوشة بجماعة من الأكاديميين، و من الشعراء النجوميين ممن يكتب قصيدة مضادة للشعر تزيد في تعميق القطيعة القائمة بين القصيدة والقارئ المتلقي.

وفي حوار آخر مع غي غوفيت  كنت أجريته معه في دار غاليمار حيث يشرف على سلسلتها الشعرية العتيدة أبدى نفس السخرية من هؤلاء الأساتذة المنظرين المتعالمين وإن لم يذكر الأسماء ولكنه عني الجماعة التي التفت حول مجلة تال كال tel quel  وتال كال هو عنوان أحد كتب بورل فاليري.

في أحد الأجوبة يقول غي غوفيت:

ومع ظهور القرن العشرين وخاصّة في نصفه الثاني شهدنا ظهور أعداد كبيرة من المدرسين يكتبون شعرا بلا حسّ وبلا روح. أجل صحيح أن الشعر يكتب بالألفاظ بيد ان هؤلاء يكتبون الشعر انطلاقا من الأفكار. لا نستطيع أن نكتب قصيدة إذا لم نعش التجربة. يجب أن نعيش أوّلا ثم نكتب هذي بديهة… أنت تتذكر ريلكة في تلك الصفحة الجميلة التي جاءت في كتابه “رسائل إلى شاعر شاب ” والتي يقول فيها: عليك قبل أن تكتب الكلمة الأولى أن تكون قد رأيت كثيرا وعشت كثيرا…   إلخ

وقد أدخلت مجلة شعر اللبنانية وبحس كولونيالي دوني في ستّينات القرن الماضي وعن طريق ترجماتها هذا الهوس المرضي بالحداثة واعتناء بالتنظير على حساب الابداع ولم يترك جماعة شعر أيّ منجز شعري يعتد به سوى بعض القصائد هنا وهناك… وأدونيس نفسه كان سؤالا شعريا مهما أكثر منه انجازا شعريا… بل كان لمجلة شعر دور تدميري نرى من نتائجه اليوم هذه السهولة التي يكتب بها كثير من الشعر هو في حقيقته بناء لغوي يعتمد شكلا من البلاغة الخاوية ويمارس الغموض من أجل الغموض… شعر بلا معاناة ولا رؤية للعالم. طبعا ثمّة استثناءات ولكن لابد لك من البحث عنها…

مع جيرار لوغريك وبعض مجايليه تعود للشعر الفرنسي حيويته الغنائية بعيدا عن الأكاديميا والتنظير الذي يمثله اليوم ميشال دوغي لأن التنظير مهما ارتقى لا يصنع شعرا… في حين أن العكس صحيح فالشاعر قد يبتدع من خلال ممارسته نظرية للخلق الشعري كما هو شأن شارل بودلير، ورامبو، ووليم بطلر ييتس، وراينر ماريا ريلكة، وباوند، وت. س. إليوت وجورج لويس برخس، وكل تلك النصوص التي كتبوها حول تجاربهم الشعرية وحول ماهية الخلق الشعري …

***

لماذا جيرار لوغويك؟ لأنه شاعرٌ يمسّك لدى قراءته في مكان من نفسك غامض وحقيقي…

يمسّك بكلمات بسيطة مقتصدة أعادت للقصيدة الفرنسية عنفوانها كمساحة للغناء والكشف. كما احتفظ في قصيدته بالمتعة التي تمنحها لنا النصوص الحقيقية، متعة افتقدتها كثير من الأشعار التي تُكتَب اليوم، وخصوصاً في فرنسا.

لوغويك صوت مفرد سرّي ومخاتل أعاد، مع أسماء مثل غي غوفيت، وجاك ريدا، وكريستيان بوبان، للشعر الفرنسي حيويته وغنائيته التي افتقدها عندما غلب التنظير والتجريد والهوس بالتحديث على الكتابة الشعرية. التلقائية.

جيرا لوغويك شاعر ملتبس وغامض بوضوح. يقف متفردا في مكان ما من العالم خارج المدارس والتيارات لولا تلك المسحة الغنائية التي تسربت إليه من مناخات الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر…
يبد وهذا الشاعر كما لو أنه يأتي بقصائده من لا شيء، من قبعة ساحر أومن رياح البروتاني… فكل ما يكتبه غامض بيد أنه حقيقي ومقنع …
جيرار لوغويك يكتب القصيدة التي لم يعد لها من مرجع سوى نفسها، سوى جسدها اللغوي. ليس لقصيدته قالب خارجي تسوي نفسها على مثاله وفي غياب المرجعية صار الشاعر أكثر عزلة إبداعية وتوحدا صار الشاعر مطالب بخلق مرجعيته الذاتية في عالم فقد المعنى كما يقول جورج شتاينر

لأنه لم يعد النص الحديث يحمل مقاصد مبدعه إلا نادرا… وتكمن قوته في مدى اقناعه للقارئ الذي يفككه ويعيد خلقه بشكل اعتباطي هكذا صارت القراءة أيضا إبداع… اختفت معقولية العالم الأرسطي المنظم.يستعيد جيرار لوغويك في شعره روابط عالم اندثر ولا تزال صوره وأحاسيسه ثاوية في ظلمة أعماقنا السحيقة؛ في عقلنا البدائي القديم والمنسي… روابط نحسها ولا ندركها. روابط بين الأشياء المتباعدة فهو يرى في الحجارة وعي كما كان يعتقد أسلافنا الاحيائيون قبل ملايين السنين.

كل حصاة هي صوت متوقف،

كل حجر هوتفكير رجل مات

كل كتلة هي حلم

ما يزال يتحقق.

… وأنت ولدى قراءة قصائده التي تبدو أول وهلة سريالية تستشعر لذة حقيقية وغامضة في الآن فهو يعيش في غرف جدرانها من ماء البحر، ويتساءل عن العصفور المنبهر والذي لن ندرك أبدا ما الذي يدهشه… ويتساءل هل الساعة تدرك الزمن الذي تقيس… شعر هو أقرب إلى عالم التشكيل وعالم الموسيقى حيث الأشكال الغامضة هي المعنى الحقيقي؛ الشكل الخارجي الموضوعي هو الحقيقة والمضمون في الآن. هكذا تبدو جماليته الشعرية كما لو كانت التحقق الموضوعي لمقولة أدرنو من أن الشكل في الفن هو الحقيقة مما يمنح القارئ حرية التأويل التي في جوهرها اعتباطية…

في قصائده نكهة شرقيّة، فيها شيء من الارث الغنائي الفرنسي ومن تأمّل شاعر الهايكو الذي يأسر العالم وصمت العالم أقول باختصار لانهائيّة العالم في كلمــات مقتصدة وبسيطة تمس الانسان… وتفعل شيئا فيه…

***

منذ بودلير الذي كان على علاقة مشاركة ابداعية مع الرسام أوجين دي لاكروا بدأ الشعر يقترب من عالم التشكيل… انزاح الشعر فيما يبدو عن عالم الأدب لينتمي لعالم الفن التشكيلي هي حروف رامبو المعبرة عن الألوان… هو كل هؤلاء الكتاب والشعراء الذين استشعروا تمازجا تلقائيا لديهم بين التعبير الشعري والتشكيلي من هرمن هسة إلى هنري ميلر وجون كوكتو إلى ميشال بيتور الذي كان يمارس الكولاج والذي وضع نصوصا شعرية كثيرة مع الرسامين إلى نحوت يانيس ريتسوس الذي وقصائد ريتسوس التي يراها  أراغون تحقق شعري لرسوم الفرنسي هنري ماتيس… ايتل عدنان الفنانة والشاعرة العالمية مثال بارز في ثقافتنا العربية المعاصرة على التعبير عن اللغات الداخلية كما تسميها حيث يتشاكل الرسم مع الشعر.

جيرار لوغويك مضى بعيدا في التماهي مع عوالم الرسامين ومع إشكالياتهم لأنك لن تقرأ اللوحة خارج جسدها…
وكذلك هي قصيدته لولا تلك الغنائية التي تحدرت إليه من شعراء آخر القرن التاسع عشر الفرنسي ما يعني أيضا أنه ظل في تجديده وفيا إلى روح الشعر منذ الاغريق الشعر الذي هو وفي عمقه السحيق غناء…

***

وهو الشاعر القادم من البلاد التي لا تزال تسير على وقع خيولها القديمة؛ وتتكلم لغة أمطار ما بعد الصيف. هكذا يعرف جيرار لوغويك نفسه بصور شعرية بيد أنه لم يولد في بلاد الأمطار تلك ولد في باريس سنة 1936 في الدائرة الرابعة عشرة حيث كانت تقيم عائلته البريتانية. عاش هناك إلى أن غادر إلى إفريقيا. ثمة لقاءات أساسية في حياته. التقى في المدرسة بالشاعر موريس فومبور الذي كان أستاذه… وأثناء تأديته للخدمة العسكرية في الجزائر ربطته علاقة بالشاعر الفرنسي ماكس ألهاو وبالرسام جاك روكييه. من سنة 60 إلى 1969 ومثل رامبو قادته أعماله التجارية إلى افريقيا. تنقل في القارة السوداء من التشاد حيث التقى أثناء عبوره بالكاتب الفرنسي هنري كيفلاّك وربطته به علاقة طويلة… ثم إلى الكنغو وإلى الكامرون وإلى بنغي في افريقيا الوسطى… ولكن كان دائما يعود إلى بلدته في منطقة البروتاني التي يشده إليها خيط الشعر السري : لغة الأمطار وإيقاع خيول الشمال … في 1969عاد نهائيا ليستقر في البروتاني حيث أسس دار نشر تيلن آرفور بما يعني في لغة منطقة البروتاني قيثارة الحب. والاسم مستوحى من عنوان ديوان الشاعر أوغست بريزو…

الشاعر والمدينة

أعاد جيرار لوغويك للقصيدة التي اغتربت عن الناس قدرتها السحرية على التواصل مع القارئ. وأنت تجده يقرأ أشعاره في كل مكان؛ في المكتبات والمدارس وقاعات الجمعيات الأدبية والمهرجانات، في تواصل سعيد مع الناس وهو لا يتعامل مع العالم الرقمي، لا مع الإنترنت ولا المواقع الاجتماعية، لأن هذا التواصل التقني الرهيب والتجريدي قضى على التواصل الإنساني الحميمي الدافئ والحقيقي.

أعماله

لجيرار لوغويك سبعة وعشرون كتابا شعريا وخمسة وعشرون كتابا نثريا تتوزع بين الرواية والسيرة الذاتية واليوميات والقصص القصيرة. نال جوائز كثيرة من أهمها جائزة أنطونان أرتو ونقلت أعماله إلى لغات عدة منها كتابان إلى الألمانية…

من إعماله الصادرة حديثا  “في بلاد جورج بيروس” عن “دار الجبال السوداء للنشر “، وفيه يروي قصّة علاقة جمعته مع الكاتب الفرنسي الراحل جورج بيروس (1923-1978). حشدٌ من الذكريات والأقاصيص والأحاديث والحوارات الفكرية. الكتاب نص دافئ حميمي بعيد عن أي تنظير أكاديمي أومتفيهق. يقدّم بيروس في حياته اليومية العادية، بعيداً عن الأساطير التي يُلفّ بها عادةً الكتّاب بعد غيابهم. يفتتح الكتاب بمشهد نهائي بلقطة سينمائية؛ مشهد ذلك اليوم الذي وَجد فيه لوغويك نفسه تحت المطر ووسط العاصفة مع أصدقاء بيروس في مدينة دوارنينيز وهم يوارونه الثرى في المقبرة البحرية.

و”باستيار” هوعبارة مجموعة نصوص يحتفي من خلالها بحيواناته الأليفة وخاصّة القطط تلك الكائنات العجيبة التي صحبت الانسان عبر آلاف السنين حتى نسيت أنها من فصيلة الحيوانات. القطط التي شغلت مكانا في الأدب الفرنسي نتذكر قطط بودلير ومالارمي وضمن هذا التقليد يكتب جرار لوغويك عن قططه: “أحبّ القطط التي تشاركنا تلك الحاجة إلى العزلة والصمت والانطواء والمودّة… القطّ في المنزل يعني الإخلاص والمتعة والدفء والخيال”. هكذا يمضي في سرد شعري يسجّل تردّدات وذبذبات عوالم الحيوانات في أنفسنا… وهذا يرتد بي إلى الجاحظ؛ أول من احتفى بالحيوان في الأدب العربي.

كما صدرت له مختاراتٌ من قصائده مترجمةً إلى العربية عن “دار التوباد” في تونس؛ مختارات تمثّل أهمّ اللحظات الشعرية في مسيرته، قصائد مستلّة من مجاميعه: “ساعة كل يوم”، و” ثلاث قصائد لأزمنة الماء الثلاثة”، و” أودّ لوأن شخصا ما… “.

خالد النجار

****

جغرافيا النّهر

الساعات لا تقاطع النّاس

والأيّام لا تشطر الأنهار

 

هي حركات لا يمكن سماعها

*

هل هي الأبديّة؟

ما يبقى من النّهر

عندما لا يبقى شيء

لا الكلمات ولا البحر

*

النهر لا يمضي

من مكان إلى آخر

 

إنّه يمضي من ذاته إلى ذاته

*

النّهر جواب

 

يبقى أن نكتشف

من طرح السّؤال     

*

النّهر

يجهل البحر

 

والحال أنّه

لا يفكر إلاّ في البحر

 

شاعر

قال الشاعر لطفله

سأختطف لك فراشة

 

وإن شئت

ضفدعة زرقاء

وان ظللت هادئا

صرصارا وشحرورا

 

اصطد لي شاعرا

قال الطّفل

فسوف نحرّره

من سجن الورقة البيضاء

*

أوّل أيام الرّبيع

أوّل يوم في الرّبيع

على البحر

 

أكتشف وأنا شارد الذهن

صباحا شبيها بالصباحات الأخرى

 

دون أن أدري بما تغيّر

بالنّسبة ليوم البارحة

 

ربّما عمق الهواء

الصّافي والذي لا لون له

 

ربما بيوت الشاطئ

التي تدور على مدارها نحو البحر

 

في نهار الرّبيع الأوّل

فوق البحر

 

ألاحظ في غياب التجعدات

على سطح الماء وفي النظرات

 

وبالخصوص كلمتان أو ثلاث كلمات

لا أكثر

 

توجه لي جملة مفيدة

من تسامح ومحبّة

**

تضمين

ستارة تخفق

أهي يد من ورائها

وجه أم نظرة

أهي خاطرة أم هي روح

أم هو تنفس حياة موعودة

 

كان شيئا حقيقيا

ها هي خمسة آلاف او عشرة آلاف سنة مضت

فكيف سيكون الغد

إذا لم نغذّ أحلامنا

و لم نعد نسكن الشعر

***

كتابة أولى

قد تكون هناك بلاد

فيما وراء التلال

فيما وراء الجزر

وحتّى في أعماق السماء

 

تحمل أسماء

معروفة فيما مضى

في القواميس

وفي قلوب المسافرين

**

كتابة ثانية

قد توجد بلاد

فيما وراء تلالنا الملوّنة

وأبعد حتّى من رغباتنا

عابرين الخط الرفيع

 

بلاد تحمل تلك الأسماء

التي قرئت تحت المطر فيما مضى

في كتب الحكمة

وفي قلوب الأصدقاء

**
سجِلُّ شجرةِ التّفّاحِ الحميم

1
لا مطرَ يتبخر

إلاّ ويترك وراءَه
شجرةِ تفّاح

2
شجرةٌ تبْعث الطُّمأنينةَ
لدى العودةِ إلى البيت
شجرةُ التفاحِ تتعرَّف علينا
عندما يكون البيتُ ما يزالُ نائما
عندما يبدِّد كلبُ زمنِ الطفولةِ
روائحَنا

3
توقَّفَّت شجرةُ التفاحِ
فوق الأراضي المجاورةِ للبحر
بلا سببٍ آخرَ سِوى أنها
تعتبِر نفسَها إحدى حَوارِيِّي أعالي البحار

4
تخيَّلوا جسدا
كان قد نسِي
بين أوردتِه و عروقِه
وأوتارِه
أن يمتلئَ بالعضلات
لصالحِ الجسدِ الحلميِّ

5
في رداءِ
المرجِ
تخْتلِجُ شجرةُ التفاح
في المكانِ الذي يرتفِع فيه
القماشُ

6
عندما لا يكون المشهدُ
منغلِقا
يحتاج شجرةِ تفاحٍ
ليوقفَ هروبَه

7
نتقدَّم داخلَ الضبابِ
و فجأةً، ومن خنْدقٍ ما
تنبثق شجرةُ تفاحٍ
فلا تعود الطريقُ متوحِّدةً

8
الصّداقةُ الأولى
تمرُّ في الأغلبِ
عبْرَ شجرةِ تفاح

9
سَواءً تجنَّبنا بعضَنا
أو انقطعت لقاءاتُنا
تظلُّ شجرةُ التفاحِ
بيننا
صندوقا لا اسمَ له
لبريدِ الحبِّ

10
يسير
جادًّا
غيرَ أنَّ ضغطَ الخطوةِ
يعِيق كلَّ استنادٍ

11
دون شجرةِ تفاح؛
لا يكون المنزلُ أكثر احتمالا
من بئرٍ بلا دجاجاتٍ حواليْه
أو مدخنةٍ بلا عصافيرَ

12
شجرةُ تفاحٍ، بقرتان
و طيورُ القوْبعِ
يدٌ لن تُضيفَ
سوى ارتعاشاتِها

13
إنها أشجارُ التفاحِ
توشِّي حوافَّ الحقول
بنظرةٍ
بتطريزِ نعومةٍ

14
في واجهةِ المشهدِ
يحفِر البستانُ منافذَ
تضيئُها كلُّ شجرةِ تفاح
من الداخلِ

15
داخل البستان
تلعب شجرةُ التفاح
دورَ دولاب مسنَّنَة
فقط المروج هي التي
تلف من حواليها

 

16
شجرةُ تفاحٍ صغيرةٌ
تتعرَّش في السماء
تحسُّ بسيَلانِ المطر
تحت مفاصلها
تنجح في ركضِها بشكلٍ أفضلَ
من مهرٍ بين نِثارِ
مرْعاه الأول

17
كل ما في شجرةِ التفاحِ
نُهودٌ
و هكذا تصيبُ كلُّ قذيفةِ
هدفَها

18
شجرةُ التفاحِ على غِرارِ عصفورٍ
موشِكٍ على الطيَران
لم يبْقَ له سِوى
طَيِّ ساقِه

19
شجرةُ التفاحِ تُشبِه أيضا
رأس قطٍّ
في نهايةِ جسدِ البستانِ
الهاجِعِ

20
تلتفُّ حولَها طيورُ العقعقِ
بَيّْدَ أنَّها لا تأْتمِنُها
على أعشاشِها
من الغريبِ أنَّ أجملَ طائرٍ
و أجملَ شجرةٍ
لا يتكلَّمان سِوى عبْرَ وسيطٍ

21
تنتظر شجرةُ التفاحِ
ذاك الذي سيعْقِد
خيطا في رسغِها
عِوَض أن يجعلَها ثابتةً
خيطٌ يساعِدُها على منافسةِ
طيَّارةِ الورق

22
هي شجرةُ
ذاك المسافرِ
وهو جالسٌ في ركنِ المِدْفأة

23
في اللَّيْلِ
الأشجارُ رماديةُ اللونِ
والقِططُ شفَّافةٌ
و في أواخرِ الشفقِ
تلتمِع شجرةُ التفاحِ بزجاجِها الباهتِ

24
في ديرِ
أحدِ البساتينِ
كلُّ شجرةٍ من أشجارِ التفاحِ
تسنِد قوسا من أقواس الدير

25
تقلِّد الجذوعُ الرهبانَ
مغادرةً أغصانَها و أوراقَها
حتَّى تستجيبَ إلى طنينِ الشمسِ الشنيع
وإلى جرسِ القمرِ الحادِّ على نحوٍ ما

26
البستانُ
رخامةٌ لتحديدِ الاتجاهات
لحُجَّاجٍ كان من الممْكنِ أن يُضيِّعوا
أسبابَ توْبتِهم

27
لجعل الرُّؤْيةِ جيِّدةِ
تمسح شجرةُ التفاح
صفحةَ السماء

28
تظلُّ الريحُ
مجرّدَ ظاهرةٍ لامرْئيةٍ
إن لم تحدِّدْ شجرةُ التفاحِ
آثارَها
ولم ترفَع جانبا من قناعِها

29
شبكةُ الريحِ
العنكبوتيَّة
في مركزِها
ثقبُ ذاكرةِ شجرةِ التفاح

30
كيف نعرف أنها شجرةُ تفاح؟
بالريحِ التي في شبابيكِها
و الشاعرُ، كيف نعرفُه؟
بأشجار التفاحِ التي في صوتِه.

31
شجرةُ التفاحِ التي تغيِّر
ضفتَّها
تكفُّ عن شرب
مياه البِرَكِ الراكِدةِ
بيد أنها ترْوي ظَمَأَها من أمطارِ
تَيَهانِها

32
أسفارُها
لن تكونَ أبدا
إلا ليليَّة وسماويَّةً

33
تتدحرَج شجرةُ التفاحِ في الأمطارِ التي
تُعطِّرُها
و في الريحِ ذي شواربِ
القِطط
وفي ظلِّها
ذي الطعمِ الحامِضِ

34
يُودِع المطرُ المحبة
بين أغصانِها المُتشابِكةِ
و تزِيلها منها
لدى اعترافاتِها الأولى
لا تحسُّ شجرةُ التفاحِ
سوى بمرارةٍ عابِرة
مع العلم أن زوجةَ متقلِّبةً
تعود عندما لا نكون في انتظارِها

35
الثلوجُ التي تقْطع النتوءاتِ
تنشُرُ ليلَها فوقَ الألوان
تُخرِس الانتِشاءَ
تُغذِّي شجرةُ تفاحِ الغشيانِ
بالتكاثُرِ
بالتطابقِ مع نفسِها

36
جفنُ الثلجِ
المنتفِخِ
يحُطُّ على الصمتِ الأسودِ
لغصنٍ رئيسيٍّ

37
نتعرَّف على شبح
رجلٍ متوحِّدٍ
يَعبُر في مواجهةِ الريحِ
حقولَ السهلِ المحروثة
إنّها شجرةُ تفاحٍ خشِنة
تنزل الدُّرَجَ
بغصونِها الشتائيةِ

38
في الربيعِ
تسقط تجاعيدُ شجرة التفاح
كما تتبعَثَرُ
أعوادُ ثِقابٍ

39
شجرةُ التفاحِ المتفتحةُ
تنشر
روائحَ ربيعِ
البحر

40
يصعَد القمرُ
كما لو أنه أغصانٌ
كما لو أن ظلَّ شجرةِ التفاحِ الجافِّ
يفرِد جناحيْه

41
في مواجهةِ شجرةِ التفاحِ
للقمر
القمرُ هو أوَّلُ
من يغادر

42
في بعضِ ليالي
اكتِمالِ القمر
تصير شجرةُ التفاح
الإسقاطَ الأُفقِيَّ
لرجلٍ ينامُ بلا نجوم

43
في الليلِ، تصير الأشجارُ
حِرابا ليليَّةً كثيفة
وشجرةُ التفاحِ مروحةُ
الليلِ الأكثر خِفَّةً

44
تبُثُّ شجرةُ التفاحِ
على الامتدادِ الأبيضِ
لصمتِ الليل
طنينَ ميلادِها الخافِقِ
في هوْسِ حارسِ الليلِ

45
الغيومُ قِطعُ ثلجٍ
بلا طلاءٍ خلْفَها
بين شجرةِ التفاح
و السماءِ
كما العشبِ
بين الأرضِ والأوراقِ
أيُّهُما يُراقِب الآخرَ؟

46
عندما تعبرُها شمسُ الغروبِ
الحمراءُ
تصير شجرةُ التفاح دائريةً
مثلَ حوضِ السمكِ

47
بقدرِ ما يخْبو
حفيفُ الصمتِ
يعرِّيها ضوءُ
الفجرِ

48
لتراني جيّدا
ضحكت شجرةُ التفاح
فمُنحت السماءَ

49
عندما تحطّ نجمةٌ
على غصونِها
حينئذ، تعتقِد شجرةُ التفاح
أن تفاحاتِها صارت باطلةً

50
التفاحةُ
أم شجرةُ التفاح
من يستحقُّ الآخـر؟
* * *

مشاعر غامضة

أجيء من بلاد
النبوءات والكآبة
بلاد تسير بخطو
آخر خيولها التي تجرّ العربات
وتتكلم لغة
أمطارها الطويلة التي تنهمر بعد الصيف
أجيء من بلاد الأشواك و الطفولة
البلاد التي تموت من شدة صمت
أنهارها و طواحينها
بيد أنها تنبعث في عالم أحلامها
حيث تتقاطع الرياح مع الأصداء
وحيث الماء يؤجج النيران
والنيران تقتلع النباتات.

***

       قصائد بلا عنوان

 القصيدة

ليس لدي ما افعله
سوى كتابة قصيدة
أو بالأحرى
لماذا لا أزرع زهرة
أو
أقطع خشبا
أو أيضا
أحاور دجاجة ذهبية العينين؟
لا، سأقترف الأقل طبيعيا من الأفعال:
سأكتب قصيدة
كان من الممكن أن يقول أبي:
– هيا بنا لتمضية قيلولة قصيرة
أما أمي التي لديها حس المغامرة
فكانت ستشرع في أشغال الخياطة
و أنا ابنهما غير الجدير بالاحترام
كنت سأحب متتالية الأسطر

***

        قصيدة

من آخر الحديقة
رأيتني في نافذتي
حيث كنت أتفرج على مشاهد
مسرح أطفال
تحت حيطان البيت العتيق
و تدريجيا
بدأت تظهر على وجهي
قسمات أبي
التي تتوحد مع الشجرة الكئيبة
لنسب ما
هذه المشاهد الحقيقية
لا تني تلاحقني

**

  القصيدة

لم أر البحر مرة أخرى
منذ زمن بعيد
الساحل الأشقر المنبسط
يمتد كحقول القمح
والرأس العظميُّ الممتد بعيدا في البحر
يخترق السماء الزرقاء
وأمواج ذات بياض كابي
و وردي بلون الأعضاء الجنسية
تحرث أخاديد في المياه
وتلفظ نوارس
وأنا، ألم أكن أمام
محارة منفرجة
صورة عمياء
لقطعة من روحي؟

**

           القصيدة

حاملا عصى عزلته
يعود الشاعر العجوز
إلى مقرّ بلا عنوان
الليل غير مبال له
وثقيلة حقائبه الخاوية
قطع قصائده الذهبية
هي حجارة الليل الوحيدة

**

   القصيدة

حذو الباب
مكان الكلب خال
وسلسلته الهامدة
مرمية
مثل ثياب متروكة
في داخلها
عظام بيضاء

القصيدة

تمضي الفصول في مسارها
وراء زجاج النافذة
ومطر الشعراء يصطاد غنيمته
تمضي الحياة بخطو وئيد
وخلف زجاج النافذة عصفور منبهر
لن ندرك أبدا ما الذي يدهشه

**

 القصيدة

الطيور لا تتأمل السماء
مثلما يحدث معنا نحن الذين لا نرى
العطور التي نتنفسها.
الرمال و رماد ظلالنا
يتساءلان عن قُبَّتنا المشتركة
بيد أنهما لا يكفان عن مراقبة الأرض
كما لو أنهما يبحثان عن سرير الجدول
كي يختلسا منه منبعه.

**

 القصيدة

ضوء المطر الليلي
ينهمر كما لو أنه يعكس ضوء قصيدة
بدل أن أفتح يديَّ تحت مائها الشلال
أهرب إلى رحلات أمطار
في دروب مدن شباب
نحو أجساد منشودة
ذات تجدد عصي على التزوير

***

    قصيدة

هنا
ترتدي النساء السواد
ليخفين جيدا
زرقة الأحلام تحت جفونهن
والأطفال الزرق الذين يثوون في أعماقهن

**

 قصيدة

الشعر يُستسقى من الحياة
لا تضع شفاهك في مشرب
تجارب الآخرين.
ازرع كرومك أنت
و شذّب مغامراتك الخاصة

**

 قصيدة

سأنتظرك
في غرفة
ذات أربعة جدران من بحر
سيكون يوم أحد خريفي
بأدخنته الشفافة
ونداه الذي ما يزال أزرق
نداه الذي يشبهك
ذات أحد تهرب منه
دون الظفر بأي شيء

 قصيدة

ليس لدي كلام لأيام الآحاد
ولا ملابس لباقي أيام الأسبوع
ولا سريرا للحب
ولا سرير آخر للنسيان
كل مايحدث هو نفسه
حيث ستكون لي شيخوخة سعيدة
واحتضار يائس و مقاوم
أنا عاديّ مثل شجرة
وقائم مثل البحر
ثابت آه ثابت في مكاني
حتى أنّ الحجارة من حولي
هي التي تسافر من جزيرة إلى جزيرة

**

 قصيدة

ذاك الذي لا يعرف
البكاء

كيف يدري
ما هو الحب.

**

   قصيدة

هنا
النسوة لا تغادرن أبدا الجزيرة

وعندما نحدثهن عن القارات
فهن يعتقدن أن الأمر يتعلق أيضا بالبحر

**

 قصيدة

هنا
نادرا ما يموت الرجال في الجزيرة

والمقبرة لديهم
هي جزيرة أجنبية

لا يجولون فيها أبدا

**

قصيدة

عندما أفكر في شيء آخر
أجد نفسي أفكر فيك مرة أخرى
أفكر في كتفيك العاريتين
في بهرة
ستائر البحر

عندما افكر في البحر
يعني الاحتفاظ بنظرتك بين يديه
وأن أرى نفسي فيه دون التعرف عليها
كما لن نتعرف تحت الماء على هالة المدن الغارقة

*

أزمنة الماء الثلاثة

هنا
كلّ الأشياء تتراكب فوق بعضها
البحر والسماء
وبرتقالة الشمس المسطّحة

الغيوم والزبد حول الصخور
الملح
فقط الجزيرة تتمزّق

 

هنا
قفا الريح
يُقرأ على سطح البحر

وفي الطقس الأزرق
قفا التيارات المائية
يتجعّد فوق سطح الغيوم الأفقي

الجزيرة هي الوحيدة
التي لا مرآة لها ولا نقيض

 

هنا
نادراً ما نحصد

للجزيرة أربعة فصول خريف
وأربعة فصول من الحب المتوحّد

 

هنا
المرئي يتحوّل إلى ماء
والأرض تتحوّل إلى جزيرة

والملح
هو اللامرئي
الرجال أيضاً
في حقول البحر المجمعة

هنا
يتوقّف الطفل أمام الطفل
والكلب يستثير الكلب الآخر

والجزيرة لا تسائل سوى نفسها

هنا
الجزيرة تستقبل الفجر أوّلاً

والليل
يسقط بدايةً فوق البحر

في الوسط، عند الظهيرة
يتحوّل الضوء سائلاً ويمضي في الماء

 

هنا
في الليل

يتبادلان
يأخذ الماء مكان السماء
وتأخذ قبّة الجزيرة مكان القبّة الإلهية

 

هنا
عندما تمطر
يتغطّى البحر بأوراق الأشجار

وتتغطّى الجزيرة
بقشرة تفّاحة.

■ ■ ■

قصيدة

خيولي لا ترهب سوى الشمس،
أسرَّ الرجلُ
والشمس تشعل مياه أحواض السقاية

والريح أيضاً، واصلَ قائلاً
والريح تحني الأعشاب

خيولي لا تتوجّس سوى من الأمطار
أضافَ
والمطر يهزّ الفساتين وأعراف الخيول

وخيولي تتوجّس أيضاً من العواصف والبروق
ومن الصاعقة التي تسقط حذوها

خيولي لا ترهب سوى الموت
تكلّم متفاخراً الرجل
والموت يدفع سياج الحظائر

وما يقلقني قال مختتماً
هي وسوسة الشيطان
وكان الشيطان يقيم تحت قميصه.

■ ■ ■

قصيدة

لا يمتلك شيئاً سوى التجوال
ودروبه القديمة،
وأمتعته الخفيفة.
لا يحتفظ بشيء سوى بالعناوين
الغامضة لفنادق العابرين،
وإقامات المطر
لا يعاني من أي مصير آخر
سوى جرّ السفن النهرية
تحويل الجزر العشوائية
لصداقات لا انتماء لأصحابها
وحبيبات داخل المدن الغريبة.

■ ■ ■

قصيدة

كلّ مساء أُحيّي أُمّي
وهي في ثياب عرسها
وبمرور الوقت انحرف إطار الصورة
الذهبي
ازداد عرضاً كما لو كان بفعل
حرارة غير حارقة
كانت أُمي تتقلّص داخل
هذه المساحة نفسها
تمضي نحو اللانهائي
مجتازةً النافذة
عابرةً حقل الحشائش
والنهر والوادي الأخضر
حتى أنها لم تعد تشكّل سوى نقطة دقيقة
فوق جدار خزّان المياه في البعيد
ألمحها بالمنظار
كل شيء امّحى من الصورة
لم تبق سوى الابتسامة الغائمة
فوق ظلّها المرتسم

■ ■ ■

قصيدة

كل يوم ساعة للمشي
وساعة للشعر
وساعة لتغذية طيورِ السماء
وتغذية أجسادٍ فردوسية أخرى
وساعة من أجل أن نكتشف صحبة الكلب
الدروبَ السرية وأجماتِ السَّحرة.
ساعة مع القطّة
لنتبادل الحذر والممانعة
وساعة كي نعترف للأشجار
حتى نهدّئ قلق الزهور
ساعة من أجل رسم غيوم على النافذة
ثم بعثرة سماء من حولها
ساعة بلا أي عمل يُذكَر
وأخرى كي نكون أي شيء
وساعة إضافية لنفس السعادة
ساعات عديدة مرهقة وخفيفة
لتحريك حياتنا
لفك رموز اللفظة، الكلمة الفريدة
في سجل الفضائل والموت.

 

 

مقالات من نفس القسم