عشاق الريف

موقع الكتابة الثقافي art 26
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

بقلم: نادين كًورديمر، 1975

ترجمة: د.إقبال محمد علي

كان أولاد وبنات المزرعة يلعبون سويةً في صغرهم. حين يبلغون سن الدراسة، يتوقف الولد الأبيض عن اللعب مع رفاق طفولته، حتى في أيام العطل المدرسية. و على الرغم مِن ان جميع الأطفال السود يتلقون شيئاً بسيطاً من التعليم، إلا انهم يبدؤون سنة بعد سنة بالتخلف عن أقرانهم البيض، في العلامات و المراحل الدرسية. ليس هذا فحسب، بل كل ما ابتدعوه في طفولتهم من مفردات، رموز، إشارات و أسماء لوصف و تسمية الأماكن و الأشياء، في مغامراتهم لإستكشاف مسالك الهضبة بما فيها من ممرات و سدود و مراعٍ شاسعة، تأخذ مجرىً آخر، فيما بعد. يأتي الوقت الذي يجد الولد الأبيض نفسه، مجبراً على نسيان، لهجة الطفولة، و استبدالها بلغة المدرسة الداخلية و المشاركة في المسابقات الرياضية مع المدارس الأخرى و تعلُم دروس الحب والغزل و المغامرات من الأفلام التي كان يحضرها في سينما المدينة. يتزامن هذا (الفصل)، مع بواكير سن المراهقة و التغييرات الجسدية، أي بين سن الثانية عشر و الثالثة عشر، حين يجد الولد الأسود نفسه من حيث لا يدري، بتسمية رفاق طفولته البيض، ب(الباسي) أي السيد الصغير و (الميسي) أي الأنسة.

مشكلة بولص أيسينديك،انه لم يدرك ان “ثيبيدي”، اصبحت واحدة من حَشد اطفال القرية ( الكرال)،التي يمكنه تمييزها، من ملابس اخته القديمة. في أول عطلة مدرسية له بمناسبة عيد الميلاد، جلب لها، صندوقاً ملوناً، صنعه في درس النجارة و قدمه لها سراً، لأنه لم يجلب شيئاً لبقية أولاد القرية. مقابل ذلك، اعطته ثيبيدي، قبل عودته إلى المدرسة، سوار مصنوعاً من سلك نحاسي بحبوب رمادية و بيضاء، من محصول نبتة زيت الخروع التي تزرع في حقل والده. كان هناك هوس في مدن المقاطعة، ان يزين الشباب معاصمهم بأساور من شعر الفيل أو غيرها إلى جانب ساعاتهم. سواره أعْجَبَ زملاءه في المدرسة و طلبوا منه ان يجلب لهم مثله.. اخبرهم ان أهالي( الكرال) في مزرعة والده قاموا بعمله و سيحاول طلب المزيد… .

في عمر الخامسة عشر اصبح طوله ستة اقدام.كان يتسكع في الحفلات الراقصة التي تقيمها مدرسة البنات المجاورة حيث تعلم فنون مغازلة و مشاكسة بنات المزارعين الأغنياء، من طبقته… في أحدى المرات، رافق والديه إلى احد الأعراس في الحقل المجاور والتقى هناك، بصبية أغرته بمضاجعتها في حجرة المؤونة.

 رغم ابتعاده عن ملاعب الطفولة، إلا انه، في كل مرة يعود فيها إلى المزرعة، يجلب لثيبيدي السوداء، هدية من مخزن المدينة. في هذه المرة اهداها حزاماً احمر وزوج اقراط دائرية ذهبية اللون. اخبرت والدها ان الأنسة( الميسي) اعطتهما لها، مكافأة لعمل قامت به. لم تكذب، إذ انهم يطلبونها بعض الأحيان، للقيام ببعض الأعمال الخدمية في بيت المزرعة. أسَرّت لصديقاتها في القرية أنها هدية مِن حبيب لها، يعيش في احد الحقول البعيدة، فمازحنها بضحكات مجلجلة مليئة بالحسد و الإعجاب. نجيبولو، احد شباب القرية، كان يتمنى لو كان بمقدوره تقديم هدية كهذهِ لها. 

عندما يعود ابن المزارع ايام العطل المدرسية الى البيت .. تهيم ثيبدي، بعيدا عن القرية وصديقاتها، دون وجهة. و يخرج بولص للتمشي لوحده، دون اتفاق او تخطيط مسبق، يدفعهما هاجس صدفة اللقاء. هو، يتعرف عليها من مسافات بعيدة، هيّ، تعرف ان كلبه لن ينبح حين يراها. كانا يقرفصان جنباً إلى جنب، في قاع النهر الجاف. يحكى لها كيف حالفه الحظ مع بقية الأولاد قبل سنوات، في أصطياد مخلوق غريب بحجم و شراسة تمساح، ألُوفٌ مثل إغوانا…و بالغَ في سَردِ، طبيعة الحياة المدرسية و العقوبات التي كان يتلقاها، قَصْدَ إبهارها، كما وَصَف لها مدينة ميدلبورغ ،التي لم تزُرها مِنْ قبل.

لم يكن لديها ما تقول بالمقابل، غير توجيه الكثير من الأسئلة. كان اثناء حديثه عن ذكريات الطفولة، يلوي و يشد جذور الصفصاف البيضاء وبعض الأعشاب ذات الرائحة الكريهة القريبة من سطح التربة المتآكلة حوله. كانت هذه البقعة مكان لعبه  المفضل… يختبئ مع رفاقه داخل جذوع أشجار قديمة أكلها النمل، ينمو بينها نبات الهليون البري الضخم و شجيرات الكمثرى الشوكية بثمرها المضوي، الغائر، الجاف، أشبه بوجه رجل عجوز، تقاوم الطبيعة انتظاراً لموسم المطر القادم. كانت و هيّ تنصت إليه، تحاول جاهدة، ثقب كمثرى برية بعصا حادة الرأس؛ احياناً، تغص بالضحك، فتسقط رأسها بين ركبتيها لحكاياته الممتعة، مقرفصة،حافية القدمين على الأرض الليلة اللينة. كانت تحتذي فردتي نعلها الناصع البياض عند ذهابها إلى المزرعة و تضعهما جانباً، حين يكونان لوحدهما عند ضفة النهر.

في ظهيرة احد ايام الربيع، بدء الماء يجري في حوض النهر الجاف، نزلت تخوض فيه كما كانت تفعل، حين كانوا صغارا. لم تثير بنات المدرسة اللواتي كن يلبسن البكيني و  يسبحن معه في السدود وأحواض السباحة في المزارع المجاورة، ببطونهن و افخاذهن الآخاذة تحت ضوء الشمس  الشديد الحرارة اهتمامه، قدر ما شعر به لحظة خروجها إلى الضفة متوجهه إليه بثوبها المبلول الملتصق على جسدها و بين فردتي بنطالها. كان لمعان قطرات الماء على ساقيها السوداوين نقطة الضوء الوحيدة التي يراها في العتمة.

لم يخافا بعضهما، هكذا كانت العلاقة بينهما على الدوام. ضاجعها، كما فعل مع جارته، ليلة العرس في غرفة المؤونة. للمرة الأولى يشعر بمدى حلاوة و حميمية ما حدث بينهما..كانت تبادله نفس االمشاعر في تلك اللحظة…من الوجه الأسود في العتمة، رأى عينين سوداوين تلمعان مثل ماء رقراق، تتطلعان إليه بحب و شغف: كانت النظرة نفسها، وهما يصنعان الثور من الطين. النظرة نفسها، وهو يخبرها عن عقوبات عطلة نهاية الأسبوع .

تكررت زياراتهما لحوض النهر في العطل الصيفية.. كانا يلتقيان قبل الغروب ويعودان قبل حلول الظلام. هيّ، إلى كوخ امها، هوّ، إلى بيت المزرعة وقت العشاء. لم يعُد يحدثها عن المدرسة أو المدينة، و لم تعد توجه له أية اسئلة. يخبرها عندما يفترقان عن موعد لقائهما التالي؛ مرة او مرتين قبل طلوع الشمس، أيقظهما صوت خوار البقر في المرعى دون اعلان، ليفرقهما. 

كان بولص، يتمتع بشعبية كبيرة في المدرسة. كان الثاني ليصبح فيما بعد، اللاعب الأول في فريق كرة القدم. يقال، ان ابرز طالبة في مدرسة البنات المجاورة لمدرسته،كانت متيمة به. لم يكن يحبها لأنه كان معجباً بفتاة شقراء تجمع شعرها إلى الأعلى مثل الكرة و تشده بشريط أسود، يأخذها  أيام السبت بعد الظهر إلى السينما. تمكن من قيادة الجرار، و سيارات الحقل الأخرى بعمر عشر سنوات. حصل على إجازة السوق بعمر الثامنة عشرة و بدأ يأخذ بنات الجيران إلى الرقص أو دار السينما الجديدة التي لا تبعد اكثر من عشرين كيلومترا عن مزرعتهم. كانت هذه آخر سنة له في المدرسة. بعد زواج أختيه، كان والداه يتركانه لإدارة امور المزرعة عند زيارتهما للزوجات الصغيرات و الأحفاد في عطلة نهاية الإسبوع.

عندما يغادر المزارع و زوجته ظهيرة السبت، يكون صندوق سيارتهم المرسيدسن مملوءً بالدجاج المذبوح الطازج و الخضروات من حديقة البيت التي يشرف والده عليها بنفسه. عندها تعرف ثيبيدي، ان لقاءهما سيكون في بيته لا على ضفة النهر. بيت المزرعة قديم، بجدران سميكة داكنة اللون بسبب حرارة الشمس… كان المطبخ، يعج  على الدوام بالخدم و المواد الغذائية؛ الكلاب و القطط تتجول فيه من اجل قطعة لحم؛ قدور تغلي و كومة ملابس تنتظر الكي؛ ثلاجة تجميد كبيرة أشترتها السيدة من احد متاجر المدينة؛ سجادة محبوكة و فازة من البلاستك رسمت عليها ورود الأيرس. عند الدخول إلى غرفة الطعام يستطيع الواحد، شم رائحة الحساء و معجون الطماطة العالقة بخشب المائدة ذات الأرجل الضخمة القوية. التلفزيون و الستائر في غرفة الجلوس مغلقة. غرفة نوم والديه  مقفلة، الأسرة في غرف البنات الخالية، مغطاة بالمشمع …تذكرت ثيبيدي، أنها قضت ليلة كاملة مع أبن المزارع على احد هذه الأسرة و كان عليها مغادرة الدار في الصباح الباكر، قبل قدوم الخدم، الذين يعرفونها.كان حريصا ان لا ينام  معها في غرفة نومه، خوفا من ترك أي أثر يدلل على وجودها أو ان يراها أحد بالصدفة معه. لم تنسَ حتى اليوم، صف الكؤوس الفضية على أحد الرفوف، التي حاز عليها في السباقات المدرسية عندما كانوا يطلبون منها، مسح أخشاب غرفة نومه.

عندما بلغ ابن المزارع  سن التاسعة عشرة، كان يعمل مع والده في المزرعة، إنتظاراً لدخول معهد الطب البيطري. عندما أصبح عمرها ثمانية عشر عاما، تقدم للزواج منها،شاب أسمه نجيبولو. قابل اهلها و اتفق معهم على المبلغ الذي كان عليه دفعه بدلاً من الأبقار، إذ انه لم يكن يمتلك ابقاراً. كان مثل والدها، عاملاً في مزرعة إيسينديك. كان موهوباً، تعلم من سيده كيف يصنع الطابوق، لإستخدامه في اعمال البناء الخاصة بالمزرعة. لم تخبر ابن المزارع بصفقة الزواج و لم تخبره عند بدء الفصل الأول من دراسته في معهد البيطرة، انها حامل.

بعد شهرين من زواجها من نجيبولو، وَلَدتْ بِنْتاً. لم يكن هذا بالشيء المعيب في أعرافهم، فعلى الرجل الشاب، التأكد من أن المرأة التي اختارها وَلودْ.. و قد ضاجعها نجيبولو قبل الزواج. كانت بشرة الصغيرة، تميل كثيراً إلى البياض، ولم تتحول إلى السواد، كما  كان يحدث للكثيرين من الأطفال الأفارقة؛وكان شعرها ناعماً كالحرير مما حدا بأهل القرية إلى وصفها،”ببذرة عشب ضار، خصبت في المراعي.

رغم عدم قدرة الصغيرة على التركيز في الأيام الأولى من ولادتها إلا ان مقلتيها، كانتا رماديتين ببقع صفراء أشبه بالعسل. بشرة نجيبلو سوداء، تشبه لون البن الأسود المطحون و قطرات الماء المنزلقة على ساقي ثيبيدي تبدو بلون صدف المحار الأزرق الكامد، أي بلون وجهها تماما.. و اجمل ما كانت تتميز به عن غيرها من النساء، حَوَر عَيْنَيْهَا.

ابنة ثيبيدي البيضاء، لم تمنع نجيبلو مِن شراء اشياء لها، من المخزن الهندي.. جلب لها، صندوقاً من الكارتون مغلفاً بورق السِلوفان يحتوي على حوض سباحة وردي اللون، ستة حفاظات، دبابيس أمان، كنزة محبوكة، غطاء للرأس، جوارب و فستان مع بودرة علامة جونسون.

اصبح عمر الرضيعة اسبوعين، عند عودة بولص أيسينديك من معهد البيطرة، لقضاء العطلة في المزرعة. كان جالساً في المطبخ كعادته و هو صغير، يشرب قدحا من الحليب الدافئ الطازج، حين سمع والدته تتحدث مع مدبرة البيت، بضرورة العثور على بديلة تساعدها في عمل البيت، بسبب ولادة ثيبيدي.

 توجه مباشرةً بعد سماعه الحديث، إلى القرية( الكرال)، التي  لم يزرها مُذ كان صغيراً. كانت الساعة الحادية عشر صباحا، أي بعد خروج الرجال للعمل في الحقل. نظر حوله بعجلة، أشاحت النسوة وجوههن عند رؤيته لأنهن لم يردن ان يدلنه على بيتها. خرجت ثيبيدي ببطء من الكوخ الذي بناه لها نجيبولو على نمط بيت الرجل الأبيض: بمدخنة معدنية، نوافذ زجاجية بأطار من الخشب و الجدران بنيت من الطابوق غير المحروق. حيته بإحترام ،كما كانت تفعل حين تراه جالسا مع والديه في المزرعة، بهزة من رأسها ويدين مضمومتين. خفض رأسه عند دخوله عتبة بيتها و قال: اجلبيها.. أريد رؤيتها.

كانت قد أنزلت اللفافة من على ظهرها قبل الخروج لملاقاته عند الباب. تحركت بين السرير الذي صنعه نجيبولو و الطاولة الصغيرة الخشبية التي تضع عليها حوض الإستحمام  الوردي  المصنوع من البلاستيك مع الطعام و أواني المطبخ. اخرجت اللفة من البطانية اللينة المفروشة في صندوق البقالة حيث تنام و رفعت الغطاء عن الوجه الممتلي الشاحب،كان هناك بعض الحليب المتخثر في زاوية فمها و اصابعها الوردية الصغيرة تتحرك مثل العنكبوت. حين نزعت غطاء رأس الصغيرة الصوفي، تطايرت بعض خصل الشعر الذهبية الناعمة بسبب الكهربائية. لم يقل شيء… كانت تراقبه كما كانت تفعل حين كانوا صغارا، و تذكرت كيف كانت عصابة الأولاد تقوم بدعس المحصول بأرجلها بل و تتجاوز احيانا الحدود المرسومة لها في اللعب، شفاعتهم الوحيدة من العقاب، تتمثل بشخص أبن المزارع، الولد الأبيض الوحيد بينهم… مررت اصبعها بحنو على وجنتي الصغيرة  قصد إيقاظها.. كانت بالكاد تفتح عينيها لتغمضهما ببطء.. بعد هُنيهة فتحتهما.. رأى مقلتين رماديتين بنقط صفراء بلون العسل،كعينيه… لم يعرف في تلك اللحظة ان كان عليه ان يغضب أم يبكي على حاله و  لم تجرؤ ثيبيدي بدورها، مد يدها إليه….

سألها: هل اخذتيها قرب بيتنا؟ حركت رأسها بالنفي و قالت: أبداً. ثم هزت رأسها بالنفي، مرة أخرى.

لا تأخذيها خارج البيت. لا تغادري البيت. ألا يمكنك أخذها إلى مكانٍ آخر أو إعطائها لآخرين ؟؟ تبعته إلى  الباب… لنرى ما يمكنني ان أفعل.. لا أدري .. أتمنى لو استطيع قتل نفسي الآن..أغرورقت عيناه بالدموع …. للحظات شعرا بأحاسيس الماضي تعود من جديد، عندما كانا لوحدهما عند ضفة النهر… ثم غادر.

استغل خروج والديه لقضاء يومهما خارج البيت، لزيارة الكوخ مرة ثانية. في فصل الصيف و مع بزوغ الشمس، تخرج معظم نساء القرية إلى العمل، لتنظيف الحقل من الأعشاب الضارة و لا يبقى في القرية غير كبار السن الذين يقضون وقتهم في الجلوس على الأرض الترابية خارج أكواخهم، تسلخهم الشمس المحرقة و يأكلهم البعوض. لم تدعه ثيبدي للدخول لأن الصغيرة كانت متعبة بسبب نوبة الأسهال. سألها عما أكلته، اجابت: انها أرضعتها من صدرها. تجاوزها و دخل بيت نجيبولو، حيث ترقد الصغيرة، لم تتبعه بل وقفت تراقبه عند الباب، دون ان تنتبه للمجنونة التي كانت تكلم نفسها تارة و تارة أخرى الديك الرومي الذي لم يأبه لهلوساتها..  خَيّل إليها سماع نخرة، تلاها صمت من داخل الكوخ .. كانت تشب غصة الرضيع حين تمتليء معدته بالحليب أثناء النوم … ثم ساد المكان السكون، لا تدري إنْ كان طويلاً أمْ قصيراً … خرج بعدها بولص من الكوخ،  متوجهاً صوب بيته، ماشياً بخُطًى مُتَثاقِلة، أشبه بمشية والده…  ليختفي بعد حين عن ناظرها.

لم تُرضِع صغيرتها في تلك الليلة، و استمرت تردد لنجيبولو بأنها نائمة … في الصباح وجدها ميتة. جلس بجانب زوجته يعانقها و يواسيها. لم تبكِ، بل جلست تحدق في الباب المفتوح امامها. كانت يديها باردتان كأرجل دجاجة ميتة، للمساته.

دفن نجيبولا، الصغيرة في مقبرة العمال التي استقطعها صاحب المزرعة من هضبته لدفن موتاهم. بعض القبور طمست معالمها بسبب الطقس، أُخرى كانت مغطاة بالحجر و منها من تداعت صلبانها الخشبية. قبل ان يكمل نجيبولا تثبيت الصليب، جاءت الشرطة، نبشت القبر و أخذت جثة الصغيرة بعد ان وصلتهم اخبارية- ربما كان مصدرها احد العمال او احدى زوجاتهم- تقول:ان لون بشرة الصغيرة، كانت تميل إلى البياض، إضافة إلى انها، كانت قوية معافاة… ماتت بعد زيارة ابن صاحب المزرعة للكوخ”. اثبت الفحص الطبي بعد تشريح جثة الطفلة، ان الوفاة لم تكن طبيعية، بل كانت نتيجة تلف في المعدة.

لأول مرة تطأ ثيبدي ارض المدينة التي كان يدرس فيها بولص لتدلي بشهادتها امام لجنة الفحص الطبي عن تهمة الجريمة الموجهة إليه. بكت بهستيريا في منصة الشهود صائحة: نعم ، نعم ..( كان زوج قرطيها المتدليتين يتأرجحان بقوة)، رأيت المتهم يصب سائلاً في فم الصغيرة.. و هددني بالقتل ان نبست بحرف.

 بعد مرور أكثر من سنة، قدمت القضية للمحكمة في نفس المدينة. دخلت، تحمل مولودها الجديد على ظهرها و  تلبس زوج أقراطها الذهبية. أخبرت المحكمة، بصوتٍ هاديء: انها لم ترَ ما كان يفعله الرجل الأبيض، داخل البيت. بولص أيسنديك،أخبر المحكمة: ذهبت لزيارة الكوخ لكني لم أسمم الصغيرة. لم يتطرق محامي الدفاع إلى علاقة الحب بين المتهم و الفتاة أو وجود علاقة جنسية بينهما، كما أنه لم يتمكن من تقديم أية براهين، تثبت ابوة المتهم للصغيرة.

اخبر القاضي المتهم، ان هناك شكوكاً قوية ضده لكنها غير كافية لإدانته بالجريمة. كما قررت المحكمة إعتبار إفادة المرأة داخل المحكمة و امام لجنة الفحص الطبي( شهادة زور)، و انها لربما كانت متعاونة معه في الجريمة.. لكن، لا توجد لديهم ادلة كافية لإدانتها. اشاد القاضي بموقف الزوج النبيل نجيبولو – كان يجلس في المحكمة بقبعة غولف لونها اسود و اصفر، اشتراها خصيصا لأيام الأحد- الذي لم يطعن بزوجته، بل وفر الملبس للصغيرة السيئة الحظ، بنية صافية صادقة.

حكمت المحكمة بتبرئة المتهم. رفض الشاب الأبيض قبول التهاني من الصحافة و الناس، وخرج من المحكمة مغطياً وجهه” بمعطف والدته المطري” لتجنب كاميرات المصورين. صرح والده للصحافة:”سأفعل كل ما بوسعي، لرفع رأسي عالياً في المنطقة.

صحيفة الأحد التي أجرت المقابلة معها، كتبت اسمها(خطأً) العديد من المرات، و ذكرت أن(الفتاة السوداء)، كانت تتحدث معهم بلغتها المحلية و استشهدت تحت صورتها، بعبارتها التالية:” اشياء تحدث في الطفولة، ولن يَرَى احدنا الآخر بعد الآن”.

4.03.2020

…………………

نادين كَورديمر

كاتبة، ناشطة سياسية و حائزة على جائزة نوبل للأدب عام 1991. ولدت في مدينة صغيرة للمناجم تسمى”سبرنكَس”، في جنوب أفريقيا، عام 1923. كانت من عائلة يهودية مهاجرة. بدأت الكتابة في سن مبكرة، و نشرت أولى قصصها عام 1937، وهيّ في سن الخامسة عشرة .. كانت تعتبر نفسها من الأقليات البيضاء في نظام جنوب افريقيا العنصري، هذا الشعور أثار عندها، الكثير من التساؤلات حول هويتها، فيما بعد. أنتقلت عام 1948 إلى جوهانسبرغ. اعتقال اقرب صديق لها شجعها على الإلتحاق بالحركة المناهضة للفصل العنصري وانضمت إلى المؤتمر الوطني الأفريقي” خلال الأيام التي تم فيها حظر المنظمة. كانت صديقة مقربة لِ “نيلسون مانديلا.

تناولت في كتاباتها القضايا الأخلاقية و العرقية و على وجه الخصوص (التفرقة و الفصل العنصري)، لذا مُنعت بعض اعمالها: مثل (ابنة برغر و شعب يوليو). هذه القصة القصيرة التي تقع أحداثها في( الريف) هيّ الجزء االثاني  من قصتين منفصلتين، تناولت فيهما، موضوعة الحب بين الأعراق للذين يتجاوزون حدود قوانين الأعراف و التقاليد المرسومة لهم و تحمل تبعاتها المأسوية، لاحقاً.

 العلاقة، بين بولص، ابن الأقطاعي الأبيض، الغني المتحكم، وبين ثيبيدي، ابنة العامل العبد الأسود التي تعمل خادمة في بيتهم و تعيش في- الكرال- مُستعمرة أكواخ السود المسورة، لم يكن لها ان تنجح و تعيش، في مجتمع منقسم عرقياً و طبقياً. مفاهيم الطبقة المتحكمة، اعطت لبولص أيسنديك، الحق بقتل ابنته و من ثَم، تبرئته من الجريمة.

Kraal  تُطلق على:

 *زريبة الخنازير و المواشي المسورة تسمى ب الكرال

*أكواخ الأفارقة السود المسورة  تسمى ب الكرال أيضا

مقالات من نفس القسم