الملك دوما فوق الشعب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 9
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

دانيال الاركون

ترجمة: إيناس التركي

 

كان ذلك هو العام الذي تركت فيه والدي، وبعض الأصدقاء عديمي الفائدة، وفتاة تحب أن تخبر الجميع أننا زوجين، ورحلت مائتي كيلومتر مع اتجاه مجرى النهر نحو العاصمة. كان الصيف قد شارف نهايته، عندما بلغت التاسعة عشر من العمر، وفكرت في العمل في رصيف الميناء. لكن عند وصولي هناك قال الرجل الجالس خلف المكتب أنني أبدو هزيلا للغاية وأنه يجب علي أن أعود لاحقا عندما أكون قد اكتسبت بعض العضلات. فعلت ما بوسعي لأداري خيبة أملي. فقد حلمت بمغادرة المنزل منذ كنت صبيا، ومنذ أن علمتني أمي أن النهر الذي يمر ببلدتنا يجري في مساره حتى المدينة. حذرني أبي، لكن بالرغم من ذلك لم أتوقع أبدا أن يتم رفضي.

أجرت غرفة في الحي المجاور للميناء، لدى السيد والسيدة باتريس اللذين كانا زوجين متقدمين في السن وقد أعلنا عن رغبتهما في تأجير غرفة لأحد الطلبة. كانا صارمين وجادين للغاية بينما هما يريانني غرف منزلهما المرتب والمنظم وكأنه عرض خاص لرؤية ماسة ثمينة. قالا أن غرفتي هي الغرفة الخلفية. لم يكن بها أي نوافذ. بعد جولة قصيرة جلسنا في غرفة المعيشة نرتشف الشاي تحت لوحة للديكتاتور العجوز معلقة أعلى المدفأة. سألاني عما أقوم بدراسته. كان كل ما يمكنني التفكير فيه في تلك الأيام هو المال، لذا قلت الاقتصاد. أعجبهما ذلك الجواب. سألا عن والدي، وعندما قلت أنهما قد توفيا وأنني وحدي تماما لمحت يد السيدة باتريس بجلدها الذي تكسوه التجاعيد وهي تلمس فخذ زوجها بالكاد.

عرض علي أن يخفض من قيمة الإيجار وقبلت أنا العرض.

في اليوم التالي قام السيد باتريس بتزكيتي لدى أحد معارفه كان بحاجة إلى محاسب كي يعمل في دكان يمتلكه. قال لي أنها وظيفة جيدة بنصف دوام فقط، ملائمة تماما لطالب يدرس. لم يكن المكان بعيدا عن الميناء، وحينما كان يصير الجو دافئا، يصبح بإمكاني أن أجلس في الخارج أمام الدكان وأشم رائحة النهر حيث ينفتح على الميناء الواسع. كان يكفيني أن أستمع للضوضاء وأطمئن لوجوده هناك؛ صوت الهمهمات والصخب بينما يتم تحميل وافراغ حمولة السفن كان يذكرني بالسبب الذي رحلت من أجله، وبالمكان الذي كنت فيه الآن، بالإضافة إلى كل الأماكن الأخرى البعيدة التي تقبع في انتظاري. حاولت أن لا أفكر في منزلي الذي تركته، وبالرغم من أنني كنت قد قطعت وعدا بكتابة الرسائل إلا أن الوقت لم يبد مناسبا أبدا.

كنا نبيع السجائر والخمور والصحف لعمال الميناء، ولدينا ماكينة لتصوير المستندات لأولئك الذين يقدمون أوراقهم للجمارك. كنا نساعدهم بفك النقود، بينما يقوم مديري في العمل، نضال، بنصح أولئك الذين لهم تعاملات مع الجمارك فيما يتعلق بالمبالغ المناسبة التي عليهم دفعها كرشوة، تبعا  لنوعية البضاعة التي سيتسلمونها وحسب مصدرها. كان على دراية جيدة بالنظام، فقد عمل في الجمارك لسنوات قبل سقوط الديكتاتور، لكن لم يكن لديه ما يكفي من بعد النظر للانضمام لأحد الأحزاب السياسية عندما جاء النظام الديموقراطي. قال لي أن الخطأ الآخر الوحيد الذي ارتكبه طوال ثلاثين عاما مضت هو أنه لم يسرق ما فيه الكفاية. لم تكن هناك عجلة أبدا. لطالما كانت الأنظمة الديكتاتورية مستقرة، ولم يعتقد أحد أبدا أن النظام القديم يمكن اسقاطه.

كنا نبيع بطاقات تذكارية تصور عملية الإعدام، بجوار الخزنة مباشرة. تأرجح جسد الديكتاتور من حبل مشنقة تم ارتجالها في الميدان الرئيسي. تظهر الصورة أن الجو كان غائما في ذلك اليوم، بينما الرؤوس كلها ملتفتة للأعلى لتواجه الرجل الميت الذي لا تحمل ملامح وجهه أي تعبير. كتبت عبارة على البطاقة: “الملك دوما فوق الشعب”،  وكان المرء يستشعر جلال الصمت الذي حل على الجمهور في الصورة. كنت في الخامسة عشر من العمر عندما حدث ذلك. أذكر والدي وهو يبكي عند سماعه الأخبار، فقد عاش في المدينة آنذاك عندما تقلد الرجل الحكم.

كنا نبيع بطاقتين أو ثلاثا من تلك البطاقات كل أسبوع.

في الصباح الباكر كنت أتجول في أرجاء المدينة. أضفت لحصيلتي اللغوية بعضا من الكلمات والعبارات  التي أسمعها حولي في الطرقات. وفي بعض الأحيان بينما أتجاذب أطراف الحديث مع الأغراب، كنت أدرك أن هدفي من ذلك كله كان لأجل أن يعتقد الآخرون أنني نشأت في المدينة.  لكنني لم أنجح أبدا في ذلك الأمر. كانت التعبيرات الدارجة التي اكتسبتها من الاستماع للراديو قبل مجيئي مملة لدرجة مخيبة للآمال. كنت أرى نفس الأشخاص في الدكان كل يوم وصاروا يعلمون حكايتي – أو بالأحرى تلك الحكاية التي قصصتها عليهم: أنني طالب وحيد ويتيم من أحد أحياء بلدة بعيدة. كانوا يسألونني: “متى تستذكر دروسك؟” فأخبرهم أنني أقوم بادخار المال كي أستطيع التسجيل في الجامعة. قضيت الكتير من الوقت في القراءة، وكان ذلك وحده كفيلا بإقناعهم. كان موظفي الجمارك بظهورهم المحنية وحللهم التي بهتت ألوانها يأتون في فترة استراحة الغداء كي يجتروا مع نضال ذكرى الأيام الخوالي، وفي بعض الأحيان يعطونني بعض النقود وهم يغمزون لي ويقولون: “من أجل دراستك.”

كان هناك آخرون أيضا: عمال الميناء الذين كانوا دوما يعدون بمبادلة أحدث النكات وأكثرها اباحية مقابل البيع لهم بالآجل من الدكان. كانت واحدة من السفن الضخمة تأتي مرتين شهريا وينزل منها حوالي دستة من العمال الفلبينيين المشدوهين  لقضاء إجازتهم على الشاطيء. في نهاية المطاف كانوا يجدون طريقهم للدكان وهم في حالة من التشوش والشعوربالأمل وفوق ذلك بالإثارة لكونهم يسيرون على اليابسة مرة أخرى. يبتسمون ابتسامات عريضة ويثرثرون بطريقة غير مفهومة، وأعاملهم دوما بلطف. كنت أفكر أنني قد أكون في محلهم يوما ما ربما بعد عام أو عامين من الآن، أتعثر خارجا من أحشاء سفينة إلى الشوارع الضيقة لإحدى المدن الساحلية في أي مكان بالعالم.

جلست وحدي بالدكان ذات يوم بعد الظهيرة عندما دخل رجل يرتدي بزة نظامية لها لون بني فاتح. كنت قد قضيت ثلاثة أشهر ونصف في المدينة آنذاك. كان لشاربه نفس شكل شوارب الرجال القادمين من الأقاليم، وفي الحال شعرت بالنفور منه. بطريقة رسمية، قام بإخراج صفحة كبيرة من الورق المطوي من الجيب الداخلي لسترته وفردها على سطح الطاولة. كانت عبارة عن لوحة التصويب من ميدان رماية: شكل كروكي لهيئة إنسان، مخيف بطريقة غامضة وقد امتلأ بالثقوب. تأمل الرجل عمله بإعجاب. “ليس سيئا، أليس كذلك؟”

“هذا يتوقف على…” انحنيت على اللوحة الورقية واضعا سبابتي داخل كل ثقب من ثقوب الجروح الورقية، واحدا وراء الآخر.  كانت هناك سبعة ثقوب في لوحة التصويب. “ما المسافة؟”

“على أي مسافة.” تسائل: “هل يمكنك أنت القيام بما هو أفضل؟” ودون أن ينتظر مني إجابة أخرج وثيقة لها مظهر رسمي ووضعها بجوار هيئة الرجل الورقي المليئة بالثقوب. “أحتاج ثلاث نسخ يابني. هذه اللوحة والوثيقة. ثلاث نسخ من كليهما.”

قلت له: “بعد نصف ساعة.”

حدق في وقد ضاقت عينيه  بينما هو يمسد شاربه. “لما كل هذا الوقت؟”

كان السبب، بطبيعة الحال، هو أنني أرغب في جعله ينتظر. وكان هو يدرك ذلك. لكنني أخبرته أن الماكينة بحاجة إلى الإحماء أولا، وحتى وأنا ألفظ الكلمات بدت سخيفة وهي تخرج من فمي. قلت أن الماكينة  آلة حساسة وثمينة وردت حديثا من اليابان.

لم يبد عليه الاقتناع.

“ولا يوجد لدينا ورق بهذا الحجم.” ثم أضفت قائلا: “سيتوجب علي تصغير الصورة.”

تجعدت شفتيه فيما يشبه الابتسامة. “حمدا للرب أن لديكم ماكينة حديثة يمكنها فعل كل ذلك. أنت من مكان ما عند منابع النهر، أليس كذلك؟”

لم أجبه على سؤاله.

“من أي قرية؟”

قلت: “بلدة”، وأخبرته اسمها.

سألني: “هل رأيت الجسر الجديد؟”

قلت أنني لم أره، وكانت هذه كذبة. “رحلت قبل أن يتم بناؤه.”

تنهد قائلا: “إنه جسر جميل.” وشرع في وصفه باقتضاب؛ النهر العريض وهو يقطع التلال الخضراء التي تبدو وكأنها تمتد إلى ما لا نهاية.

عندما انتهى من اجترار الذكريات استدار ليواجهني مرة أخرى. “اسمع، فلتنسخ لي أوراقي، وخذ كل ما تحتاجه من الوقت. قم بإحماء الماكينة، اقرأ لها الشعر ودلكها ومارس معها الحب لو أردت. افعل أيا ما كان الذي تريد أن تفعله. أنت محظوظ للغاية، فأنا سعيد اليوم. غدا سأعود لبلدتي ولدي وظيفة تنتظرني في البنك. سوف أجني قدرا وفيرا من المال، وسأتزوج أجمل فتاة في البلدة، وستكون أنت لا تزال هنا، تستنشق هواء المدينة الفاسد هذا، محاط بهؤلاء البشعين من سكان المدينة.” ابتسم للحظة. “هل فهمتني؟”

قلت: “أجل، بالتأكيد.”

“والآن فلتخبرني أين يمكن للمرء أن يحصل على شراب هنا.”

كانت هناك حانة على مبعدة بضع شوارع؛ مكان قذر له نوافذ متسخة من أثر الدخان، أمر أمامه كل يوم تقريبا. كان مليئا بالبحارة وعمال الميناء وأشكال من الرجال الغلاظ الذين لايزالون يثيرون في نفسي الخوف. لم أذهب هناك أبدا من قبل، لكنه كان بأكثر من طريقة يماثل نوعية الحانات التي تخيلتها عندما كنت لا أزال في بلدتي أخطط للهرب. كان مكانا مظلما، كريها، ومثيرا في ذات الوقت؛ يبدو من نوعية الأماكن التي قد تثير استياء أمي المسكينة الساذجة.

أخذت لوحة التصويب الخاصة بالرجل ووضعتها خلف الطاولة. قلت له: “بالطبع، توجد حانة، لكنها لا تصلح للقادمين من الريف.”

“أيها الوغد الوقح! أخبرني عن مكانها.”

أوضحت له الطريق الصحيح.

“فلتنتهي من النسخ التي طلبتها خلال نصف ساعة.” لفت انتباهه الحامل البلاستيكي المعروض عليه البطاقات التذكارية التي تصور اعدام الديكتاتور فتجهمت ملامحه. تعمد ضرب البطاقات بسبابته بحيث انقلبت جميعها.

تركتهم يسقطون أرضا.

قال لي: “لو كنت والدك لضربتك حتى تفقد الوعي كي أعلمك الاحترام.”

غادر وهو يهز رأسه، تاركا الباب ينغلق خلفه بعنف.

لم أره ثانية بعدها أبدا. اتضح إنني كنت محقا بخصوص تلك الحانة. ربما أثار شكله حفيظة أحدهم، أو ربما ظنوه شرطيا بسبب ملابسه التي كان يرتديها، أو ربما لفتت لكنته في الحديث الانتباه بطريقة سلبية. على أي حال، ذكرت الصحف أنه كان مشهدا دراميا. بدأ الشجار داخل الحانة – ومن عساه يدري كيف تبدأ مثل هذه الأمور – ثم امتد خارجا للشارع. مات هناك وقد انشرخت جمجته على أحجار الطريق. تم طلب الاسعاف، لكنهم لم يتمكنوا من الوصول في الوقت المناسب من بين الشوارع الضيقة. كان وقت تبديل لورديات العمال في الميناء، والشوارع مليئة بالرجال.

……

 

بعد فترة وجيزة من لقائي بحارس الأمن، قمت بكتابة رسالة لأسرتي. كانت في الواقع مجرد رسالة موجزة لأخبر والدي أنني على قيد الحياة وأنهم لا يجب عليهم أن يصدقوا كل ما يقرؤونه في الصحف عن أخبار العاصمة. كان والدي قد عاش لفترة قصيرة في المدينة، وبعدها بحوالي ثلاث عقود كان لا يزال يتحدث عن المكان بارتباك. ذهب هناك بعد زواجه من أمي بفترة قصيرة، وعاد بعد عام من عمله في الميناء ومعه ما يكفي من المال لبناء البيت الذي نشأت فيه. ربما كانت المدينة مكانا ملائما للكسب الوفير، لكنها كانت أيضا مكانا مخيفا كثير التقلبات. خلال الاثنا عشر شهرا التي قضاها هناك، شاهد عمليات السطو والشغب والاطاحة بالرئيس. بمجرد أن جمع ما يحتاجه من مال، عاد للبلدة ولم يذهب للمدينة بعدها أبدا. ولم تذهب أمي أبدا من قبل.

أخبرتهما في رسالتي عن السيد والسيدة باتريس ووصفت الزوجين المسنين بطريقة تريح بالهما هما الاثنين معا. وعدتهما أن أقوم بزيارتهما في الكريسماس لأنه كان لا يزال بعد ستة أشهر.  

وفيما يتعلق بلوحة التصويب والشهادة الخاصتين بالرجل المتوفي، فلقد قررت الاحتفاظ بهما. أخذتهما معي للمنزل في اليوم التالي، وقمت بطي الشهادة بحرص ووضعتها بين صفحات معجم مصور كان السيد والسيدة باتريس يحتفظان به في الغرفة الأمامية للمنزل. قمت بتعليق لوحة التصويب على الجدار في غرفتي بحيث أواجهها عندما أجلس قائما في الفراش. وذات ليلة حلت عاصفة؛ أول أمطار غزيرة تهطل في ذلك الموسم. ذكرني المطر المنهمر بدقاته على السطح ببلدتي. شعرت بالوحدة فجأة، وأغلقت عيني اليسرى وأنا أوجه سبابتي تجاه الجدار إلى الرجل المرسوم في لوحة التصويب. صوبت بدقة وأطلقت عليه النار. كان شعورا رائعا. كررت العملية مرة أخرى، هذه المرة مصحوبة بمؤثرات صوتية ومرت العديد من  الدقائق بهذه الطريقة. نفخت الدخان الذي تخيلته متصاعدا من طرف اصبعي مثل اولئك المقاتلين بالأسلحة النارية الذين كنت أشاهدهم في الأفلام الأجنبية. لابد أنني قتلته عشرات المرات قبل أن أدرك ما الذي أفعله، وبعد ذلك شعرت بنوع من الولاء للرجل المرسوم في اللوحة بطريقة لا يمكن تفسيرها. كنت أطلق النار عليه كل ليلة قبل أن أنام، وأحيانا في الصباح أيضا.

في ذات يوم بعد الظهيرة، بعد فترة وجيزة من قيامي بإرسال الرسالة لأسرتي، عدت للمنزل لأجد الفتاة القادمة من بلدتي – كان اسمها مالينا – ووجهها أحمر اللون وعيناها دامعتان، وهي تجلس في غرفة المعيشة المرتبة الخاصة بالسيد والسيدة باتريس. كانت قد وصلت للتو من البلدة، وحقيبتها الصغيرة مستندة إلى الحائط بجوار الباب. كانت السيدة باتريس تواسيها، وهي تسند يدها برفق على كتف مالينا بينما السيد باتريس يجلس جانبا وهو لايدري ما يتوجب عليه أن يفعله بالتحديد. تلعثمت مرحبا فرفع ثلاثتهم أنظارهم تجاهي. قرأت تعبيرات ملامحهم، ومن الطريقة التي نظرت بها إلي مالينا أدركت فورا ما قد حدث.

قالت السيدة باتريس: “أرسل والديك تحياتهم لك”، وكان صوتها يشي بخيبة أمل كبيرة.

أضاف زوجها قائلا: “سوف تصير أبا”، تحسبا في حال كان هناك أي خلط في الأمر.

تقدمت خطوة وأمسكت بيد مالينا وقدتها نحو غرفتي في الخلف دون أن أتبادل ولو كلمة واحدة مع السيد والسيدة باتريس. جلسنا صامتين تماما لفترة طويلة. لم يدخل أحد سواي الغرفة من قبل، فيما عدا تلك المرة الأولى التي قام فيها السيد والسيدة باتريس بعرض المكان علي. لم يبد على مالينا الحزن أو الغضب أو السعادة لرؤيتي. جلست على الفراش بينما وقفت أنا. تحرر شعرها من رباطه وكان يسقط مغطيا وجهها عندما تحني رأسها لأسفل، وقضت هي معظم الوقت في باديء الأمر وهي محنية هكذا.

سألتني: “هل افتقدتني؟”

كنت قد افتقدتها بالفعل – جسدها، أنفاسها، وضحكتها – لكنني لم أدرك ذلك حتى شاهدتها أمامي.

قلت: “بالطبع.”

“كان بإمكانك أن تكتب رسائل.”

“لقد قمت بذلك بالفعل.”

“بعد فترة.”

سألتها: “كم مضى من الوقت على الحمل؟”

“أربعة أشهر.”

“والأمر –”

“أجل”، قالت مالينا بصوت حازم.

تنهدت هي بعمق وقدمت أنا اعتذارا.

كانت لدى مالينا بعض الأخبار – من من الأشخاص توجه نحو المدينة، ومن رحل متوجها نحو الشمال. كانت هناك بعض حفلات الزفاف المزمع اقامتها في الربيع،  وبعضها لأناس نعرفهم بعض الشيء. وكما توقعت، كانت حادثة مقتل حارس الأمن حكاية كبيرة وأخبرتني مالينا أنها هي شخصيا لم تتمكن من النوم وهي تتسائل عما كنت أفعله وإذا ما كنت بخير. قامت بزيارة والدي اللذان حاولا اقناعها بعدم زيارة المدينة، أو على الأقل ليس وحدها.

“كان والدك سيأتي معي.”

سألت: “ولماذا لم يأت؟”

“لأنني لم أنتظره.”

جلست بجوارها على الفراش بحيث تلامس فخذانا. لم أخبرها أنني التقيت الضحية، ولا عن الدور الصغير الذي لعبته في مصيره، ولا أي شيء من هذا. تركتها تتحدث. أخذت تصف التغيرات الشكلية الطفيفة التي مرت بها بلدتنا خلال الأشهر التي غبت عنها فيها. كان هناك حديث يدور حول اعادة طلاء الجسر. هززت رأسي. كان جسدها قد بدأ بالفعل يظهر استدارة ملحوظة. وضعت باطن كفي على بطنها، ثم جذبتها نحوي. توقفت عن الحديث فجأة، في منتصف الجملة.

همست قائلا: “ستبقين معي، وسنكون سعداء.”

لكن مالينا هزت رأسها. كانت هناك نبرة قاسية في حديثها. قالت: “سوف أعود لبلدتنا، وسوف تأتي أنت معي.”

كان الوقت لا يزال مبكرا. وقفت ومشيت في أرجاء الغرفة الصغيرة. المسافة من الجدار للجدار المقابل مجرد عشر خطوات قصيرة  فقط. حدقت في صديقي المرسوم على لوحة التصويب. اقترحت أن نقوم بجولة في الحي قبل أن يحل الظلام. كان بإمكاني أن أري مالينا الميناء ومبني الجمارك. ألم تكن ترغب في رؤيتها؟

“وماذا هناك حتى أراه؟”

“الميناء والنهر.”

قالت: “لدينا ذات النهر في بلدتنا.”

ذهبنا على أي حال. لم يقل السيد والسيدة باتريس شيئا حين ذهبنا، وعند عودتنا في المساء الباكر وجدنا باب غرفتهما مغلقا. كانت حقيبة مالينا لا تزال بجوار الباب الأمامي وبالرغم من أنها حقيبة صغيرة تحوي طقما واحدا فقط من الملابس، فبمجرد أن قمت بنقلها بدت غرفتي أصغر حجما مما هي عليه بالفعل. حتى تلك الليلة، لم نكن أنا ومالينا قد قضينا الليل سويا في نفس الفراش. تلاصقت أجسادنا وتقلبنا في الفراش وفي نهاية المطاف بتنا وجها لوجه وقريبين من بعض للغاية. أحطتها بذراعي، لكنني أبقيت عيناي مغمضتان وأنا أستمع لهمهمات السيد والسيدة باتريس المكتومة وهما يتبادلان الحديث بقلق.

تسائلت مالينا: “هل هما دائما كثيري الحديث إلى هذا الحد؟”

لم أكن أستطيع تمييز كلمات حديثهما بالطبع، لكن كان بإمكاني أن أخمن فحواها. “هل يزعجك الأمر؟”

شعرت بمالينا تهز كتفيها وهي بين ذراعي. قالت: “لا يزعجني حقا، لكنه قد يزعجني لو كنا سنقيم هنا.”

بعد تعليقها هذا حل الصمت علينا، ونامت مالينا في سلام.

عندما خرجنا من الغرفة من أجل الافطار في صباح اليوم التالي، كانت ملامح وجهي مضيفي الاثنين متجهمة  وتفتقد الابتسامة. تنحنحت السيدة باتريس عدة مرات وهي تشير بيدها لزوجها بإلحاح متزايد حتى وضع شوكة الطعام أخيرا وشرع في الحديث. عبر عن أسفه بصفة عامة وعن احساسه بالإحباط وخيبة الأمل. قال: “نحن أسرة محترمة ولسنا من أولئك الناس الذين يروون الأكاذيب على سبيل التسلية. لقد ساهمنا في اعمار هذه المنطقة من المدينة.نحن أناس محترمون ولا نقبل التضليل.”

قالت السيدة باتريس: “نحن متدينين نذهب للكنيسة.”

قام زوجها بهز رأسه. كنت قد شاهدته وهو يستعد لحضور المراسم كل أحد بحرص شديد لا يمكن أن يتأتى إلا من إيمان قوي لا يراوده شك. كانت حلته بالغة النظافة وقمصانه ناصعة البياض، وكان يصفف شعره بدهان كثيف القوام بحيث يبدو تحت وهج الشمس وكأنه يرتدي تاج هلامي لامع.

“أيا كانت نوعية أنصاف الحقائق التي قصصتها على هذه الشابة، فهذا ليس من شأننا. يجب أن تسووا هذه الأمور بينكما. ليس لدينا أي أولاد، لكن يمكنك أن تتخيل شعورنا لو كان ابننا يتجول قائلا للجميع أنه يتيم.”

خفض حاجبيه وهمس قائلا: “شعور بالأسى البالغ والخيانة.”

“نحن لا نشك في طيبة أصلك يا فتى، ولا فيك يا…”

“مالينا،” قلت. “اسمها مالينا.”

“… حيث أن كلاكما من مخلوقات الإله الواحد الحق، وهو لا يخطئ أبدا فيما يتعلق بترتيب شؤون البشر، لذا فلا يمكننا أن نحكم عليكما. ليس علينا سوى أن نتقبل بكل خضوع المسئولية التي حملنا إياها الرب.”

كانت سرعة حديثه تتزايد، ولم يكن لدينا خيار آخر سوى الاستماع إليه. مدت مالينا يدها لتمسك بيدي أسفل المائدة، وقام كلانا بهز رأسه.

“وقد أحضركما الرب هنا أنتما الاثنين، لذا فيجب أن تكون مشيئته أن نقوم برعايتكما. لا ننتوي طردكما في مثل هذا التوقيت الحساس، فمثل هذا العمل سيكون خاطئا. لكننا نريد أن نطلب منك تفسيرا للأمر، وسوف نحصل عليه منك يا بني. سوف تقدمه لنا لو كنت ستتعلم معنى الاحترام ومعنى أن تكون مواطنا صالحا سواء في هذه المدينة أو في أي مدينة غيرها. أخبرني: هل تدرس بالفعل؟”

“كلا.”

قال السيد باتريس: “لم أكن أظن ذلك.” تجهمت ملامحه وهز رأسه بجدية وهو يواصل حديثه. برد طعام الافطار. في نهاية المطاف حل دوري أنا كي أتحدث لكن عندئذ لم يكن لدي الكثير لأقوله ولم تكن لدي أي رغبة لتقديم أي تفسيرات.

رحلت أنا ومالينا بعد الظهيرة في ذلك اليوم.

مررت على الدكان أولا حتى أرتب أموري. بعد أن شرحت الموقف لنضال، عرض أن يساعدني. قال أنه يحب تزوير الأوراق الرسمية. كان الأمر يذكره بأيام أفضل حينما كان لا يزال يعمل. صنعنا نسخة من الوثيقة الأصلية ثم قمنا بتصحيحها بحيث تحمل اسمي. غيرنا العنوان وتاريخ الميلاد، وسجلنا التفاصيل المتعلقة بطولي ووزني باستخدام الآلة الكاتبة العتيقة التي كانت لدى نضال منذ أيام عمله في الجمارك. أخذ يصفر طوال عمله وبدا من الواضح أنه مستمتع بشدة. قال لي: “لقد جعلت شيخا يشعر وكأنه شاب مرة أخرى.” أعدنا طباعة الوثيقة على ورق عالي الجودة، وباحتفاء شديد، أخرج نضال صندوقا تعلوه الأتربة من أسفل مكتبه.كان الصندوق يحوي الأختام الرسمية التي قام بسرقتها عبر السنوات. كان هناك أكثر من اثنا عشر ختما، بما فيهم ختم من مكتب الأمين العام للقوات الوطنية للدفاع القومي – أي من الديكتاتور ذاته. كان له مقبض من الصدف وصورة زخرفية معقدة من الختم القومي. لم أر مثله من قبل. أخبرني نضال أنه تذكار من علاقة مع امرأة بدون ضمير كان يلتقيها مرتين أسبوعيا فكانت تغطي جسده بآثار العض والخدوش الشديدة وتصرخ بشدة عندما يمارسان الحب لدرجة أنه كان يتوقف أحيانا ليتعجب من صوتها. قال نضال: “كانت مثل الجنيات.” كانت على علاقة مماثلة بالديكتاتور، وتبعا للمرأة، فقد كان يهوى تزيين جسدها العاري بالختم ذاته. علت وجه نضال ابتسامة. كان بإمكانه أن يدعي أنه كان في أوج قوته قريبا للغاية من كرسي الحكم.

قال نضال: “لكن الملك بالطبع مات، وأنا لا أزال حيا.”

كان لكل ختم من الأختام حكاية كهذه، وكان يستمتع بروايتها – مصدر الختم، وأي هيئة كان يمثلها، وكيف تم استغلاله واساءة استغلاله عبر السنوات ولأي هدف. وبالرغم من أن مالينا كانت تنتظرني، فقد قضينا حوالي ساعتين ونحن نختار الختم المناسب. بعد ذلك وضعنا الوثيقة المزورة ولوحة التصويب التي أنزلتها من فوق الحائط في ذلك الصباح داخل مظروف للأوراق الرسمية، وختمنا المظروف أيضا.

تعانقت أنا ونضال. قال لي: “سوف تكون لك وظيفة هنا دوما.”

عدت للبلدة أنا ومالينا ذلك اليوم مستقلين حافلة قديمة تعمل بين المقاطعات. نامت ورأسها ملقى على كتفي، وعندما شاهدت المدينة وهي تختفي ليحل محلها السهول الممتدة وحدود الريف الناعمة، لم أكن أشعر بالتعاسة. في صباح اليوم التالي، قدمت أوراقي في البنك الكائن في البلدة الواقعة على الجهة المقابلة من الجسر لبلدتي. قال المدير: “نحن بحاجة لحارس أمن. ربما تكون قد سمعت بما حدث للحارس الأخير الذي كان لدينا.” كان يرمش بعينيه كثيرا بينما هو يتحدث. “لا زلت صغيرا  في السن، لكنك تعجبني. لا أدري لماذا، لكن شكلك يعجبني.” ثم تصافحنا. صرت في بلدتي مرة أخرى.

…..

ولد ابني في ذلك العام قبل الكريسماس مباشرة، وفي شهر مارس أخذت الصحف تنشر أخبارا عن سلسلة من عمليات السطو على البنوك في الأقاليم. كان منفذي هذه العمليات من المجرمين المدانين في جرائم سابقة، والأجانب، أو الجنود الذين صاروا عاطلين عن العمل منذ أن شرعت الحكومة الديموقراطية في تقليص أعداد الجيش. لم يوجد هناك أحد لديه معلومات مؤكدة، لكن الأمر كان جديدا ومثيرا للقلق، حيث أن هذه النوعية من الجرائم كانت قاصرة من قبل على المدينة وأحيائها الفقيرة. شعرالجميع بالخوف، وبالأخص أنا. كان كل تقرير عن حادثة ما مروعا أكثر من الذي يسبقه. على مبعدة نصف ساعة فقط باتجاه منبع النهر، قتل اثنين من الموظفين بعد أن خيبت محتويات الخزينة آمال المجرمين. قاموا بالسطو على بنكين في ذلك اليوم، وأطلقوا الرصاص على الشرطة التي كانت تطوق البنك الثاني فقتلوا شرطيا وأصابوا آخر. أشيع أنهم كانوا يتنقلون عبر روافد النهر، ويختبئون في الخلجان المنتشرة بطول شواطيء النهر التي تغطيها الغابات الكثيفة. بالطبع، كانت مجرد مسألة وقت. كان البنك الذي أعمل به يتلقى إيداعات كبيرة من مصنع الأسمنت مرة كل أسبوع وكان العديد من العمال يصرفون شيكاتهم لدينا في أيام الجمعة بعد الظهيرة مرتين شهريا.

قرأت مالينا الصحف واستمعت للشائعات وسجلت في ذهنها التفاصيل الخاصة بكل عملية من عمليات السطو والتي أخذت تتزايد في حدة العنف. سمعتها تخبر الأصدقاء أنها لا تشعر بالقلق، وأنني أجيد التصويب، لكن فيما بيننا كان موقفها واضحا تمام الوضوح. قالت لي: “اترك عملك. لدينا ابن لنقوم بتنشئته. يمكننا العودة للمدينة.”

لكن شيئا ما قد اختلف. كنا نعيش ثلاثتنا في نفس الغرفة التي نشأت فيها أنا. غمرت ابننا بعواطف جياشة لدرجة أنني كنت بالكاد أشعر إنه ابني أنا أيضا. كان الولد جائعا على الدوام وكنت أستيقظ كل يوم قبل الفجر عند بكائه وأشاهده وهو يرضع بنهم أتفهمه تماما وأذكره: كان ذلك هو نفس احساسي عندما هربت للمدينة قبل نحو عام من الآن. بعدها لم يكن يمكنني العودة للنوم وكنت أتسائل متى وكيف أصبحت أنانيا للغاية هكذا، وكيف يمكنني التصرف حيال هذا الأمر، لو كان هناك شيء بالفعل يمكن عمله. لم يكن أي من تصرفاتي ملك لي. كنت أحيا نوعا من الحياة، قبل أن تأتي يد قوية وعنيدة لتخطتفني بعنف وتشدني لحياة من نوع آخر. حاولت أن أتذكر نظام يومي في المدينة، لكنني فشلت في ذلك.

لم يبد باقي العالم وكأنه بعيد للغاية لهذا الحد من قبل.

قرب نهاية الصيف سطت العصابة على معظم البلدات في مقاطعتنا. عندئذ اقترح والدي أن نزور المزرعة القديمة. كان سيعلمني كيفية استخدام المسدس. حاولت أن أخبره أنني أعرف بالفعل لكنه لم يبد اهتماما بحديثي.

قال لي: “ستقود أنت السيارة.”

غادرنا البلدة في يوم سبت حار حرارة لامتناهية وثقيلة الوطأة، وأزيز الطريق أسفل السيارة مثل شريط من القار اللزج. وصلنا قبل الظهيرة مباشرة. لم تكن هناك أي ظلال. كان الطريق المغطى بالحصى والمليء بالأخاديد من آثار الإطارات يؤدي مباشرة للمنزل الذي كانت مصاريعه مغلقة، وبدا قديما ومتهالكا وكأنه كعكة تالفة. نزل والدي من السيارة واستند إلى غطاء المحرك. تلوت خلفنا سحابة منخفضة من الغبار كثعبان حتى الطريق الرئيسي. حركت نسمة خفيفة الحشائش الطويلة في الحقول، لكنها لم تلطف من حرارة الجو. أخرج زجاجة من شراب الروم وارتشف منها قليلا قبل أن يجذب حافة قبعته فوق عينيه. كان وهج الشمس قاسيا. كان في السابعة من عمره عندما توفي جدي وانتقلت جدتي مع الأسرة من هذه المزرعة للإقامة في البلدة. ناولني الزجاجة، وناولته السلاح. حمله بالذخيرة وعلى وجهه ابتسامة ، ودون أن نتبادل الحديث تبادلنا اطلاق النار على الجدران المتهدمة لمنزل جدي.

مرت ساعة هكذا. حطمنا ما تبقى من نوافذ ودرنا حول المنزل باتجاه دوران عقارب الساعة لنجرب الهجوم من زاوية أخرى. صوبنا باتجاه الإفريز أسفل السقف مباشرة وبعد عدة محاولات أصبنا الدوارة التي تتحرك لتدل على اتجاه الريح حتى دارت بجنون في حرارة وسكون مابعد الظهيرة. أسقطنا رقم المنزل من على الباب الأمامي، وخلعنا مزراب صرف الأمطار من الركن الذي ظل متشبثا به طوال خمسة عقود. نشرت الثقوب في واجهة المنزل المنهك بالكامل. وقف والدي متفرجا، وتخيلت أنه فخور بي.

سألني بعد أن انتهينا: “كيف تشعر الآن؟” جلسنا متكئين بجوار الجدار الشرقي الظليل.

كان المسدس لا يزال دافئا في يدي. “لا أعرف.” قلت: “فلتخبرني أنت.”

خلع قبعته ووضعها بجانبه. “أنت لا تجيد التعامل مع هذا المسدس. يجب أن تصوبه وكأنك تعني اطلاق النار بالفعل.”

“لكنني لا أعني ذلك بالفعل.”

“لا بأس أن تشعر بالخوف.”

قلت: “أعرف ذلك، وأشعر بالخوف بالفعل.”

“جيلك سيء الحظ. لم يكن مثل هذا ليحدث أبدا من قبل. لم تكن الحكومة القديمة لتسمح بهذا.”

هززت كتفي. كانت لدي بطاقة تذكارية تحمل صورة الجنرال المقتول مخبأة في حقيبة بالمنزل. كان بإمكاني أن أريها لوالدي في أي وقت وفي أي لحظة فقط لأثير غضبه أو حزنه أو الاثنين معا، وبطريقة ما كانت معرفتي بهذا الأمر تجعلني أشعر بالسعادة.

“هل تستمتع بالأمر؟” سألني: “هل تستمتع بكونك أبا؟”

“أي نوع من الأسئلة هذا؟”

“هذا ليس نوعا من الأسئلة، بل هو مجرد سؤال. لو كنت ستعد كل ما يتفوه به والدك على  أنه اهانة فستصبح حياتك لا تطاق –”

“أنا آسف.”

تنهد. “هذا لو لم تكن لا تطاق بالفعل.”

جلسنا نتأمل الحرارة وهي تتصاعد من الأرض الساخنة كجوف فرن.  بدا من الغريب أن علي انكار هذا الأمر أمام والدي – أن حياتي كانت لا تطاق.  ذكرت الجسر، ولونه الجديد، لكنه لم يكن قد لاحظه.

استدار ليواجهني. “أتعلم، لا زلت أنا ووالدتك في شبابنا.”

“بالتأكيد أنتما كذلك.”

“شابين بما فيه الكفاية وبصحة جيدة. ولازال بإمكاني العمل لبضع سنوات أخرى.” ثنى ذراعه ومده أمامي حتى أرى عضلاته. قال: “انظر. المسها لو أردت. لازال والدك العجوز قويا.”

كان يتحدث بتأني بالغ الآن، وراودني احساس أنه قد قام سلفا بتجهيز كلماته التي ألقاها علي بعد ذلك. “نحن لانزال شبابا، لكنك أنت لازلت صغيرا للغاية. أمامك حياتك بأكملها لتحياها. بامكانك أن ترحل لو أردت، وأن تبحث عن حياتك تلك في مكان آخر. اذهب لتفعل أشياء وتشاهد أماكن مختلفة. يمكننا أن نعتني بالطفل. أنت لا تريد أن تكون هنا، ونحن نتفهم ذلك.”

“عما تتحدث؟”
قال: “أمك أيضا توافق. لقد تحدثنا في الأمر. سوف تفتقدك لكنها تقول أنها تتفهم الأمر.”

حملقت فيه. “وماذا عن مالينا؟”

“لن ندعها تحتاج أي شيء.”

أمسكت المسدس ونفضته من التراب. تفحصته كي أتأكد أنه خال من الذخيرة ثم ناولته إياه.

سألته: “متى؟”

“في أي وقت.”

ثم قفلنا عائدين ولم نتحدث سوى عن الطقس والانتخابات. لم يهتم والدي كثيرا بالادلاء بصوته، لكنه كان يعتقد أنه لو كان صاحب المصنع يرغب في أن يصير عمدة للبلدة فبإمكانه أن يفعل. كان الأمر سيان بالنسبة له. كانت كل الأمور سيان بالنسبة له. امتلأت  السماء بالسحب البيضاء المنتفخة  لكن درجة الحرارة لم تنخفض. أو ربما كان هذا مجرد احساسي الشخصي فقط. بالرغم من ابقاء النوافذ مفتوحة، تصببت عرقا حتى ابتل قميصي والتصق ظهري وفخذاي بالكرسي. لم أضف الكثير للحديث الدائر، فقط اكتفيت بالقيادة محملقا أمامي وأنا أفكر فيما أخبرني به والدي. كنت لا أزال أفكر في الأمر بعدها بأسبوعين عندما تعرضنا لعملية سطو.

لم يكن الأمر أفضل أو أسوأ مما كنت أتوقعه. طلب مني أن ألقي كلمة في جنازة المدير، ولدهشتي لم أستطع الحديث بسهولة. وقفت أمام غرفة مليئة بأفراد الأسرة والأصدقاء المصابين بالصدمة وأنا ألقي عليهم بعض الكلمات الفاترة عن ذكرى الفقيد ولطف طباعه. وجدت أنه من المستحيل أن أبادل أحدهم النظر مباشرة. كانت مالينا تحمل ابننا بين ذراعيها، ومرت الأمسية دون أن أنتبه لشيء حولي حتى اتجه ثلاثتنا نحو ركن الصالون المظلم حيث كانت الأرملة الشابة تتلقى التعازي. شكرتني على كلماتي، ولاعبت ابننا. سألت: “كم عمره؟” لكن قبل أن نتمكن أنا أو مالينا من الإجابة، احمر وجهها وانهمرت دموعها ولم يكن هناك ما يمكن أن ينطق به أي منا. اعتذرت وودعت مالينا بقبلة، قبل أن أتسلل من الباب الخلفي. كان مساء دافئا، والبلدة ساكنة والنوافذ والأبواب مغلقة. كنت بالكاد أستطيع التنفس. لم أعد للمنزل أبدا في تلك الليلة، وهذه المرة كانت مالينا تعلم بالطبع ألا ترحل ورائي باحثة عني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دانيال الاركون كاتب أمريكي ولد في ليما عاصمة بيرو عام 1977 ويعيش في سان فرانسيسكو بكاليفورنيا؛ وهو كاتب زائر مشهور في كلية ميلز وكلية كاليفورنيا للفنون. في ربيع عام 2013 أصبح زميلا زائرا في برنامج “يو سي بيركلي أننفستيغيتف ريبورتنغ بروغرام”. ينشر أعماله في مجلات”ذا نيويوركر” و”هاربرز”و”غرانتا”فرجينيا كوارترلي ريفيو”. في 2010 ظهر اسمه في قائمة النيويوركر كواحد من أهم 20 كاتب من الكتاب الواعدين في أمريكا تحت سن الأربعين وقبل ذلك بثلاث سنوات ظهر اسمه في قائمة مشابهة خاصة بأدب أمريكا اللاتينية، “بوجوتا 39” والتي تضم 39 من الكتاب الواعدين في أمريكا اللاتينية تحت سن 39 بوصفه من أصول من بيرو. القصة من مجموعته القصصية التي تحمل نفس العنوان وصدرت عام 2009

مقالات من نفس القسم