شاعرية الطفولة.. في “مقالات فريتز كوشير” للأديب السويسري روبير فالزير

روبير فالزير
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تقديم وترجمة: عثمان بن شقرون

تقديم:

“الطفل الذي كتب هذه المقالات توفي بعد وقت قصير من مغادرته المدرسة. لقد واجهتُ بعض الصعوبات في إقناع أمه، وهي سيدة جليلة وعزيزة، بأن تعهدَ بها إليَّ من أجل نشرها. من المفهوم أنها كانت مرتبطة جدا بهذه الصفحات التي كان من المفروض أن تُبْقي بداخلها ذكرى ابنها الحُلوةَ والمُرَّةَ متيقظةً. أخيرا لم تُسلِّمْها لي إلا بعد أن طمأنتُها بأنّي كنتُ أرغبُ في نشرها كما كتبها فريتز Fritz، دون أن أُجري عليها أية تغييرات. قد تبدو هذه المقالاتُ للكثيرين وفي مواضعَ كثيرةٍ غيرَ صبيانيةٍ على الإطلاق، وفي مواضعَ عدةٍ أخرى صبيانية أكثر من اللازم. لكن أتوسل إلى القارئ أن يأخذ بعين الاعتبار أن يدي لم تغير أيَّ شيءٍ. يمكن للطفل أن يتكلم بطريقة حكيمة جدا وبلهاء جدا في نفس الوقت تقريبا: هكذا كان الحال في هذه المقالات. أخذتُ إذنا من والدة الطفل مع كل المجاملة والامتنان اللذين كنتُ قادرا عليهما. لقد باحت لي بالكثير من التفاصيل عن حياة ابنها، وهي تتطابق بشكل رائع مع السمات التي تظهر في تلك الواجبات المدرسية، والتي يمكن قراءتها هنا. لقد مات مبكرا هذا الضحوك المبتهج والرصين جدا. عيناه، اللتان أتخيلهما ضخمتين ومشرقتين، لم تريا شيئًا من العالم الشاسع الذي كان يتوق لاكتشافه. سيكون لهما على الأقل موهبة البقاء مفتوحتين ملء الجفون على عالمه الصغير الذي كان له وحده، وأنا على يقين بأن القارئ الذي سيقرأ هذه المقالات لن يخالفني الرأي. وداعا أيها الصبيُّ الصغير! وداعا أيها القارئ!”

هذه هي التوطئة التي بدأ بها روبير فالزير كتابه الأول الذي يحمل عنوان «مقالات فريتز كوشير – Fritz Kocher’s Aufsätre ” وهو أول كتاب لروبير فالزير. صدر سنة 1904 عن دار النشر Die Insel . حينها لم يكن يبلغ سوى ست وعشرين سنة. كما أن هذا الكتاب في فكرته الأولى لم يكن يحتوي سوى على عشرين مقالة والتي لم تصنع السماكة المطلوبة للكتاب، حينها أضاف ثلاثة نصوص أخرى: الناسخ، والرسام، والغابة…. تحت العنوان العام: “مقالات فريتز كوشير.

يتكون كتاب “مقالات فريتز كوشير” من نصوص نثرية قصيرة. نصوص متفاوتة الطول يقترحها المؤلف، في لعبة من المرايا، على أنه عمل لتلميذ مراهق توفي قبل الأوان، وأن فالزير نفسه كما يشرح في تقديم غامض، قد كرس نفسه لنشر هذه المقالات. من أجل تخليد ذكراه وإرضاء رغبات أم الصبي الحزينة. إن وضع هذه المسافة الأولية أمر نادر كإجراء في أعمال فالزير ولكن كما في بقية كتبه، يتصرف الضمير المتكلم كخالق لتصوراته، على الرغم من أنه في هذه الحالة من خلال استحضار شخص وسيط يحاول تمويه صوت المؤلف. نجد سلفا في المقدمة التسويغية مؤشرات فالزيرية على نحو خاص (مثل شخصيته الأسلوبية) التي تلخص تمامًا طريقته في تصور الكتابة، من خلال تعريف نصوص الكتاب على أنها طفولية، وناضجة أيضا.

 يُظهر فريتز كوتشير، في كل واحدة من هذه المقالات، آراءه الشخصية أو تلك التي استخلصها بواسطة تكوينه بذريعة استكمال تمارين الكتابة المدرسية الموكلة إليه، وبكونها في آن واحد التزاما وكتابا مفتوحا من تصوره الشخصي للعالم، وبأن تصبح كلماته في نوع من مذكرات عفوية للأفكار. وهو الأمر الذي سيسم كل كتابات فالزير. وحيث سوف تحل المفارقات المعجمية والمفاهيمية من هذا النوع محل أعمال روبير فالزير بأكملها وتجعل أدبه نوعًا من التنقيب بين الأضداد والتناقضات والطفرات في المعنى ومعنى الأشياء والمفاهيم، وسفرا مستمرا من الواقعي إلى اللاواقعي. لذلك تم عرض العمل على أنه مجموعة من الملاحظات أو من الواجبات الكتابية المدرسية، ساذجة وبريئة في ظاهرها، والتي تغطي عددًا لا يحصى من الموضوعات: (الإنسان والطبيعة والفقر والصداقة والتهذيب والمدرسة والمهن والوطن…)،  من منظور التلميذ، مما يلغي أي تلميح لحيلة أو تحوير أو بساطة زائفة التي ستشكل سمة مميزة لهذا العمل، بشكل خاص، وفي كتب روبير فالزير الذي كان يُخضع كتاباتِه لنوع من الصدفة أو التجوّل من فكرة إلى أخرى دون مغزى ظاهر، كان يترك نفسه ينقاد، كما لو أن الأفكار كانت تنبثق مع نفس القوة التي سوف تتلاشى بها تدريجيا. وفي وقت لاحق، حتى الانتقال من فكرة إلى نقيضها، كان لا يجعل مما يحكي سوى نادرة، التي هي في العمق، تُخفي بين السطور دلالات وإيحاءات معقدة للغاية.

ونظرًا لأن كتاب فالزير يتم تقديمه على أنه كتاب نجا من الضياع، وخطه طفل مات قبل أن يكبر، ولأنه قدمه شخص قام بتجميعه ونشره، فيمكننا القول إنه بعد وفاة الطفل، يعد هذا الكتاب بداية خيالية في تقليد أدبي. ومصدر هذا التقليد هو شخص عديم الفائدة اسمه فريتز كوتشر: طفل يتحدث عن أشياء للبالغين ولكنه مات قبل أن يصبح بالغًا. مع هذه الحيلة المتمثلة في النظر إلى العالم من منظور صبي ساذج وفضولي. لقد ابتكر روبير فالزير من خلال فريتز كوشير عالماً من الحرية. غير معقد، يمنج القدرة على التحدث ومشاهدة الواقع (ونفسه) عن طيب خاطر. يدلي، مرارًا وتكرارًا، باعترافات حميمة، ويأخذ مواقف تجاه الناس والعالم، ويثبت أنه محتلم، مبكر النضج، مجنون، حساس، وقح، يتصرف بشكل جيد، فقط لييتم قبوله. ومن المؤكد أن أنواع النصوص الطفولية مثل المقالات المدرسية أو مذكرات الطلاب تبدو مناسبة للأدب وفي العديد من نصوصه يتم أخذ منظور السرد وموقع المتحدث للطفل، كما أن هذه الحبكة  توضح أنها الوسيلة المثالية بالنسبة لفالزير التي تمنحه الطاقة الطفولية الفريدة لإبداعاته وأوجه الغموض المتذبذبة فيها. وتكشف بالفعل عما سيجعل عمله فريدًا ورائعًا: السذاجة الدقيقة في نظرته إلى العالم. ولعبه بالشكل الأدبي للكتابة المدرسية، حيث تبدو الحكمة في البداية بشكل مفاجئ، ثم تبدو بشكل أكثر استفزازا. وهي حداثة أدبية حقيقية زمن كتابة هذا النص /المقالات. التي قوبلت في الماضي بغرابة ونفور كبيرين وهي اليوم تحظى بإشادة واسعة.

وجدير بنا أن نقف على أحد منظورات فريتز كوشير الساذجة والطفولية لعالم الشغل الذي ينتظر هذا المؤلف الشاب من خلال نص: “المهنة” من بين نصوص مشابهة من هذا الكتاب:

***

الترجمة:

المهنة

لكي يكون المرء قادرًا على أن يحيا حياة شريفة في هذا العالم، يجب عليه أن يملك مهنة. لا يمكننا الاكتفاء بالعمل هكذا يوما ليوم. يجب أن يكون للعمل طابع محدد وهدف لا بد أن يبلغه. لتلبية هذه الشروط نختار مهنة ما. يحدث ذلك في اللحظة التي نترك فيها المدرسة، وهو حدث يجعلك شخصًا بالغًا، بمعنى أنه أمامك الآن مدرسة أخرى: الحياة. يقال إن الحياة مُدرٍّسٌ صارم، وينبغي أن يكون هذا صحيحًا لأن هذا هو الرأي العام. يجب أن نكون قادرين على اختيار المهنة التي تثير رغبتنا، وعندما لا يُسمح لنا بذلك، يكون قد اُقْتُرِف في حقّنا ظلم. أرغب في كل أنواع المهن، وهذا يجعل الاختيار صعبا. أعتقد أنه سيكون من الأفضل أن أزاول مهنة من المهن، ربما أول مهنة أصادفها، سأجربها، ثم إذا أزعجتني سأتركها. لأنه كيف لك أن تعرف شكل المهنة من الداخل؟ يبدو لي أنه عليك تجربتها أولاً. من غير الممكن أن تطلب من عقول عديمة الخبرة مثل عقولنا أن تصدر أحكامًا دون أن تضع نفسها موضع السخرية تمامًا. الأمر متروك حصرا لوالدينا وذوقهم في أن يختاروا لنا مهنة. لأنهم الذين يعرفون أفضل ما نجيده. إذا أردنا شيئًا أفضل مما خططوا له طوال حياتنا، فسيكون هناك دائما وقت لاحق، لتغيير الاتجاه. ومع ذلك دون النزول إلى رتبة سائس الخيول. لا، هناك حالات نادرة جدًا يمكن القول إننا تعرضنا فيها للظلم. — أمنيتي أن أكون قبطان سفينة. لكنني أتساءل عما إذا كان والداي سيوافقان على هذه الأمنية. إنهما يحبانني كثيرًا وسيقلقان عليّ إذا علما أنني سأتعرض لعواصف المحيط. الأفضل في نهاية المطاف، هو الإبحار دون قول أي شيء. مثل هذا، في إحدى الليالي وعبر النافذة، وبالنزول على الحبل، و..  وداعا. بالطبع لا ! ليس لدي قلب لأخدع والدي، ومن يدري ما إذا كان لدي حقًا ما يلزم من الزاد لأكون قبطان سفينة. صانع الأقفال ونجار أو خراط، أمور مستبعدة. بالنسبة لشخص يكتب مقالات مثل مقالاتي، فإن هذا النوع من المهن غير مناسبة له. ستكون مهنة مُجَلِّد الكُتُبٍ أمرا لطيفًا، لكن والدايَّ لن يرغبا في الموافقة عليها لأنهما يعتقدان، وأنا أعلم، أنني أستحق أفضل من ذلك. شريطة فقط ألا يرغمانني على متابعة الدراسة. قد تتحول الأمور إلى الأسوأ. أفتقد إلى الرغبة لكي أكون طبيبا، وإلى الموهبة لكي أكون قِسَّا،  ولا رجل قانون أيضا لأني لا أحب الجلوس، أما بالنسبة للمدرس … الموت بدلا من الفشل. أساتذتنا، على أي حال، كلهم بقدر ما هم، ليسوا سعداء، يكفي أن تنظر إليهم. حارس الغابة، أود ذلك. كنت سأبني لي منزلا صغيرا مكسوّا باللبلاب على حافة الغابة وأقضي اليوم في التجول داخل الغابة حتى حلول الليل. ربما مع مرور الوقت سينتهي بي الأمر إلى الملل وسأشتاق إلى رؤية المدن الكبيرة الأنيقة. باعتباري كاتبا أود أن أعيش في باريس، وموسيقيا في برلين، وتاجرا في كل مكان. فليشرعوا بوضعي في مكتب وسنرى بعد ذلك. أود فقط أن أقول شيئا آخر: أن أكون فنانا في السيرك، وهذا من شأنه أن يسعدني. بهلوان مشهور، مع، وعلى الظهر، ألعاب نارية، والنجوم فوق رأسي، والهاوية إلى جانبي، وهذا الحبل الرقيق الجميل أمامي للسير عليه… مهرج؟ نعم، أشعر أن لديَّ موهبة للفكاهة. ولكن هذا سوف يسبب ألما لوالديَّ إن عرفا بوجودي على خشبة المسرح بأنف كبير مطلي باللون الأحمر، ووجنتين ملطختين بالدقيق وأطفو في ثوب مثير للسخرية. ماذا إذن؟ هل أظل أئن في المنزل؟ هذا لن يحدث أبدا. شيء واحد مؤكد، أنا لست خائفا من المهن. هناك الكثير منها.”

 

 

 

مقالات من نفس القسم