نصّ : هارولد لامب
ترجمة : سعدي يوسف
( القسم الأوّل )
الإطْباقُ…
عندما انحدرَ الشاه من سلاسل الجبال العالية، انعطفَ شمالاً، مع جحفله، نحو نهر ” سِير “، منتظِراً جيش العدوّ، وفي نيّته أن يدخل المعركة، حين يحاولُ جيشُ العدوّ عبورَ النهر.
لكن انتظاره كان بلا طائل.
وكي ندرك الآنَ، ما حدثَ، علينا أن ننظر إلى الخريطة. نِصفُ الإقليم الشماليّ من امبراطورية محمد كان وادياً خِصباً، النصف الآخر كان قاحلاً ذا سهولٍ رمليّةٍ، وطينٍ أحمرَ، مغبرّ، ورياحٍ سافيةٍ.
هكذا كانت المدن على ضفاف الأنهار، وبين التلال.
نهران عظيمان يجريان في الشمال الغربيّ، عبر الأرض الصحراويّة، لتنْصَبّ مياهُهُما، بعد ستمائة ميل، في بحر آرال المالح. أوّلُ هذين النهرَين هو نهر “سِير “. هنا مدنٌ مسوّرةٌ، وطرُق قوافل _ نوعٌ من سلسلة لحياة الناس ومنازلهم، تمتدّ حتى البيداء.
النهر الثاني، إلى الجنوب، هو نهر ” آمو “.
وعنده ترتفع قلاعُ الإسلام : بُخارى وسمرقند.
أقامَ الشاه معسكرَه خلف نهر ” سِير “، غير قادرٍ على معرفة إنْ كان المغول يتحرّكون.
كان ينتظرُ جيوشاً جديدةً من الجنوب، وعوائد الجِزْية.
التعبئةُ بلغِتْها أنباء مقلِقة.
لقد شوهِد المغولُ ينحدرون من الممرّاتِ العالية التي تقع على مبعدة مائة ميل إلى يمينه، وتكاد تكون في مؤخرة جيشه.
الذي حدثَ، أن شِيبَي نويون، بعد أن تركَ جوشِي، قد قطعَ الجبالَ نحو الجنوب _ هكذا غافلَ الوحدات التركيّة التي كانت تراقب هذا الطريقَ إلى خوارزم، وهو الآن يُغِذُّ السيرَ، بسهولةٍ، حول منجَمَدات أعالي الآمو. إن سمرقند، في طريقه، ليست أبعدَ من مائتي ميلٍ.
لم يكن لدى شِيبي نويون أكثر من عشرين ألف رجل، لكن لم يكن بمقدور الشاه معرفة ذلك.
محمد، الآن، بدلاً من تعزيز قوّاتِه، صار معرَّضاً لأن ينقطع عن خطّ دفاعه الثاني والرئيس، نهر الآمو، بمدينتَيه العظيمتين، بُخارى وسمرقند.
بعدَ أن أحسّ محمد بالخطر المحدِق، فعلَ أمراً ظلّ مؤرِّخو الإسلام في التالي من الأعوام، ينتقدونه :
لقد قسَمَ نصفَ جيشه بين المدن المحصّنة.
أربعون ألفاً أُرسِلوا لتعزيز الحاميات على امتداد نهر ” سِير “، وسار جنوباً، مع معْظم قوّاته، مصنِّفاً ثلاثين ألفاً نحو بُخارى، وسائراً مع البقيّة نحو سمرقند، المهدَّدة.
فعلَ ذلك ظنّاً منه أن المغول غير قادرين على اقتحام قلاعه، وأنهم سيتراجعون بعد فترة من الغارة والنهب.
كان على خطأٍ في الحالَين.
حتى قبل أن يظهر إبنا الخان عند أطرار، أسفلَ نهر السِّير، شمالاً. أطرار التي قتلَ حاكمُها التجّارَ المغول.
كان إيناليوك، الذي أمرَ بإعدام التجّار المغول، لا يزال حاكم المدينة.
كان يعرف أن المغول لن يرأفوا به، فتحصّنَ داخل القلعة مع نُخْبةِ رجاله. وصمدَ خمسة أشهُرٍ.
قاتَلَ حتى النهاية، لائذاً ببُرْجٍ عندما أبادَ المغولُ رجاله أو أسَروهم. وعندما نفدتْ سِهامُه صار يلقي الحجارة على أعدائه. أسِرَ حيّاً، بالرغم من هذه الإستماتة، وأُخِذَ إلى الخان، الذي أمرَ بِصَبِّ فضّةٍ
ذائبةٍ في عينَيه وأذنَيه، جزاءَ فِعْلَتِه.
هُدِمَتْ أسوارُ أطرار، وطُرِدَ سكّانُها.
بينما كان هذا يجري، اقتربَ جيشٌ مغوليٌّ آخرُ من نهر السِّير، واستولى على طاشقند.
نفيضةٌ ثالثةٌ اندفعتْ نحو النهاية الشمالية للسِّير، مقتحمةً البلداتِ الصغيرةَ.
الحامية التركية أخْلَتْ جُنْد، واستسلمَ الأهالي بعد أن نصبَ المغول سلالمَهم واعتلَوا الأسوارَ.
في حالاتٍ كهذه، في السنة الأولى من الحرب، كان المغول يبيدون محارِبي الشاه والحاميات التركيّة.
أمّا السكّان، وكانوا فُرساً في الغالبِ، فقد أُخرِجوا من المدينة، كي تُنهَبَ المدينة بلا إزعاجٍ.
الأسرى سيتمُّ تصنيفُهم، الأقوياء يُحتفَظُ بهم ليعملوا في حصار المدينة التالية، والصُّنّاعُ يستخدَمون لصالح الغُزاة.
حدثَ مرّةً، أنّ تاجراً مسْلِماً، مبعوثاً من المغول، مزّقَه رجالُ البلدة، ممّا جعل المغول يعصفون بالمدينة.
وهكذا أُبِيدَ كلُّ مَن حملَ سلاحاً من أهل البلدة.
جنكيز خان لم يظهر البتّةَ، على نهر السِّير.
لقد اختفى، آخذاً معه وسطَ الجحفل.
لا يعرف أحدٌ أين قطعَ النهرَ، أو إلى أين مضى.
لكن ْ يبدو أنه استدارَ استدارةً واسعةً، عبر صحراء الرمال الحمراء ؛ ذلك لأنه ظهرَ خارج الفلاة، متجهاً بسهولةٍ، إلى بُخارى، من ناحية الغرب.
لم يكن محمد مهدّداً بالإلتفاف فقط.
كان في خطر الإنقطاع عن جيوشه الجنوبيّة، عن ابنِه، والتعزيزات، والأراضي الغنيّة لخراسان وفارس.
وبينما كان شِيبَي نويون يتقدم من الشرق، كان جنكيزخان يتقدم من الغرب، أمّا الشاه في سمرقند فقد كان يشعر بأنّ فكّي الفخِّ يُطْبِقان عليه.
في هذه الحيرة المُطْبِقةِ،قسمَ جيشَه الرئيسَ بين بُخارى وسمرقند، ومرسِلاً الأتابِكَ نحو بلخ وقندوز. وغادرَ سمرقند فقط بحاشيته من النبلاء، وأفيالِه، وجِماله، وخدمِه. كما أخذ معه، خزينتَه، وعائلتَه، وهو يقصدُ العودةَ على رأس جيش جديد.
كان خائباً في هذا الأمل أيضاً.
لم يكن محمد المحارِبُ، إسكندر المقدوني الثاني، كما لقّبَه الناسُ، متفَوَّقاً عليه فقط.
فالمغول، بقيادة أبناء الخان، على ضفاف نهر السِّير، بالنار والسيفِ، لم يكونوا سوى تعميةٍ من التعميات الكثيرة، على الهجومات الحقيقية، لشيبي نويون وجنكيز خان.
أسرعَ الخانُ خارج الصحراء، متمسِّكاً بألاّ يتباطأ في البلدات الصغيرة. كان لا يطلب سوى الماء والعلِف لخيله.
كان يتوقّع أن يباغت محمداً في بُخارى.
لكنه علِمَ، بعد وصوله، أن الشاه قد هربَ.
كان الخان بمواجهة إحدى قلاع الإسلام، مدينة الفقهاء، بمواجهة سورٍ دائريّ، طوُله اثنا عشر فرسخاً، مدينة يجري فيها نهرٌ بديعٌ، حيث الجِنانُ والمسرّاتُ.
كان عديدُ حاميتِها عشرين ألفاً من الأتراك والفُرْس.
وفي المدينة أئمّةٌ، وسادةٌ، وفقهاء، ومفَسِّرو قرآن.
القسم الثاني
في بُخارى نارٌ كامنةٌ تحت الرماد، الإيمان المتّقد للمسلمين الذين هم الآن في حيرة من أمرِهم.
السورُ مَنيعٌ جداً، صعبٌ على الاقتحام، ولو قرّر أهل المدينة الدفاعَ، فلن يكون للمغول موطيء قدمٍ في المدينة حتى بعد أشهُرٍ.
لقد قال جنكيزخان قولةَ حقٍّ :
” منعةُ السورِ، هي،شجاعة الـمُدافِعين عن السورِ، لا أقلّ ولا أكثر”.
في حالتِنا هذه، قرّرَ الضبّاطُ الأتراكُ تركَ الأهالي لمصيرهم، والالتحاقَ بالشاه. وهكذا خرجوا مع جنود الشاه، ليلاً، عبر البوّابة المائيّة، واتجهوا نحو نهر الآمو.
المغولُ تركوهم يعبرون، لكن ثلاثة تشكيلات منهم تبعت الهاربين، واشتبكتْ معهم عند النهر. فقُتِلوا جميعاً بحدّ السيف.
بعد أن تخلّت الحاميةُ عن الأهالي، تشاورَ كبارُ المدينة والقضاة والأئمّةُ، وقرّروا الخروجَ لمواجهة الخان الغريب، وتسليمه مفاتيح المدينة، والقبول بوعدٍ منه في الحفاظ على حياة الناس.
أمّا الحاكمُ فقد تحصّنَ، مع محاربين قلائل، بالقلعة التي سرعان ما تلقّت سيلاً من سهام المغول المشتعلة، ممّا أدّى إلى انهيار السقوف واشتعال النار في القصور.
تدفّقَ الخيّالةُ على شوارع المدينة، واقتحموا أهراءَ الحبوب والمخازن، واتّخذوا من المكتبات إصطبلاّتٍ لخيلِهم، وقد ارتاع
المؤمنون وهم يرَون المصحفَ الشريف تحت سنابك الخيل.
أمّا الخانُ نفسُه فقد توقّفَ عند مبنىً فخمٍ، الجامع الأكبر للمدينة، واستفسرَ عمّا إذا كان المبنى قصرَ الإمبراطور.
قالوا له إنه بيت الله.
وفي الحال، ارتقى وهو راكبٌ، الدّرجَ، ودخلَ المسجدَ، ثم ترجّلَ، وصعد المنبرَ، حيث المصْحَفُ الضخمُ.
هنا، وهو في درعه الأسوَد اللامع، وخوذته المحفوفة بالجِلْدِ، خاطَبَ الـمَلالي والعلَماء، الذين توقّعوا أن يُنزِلَ الله صاعقةً على هذا المخلوق الأخرقِ الـمُدَّرِعِ دروعاً غريبةً.
قال :
” جئتُ إلى هذا المكان لأخبرَكم أنّ عليكم أن تجَهِّزوا جيشي. ليس في الريف تِبْنٌ أو حبوبٌ، ورِجالي محتاجون. افتحوا، إذاً، أبوابَ مخازنكم “.لكنْ حين خرجَ شيوخُ المسلمين من المسجد الجامع، رأوا محارِبي صحراء غوبي، قد احتلّوا الأهراءَ، واتخذوا لخيلهم إصطبلاّتٍ فيها.
هذا القسم من جيش المغول، عبر الصحراءَ، في مسيرةٍ سريعة، استمرّتْ أيّاماً، كي يبْلغَ الخيراتِ هذه.
من المسجد الجامع، ذهبَ الخانُ إلى ساحة المدينة حيث اعتاد الخُطَباءُ شرحَ أمورِ الدنيا والدين.
سألَ قادمٌ غريبٌ، سيِّداً وَقوراً : مَن هذا الرجلُ ؟
همسَ الآخرُ : اسكتْ. إنه غضبُ الله وقد نزلَ علينا.
الخانُ يعرف كيف يخاطبُ الجموعَ المحتشدة.
يقول كاتب السِّيرة إن الخان اعتلى المنبرَ، وواجهَ أهالي بُخارى.
استفسرَ منهم، أوّلاً عن دينِهم، وقال بأسى : ” إن الحجّ إلى مكّة خطأٌ. ذلك لأنّ بأسَ السماء ليس في مكانٍ واحدٍ، وإنما في كل زاويةٍ من الأرض”.
هذا الشيخ القبَليّ العجوز، الماكر، استحوذَ على مستمِعيه، وأثارَ في نفوسِهم خوفاً خرافيّاً من هذا الوثنيّ، جالبِ الخرابِ، إذ أن بُخارى لم تعرف داخل أسوارِها سوى التُّقاة.
ثم أكّدَ للناس :
” خطايا أمبراطوركم، كثيرةٌ، وقد جئتُ لأنفِّذَ إرادةَ السماءِ. جئتُ أقضي عليه كما قضَيتُ على أباطرةٍ آخرين. فلا تمنحوه حِمايةً أو عوناً “.
انتظرَ أن يتِمَّ المترجِمُ عملَه.
بدا المسلمون له، مثل الصينيّين، بُناةَ مُدُنٍ، ومؤلِّفي كتُبٍ. إنهم ينفعونه في المؤونة، وفي تسليم ثروتِهم، وفي إعطائه معلوماتٍ عمّا في بقيّة العالَم. إنهم نافعون عُمّالاً وعبيداً، وصُنّاعاً مهَرةً يأخذهم إلى غوبي.
ومضى يقول :
” لقد أحسنتم في تجهيز جيشي بالمؤونة. الآن، سَلِّموا إلى جنودي، الأشياء الثمينةَ التي خبّأتموها. لا تهتمّوا بما تركتم في منازلكم، فلسوف نهتمّ نحن بذلك “.
وُضِعَ أغنياءُ بُخارى تحت الحراسة المشدّدة للمغول، ليلَ نهارَ.
ومَن كان مشكوكاً في أنه لم يُسَلِّمْ كلّ ثروته تعرّضَ للتعذيب.
أمرَ الجنودُ المغولُ بأن يؤتى لهم بالراقصات والموسيقيّين ليؤدّوا عروضاً ممّا اعتاد عليه المسْلمون.
كان المغول، يجلسون، بوقارٍ، وهيبةٍ، وكؤوسُ خمرِهم بين أيديهم، في المساجد والقصور، وهم يشاهدون ما كان يتمتّع به الناسُ الذين عاشوا في المدن والجِنان.
حامية القلعة، صمدتْ بشجاعةٍ، وألحقتْ خسائرَ أغضبت المغولَ قبل أن يُجهِزوا على الحاكم وأتباعه.
بعد أن تمّ الإستيلاء على آخر الأشياء الثمينة من الأقبية والآبار، و على الدفين تحت الأرض، أُخرِجَ الأهالي من المدينة إلى السهل.
كاتبُ الحَوليّات المسْلمُ، قدّمَ لنا لمحةً وافيةً عن تعاسة الناس :
” كان يوماً مَهولاً، لا يُسمَعُ فيه سوى نحيب الرجال والنساء والأطفال الذين سيفترقون إلى الأبد. النساء كُنّ يُغتصَبْنَ على مرأى ممّن ليس لديهم حَوْلٌ سوى حُزنِهم. رجالٌ هالَهم ما حلّ بنسائهم أمام عيونهم اندفعوا لقتال المحارِبين، لكنهم كانوا يُقتَلون جميعاً “.
أُشعِلت النار في أجزاء من المدينة، فامتدَتْ ألسنةُ اللهب إلى أبنية اللوحِ والطابوق، وارتفعت في سماء بُخارى سحابةُ دخانٍ حجبت الشمس.
أُخِذَ الأسرى إلى سمرقند.
و قد قضى كثيرون في المسيرة القصيرة،لأنهم لا يستطيعون اللحاقَ بالخيّالة المغول.
أمضى جنكيزخان في بُخارى ساعتَين فقط.
لقد أسرعَ يطلب الشاه في سمرقند.
…………..
تمّت الترجمة في لندن بتاريخ 19.11.2016