يوسف نعمان
كلما هربنا بفرديتنا، اعتقادا بأن أفعالنا – بغرض الفرحة أو الأذى – لن تصيب إلانا ، نكتشف أننا أقل حجما من اختزال الكون حول هذه الفردية، أوحتى حول من هم فى محيط دائرة معارفنا.
مع كل عام تنضج فيه نفس، أوعقل ، أوقلب، نرى الكون أكثر اتساعا من فكرة وجودنا الشخصى، ويتناسب طرديا مع هذا الإتساع، ضيق هذا الكون فى نفس الوقت، لنرى أن هذه المسافة، بين أبعد نقطتين فى الكرة الأرضية، تقتربا بفعلٍ ما، لا تتصور مخيلتنا أنه قد يكون سببا فى قرب متلاحم رغما عن كل هذا البعد..
هكذا رأى جاليرموأرياجا وأليخاندروا جونزالز الكون ببشريته من حولهما، لم تكن التجربة الأولى لهما فى فكرة التباعد الظاهر والقرب المتستر خلف هذا التباعد، حيث كانت التجربتان السابقتان لفيلم بابل (يحب الكلاب و21 جراماً) مثالين يقتربان من هذه اللعبة الدرامية.
( يحب الكلاب و21 جراماً) عن أفراد متباعدين، لا يمتون لبعضهم البعض بصلة، فئات اجتماعية ونفسية مختلفة عن بعضها تماما، إلا أن الحياة أجبرتهم على أن يصبح بينهم رابط بسبب حادث سيارة
هكذا لعبها هذان الرجلان، مخرجاً وكاتباً، ليبدأوا بإرساء هذا المعنى العميق، من خلال سرد غير خطى، وغير معتاد، ولكنه شديد الإحكام…
يبدو أن إشباع شغفهما الدرامى عن البشر فى رحلتهما الكونية، لم يكن كافيا فى الفيلمين الأولين، حيث أفرادهما فى دولة واحده، أما بابل، فكان إبداعا أطلقا عنانهما فيه، ليخرجا خارج إطار الحدود، ويعبران خلال العالم، يجتازان الحدود السياسية بأسلاكها الشائكة، ويجتازان معها حدود النفس البشرية ، ليتوغلا بداخلها، فيكشفان أسرار وتناقضات، تتجلى فى القرب المتستر خلف هذا التباعد
الفيلم يدور بين أربع دول بأربع لغات مختلفة تماما، العربية، الإنجليزية، اليابانية والأسبانية، بين الولايات المتحدة الأمريكة عبورا من حدودها إلى المكسيك، وبين المغرب العربى بأفريقيا وصولا لليابان بآسيا، تُسرد أحداث هذا الفيلم، وتتقلص معها هذه المسافات، بطلقة رصاصة رخيصة الثمن، من بندقية قديمة، وبقرار من طفل صغير…
ماذا فعلت هذه الرصاصة ليقترب العالم من بعضه، وليتقلص حجم المسافة البعيدة بين قارات عدة، لتصبح المسافة البعيدة كما صنعها الساسة، قريبة إلى الغاية كما أرادها الكون رغما عن البشر
بابل….
فى النظرة الأولى لاسم الفيلم وبعد مشاهدته، من الطبيعى أن يُطرح تساؤل منطقى، ما علاقة بابل ! لم هذا الاسم الذى يطرح زمناً قديماً، ومكاناً لا وجود له بأحداث الفيلم مطلقاً!
- وَكَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانًا وَاحِدًا وَلُغَةً وَاحِدَةً.
- وَحَدَثَ فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ.
- وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنًا وَنَشْوِيهِ شَيًّا». فَكَانَ لَهُمُ اللِّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ.
- وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ».
- فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُوآدَمَ يَبْنُونَهُمَا.
- وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ.
- هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ».
- فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ،
- لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ
…. الإصحاح الحادى عشر من سفر التكوين – العهد القديم
هكذا كانت أسطورة بابل، أراد البشر أن ينشئوا برجا عاليا بلسانهم الواحد، يفعلون فيه ما يحلو لهم، بلسان واحد كى لا يتبددوا فى الأرض، فبدد الرب وجودهم فى أنحاء الأرض، وبلبل ألسنتهم
هذه هى حكاية البشر، تبددوا واختلفوا، وانتشروا، واختلفت ألسنتهم، إلا أن العالم -من وجهة نظر أرياجا وإيناريتو- مهما اتسع فى مساحاته، يعود ويقترب ببشره لتتماثل آلامهم وأحلامهم
أراد، إناريتو وأرياجا، أن يعلنا وبقوة عن طرح رحلة الإنسان فى العالم المتسع مابعد هذه البلبلة…
ما بعد البلبلة ألسنة مختلفة، لرجل مغربى يتحدث العربية، ولسيدة مكسيكية تتحدث الأسبانية، ولرجل وزوجته أمريكيين يتحدثان الأمريكية، ولفتاة وأبيها يتحدثان اليابانية فى قارة بعيدة عن كل الشخصيات الأخرى
ألسنة مختلفة، وشخصيات تبدو فى أول الفيلم غير مترابطة، غريب تواجدها، بعيدة عن بعضها كل البعد، بثقافاتهم ولغاتهم وجغرافيتهم، ولكن تطلق الرصاصة ! رصاصة واحدة تحول هذا السرد الغير الخطى إلى ترابط يظهر واضحا مشهدا بعد الآخر
رصاصة تطلق فى المغرب من طفل صغير، لا يبدر على ذهنه أو ذهن من حوله – على الإطلاق –أن تكون هذه الرصاصة مؤثرة فى شخص يعيش بعيدا عنه فى أقصى الكون
رصاصة تنطلق، لتقرب ثقافات بعيدة، قد اقتربت – سابقا – فى بعدها وبفرديتها، من العنصرية، والتيه، والخوف، ورفض الآخر
كلنا يظن أنه يعيش ويخطو بقدميه ويتحدث بلسانه، ليتواصل برغبته مع من يرد أن يتواصل معه فقط، إلا أن الكون أبى ذلك، ما لم تكن تتصوره هوالحقيقة فى أصلها… بابل…
بابل الحقيقة التى وإن هُدِمت فى الأسطورة ليتَبدد بناءوها، هي فى نفس الوقت الحقيقة التى يحياها البشر وإن ظنوا غير ذلك، بُددوا وأبتعدوا ظاهريا، بألسنة وأماكن، ولكن هل بددت مشاهرعهم فأختلفت آلامهم، أحلامهم، فقدانهم، إحتياجهم الروحى أوالجسدى!.. بابل السينيمائى يقول غير ذلك
إبتعد البشر بعدما هُدم البرج، ولكن البشر هم البشر، قلوبهم تحمل عواطف واحتياجات ومشاعر وأفعال تتشابه
فى العهد القديم كان البشر واحدا بلسان واحد، ثم تبددوا واختلفوا، ولكن فى فيلمنا يجتمع هؤلاء المختلفون بالسنتهم وأشكالهم وجغرافيتهم ، نتيجة لطلقة رصاصه، رصاصة تنطلق فتتغير حياة زوجين أمريكيين، وتكشف عن حياة خادمة مكسيكية، وعن أزمة عميقة لفتاة تعيش فى اليابان، رصاصة قد آلمت رجلا بالمغرب، بالرغم من إطلاق الرصاصة من بندقيته
فى العهد القديم بُدِدَ البشر وإختلفت ألسنتهم، إلا أن هذا الاختلاف وبعد هذه العقود الزمنية، يبدوظارهيا فقط، بل تُطمس تماما فكرة التباعد والتفرقة، يجتمع بشر من أنحاء التفرق ليتلاحموا بسبب هذه الفعلة البسيطة (طلقة الرصاصة)
يتلاحموا بعدما أنشأ الساسة الحدود… بعدما فرقوا ليسودوا…بعدما أرسوا المعانى بإرهابية العربى، وعنصرية الأمريكي، ورغد عيش اليابانى، وجرم عابرى الحدود…
فتأتى الرصاصة… يالها من قطعة لا يصل وزنها حتى إلى واحد على ثمانية من الكيلوجرام، فيتلاحم عربى نٌعِتَ بالإرهابى، فتأخذه هذه الرصاصة إلى فعل نبيل مع أمريكى قد رفضه سابقا بمنتهى التعالى، فيتلاحم الاثنان، ويتشاركان الأزمة، وتتلاشى فكرة الحدود والثقافات وشكل الأرض والوجه واللسان.
تتفاقم عقدة فتاة يابانية تعيسة، تكسر مفهموم العيش الرغد فى اليابان، تجتاز الرصاصة – من المغرب إلى اليابان حياة الفتاة، تكشف احتياجها الأبوى، والروحى، والجسدى، تكشف عالما جديدا نظنه أكثر رقيا، بلا أزمات أومشكلات أوعدم قبول للآخر…
تعبر مكسيكية الحدود بشكل غير قانونى بالرغم من سمو تضحيتها واحترامها للذات وللآخر، تُنعَت بمجرمة هاربة من الحدود، وهى لا تبتغى من حياتها إلا سعادات بسيطة وسط عمل شاق، تحافظ عليه بكثير من الإخلاص والخلق النبيل
يبقى العالم قطعة واحده متلاحمة، كقرية صغيرة، مهما بلغ اتساعه ومهما بلغ اختلافه
يكتمل البشر ببعضهم البعض، ويظهر صدى الفعل من نقطة فى أقصى الشرق إلى نقطة فى أقصى الغرب، تجمعهم أرواح لها نفس الإحتياجات والعطاءات على الرغم من إختلاف ظاهرهم
بهذا السرد الكتابى لجاليرمو، والذى كان سردا غير معتاد، لا يتبع أنظمة السرد التقليدية، نتوه فى أول الأحداث فلا ندرى من يرتبط بمن، نتوه كما تاه وتبدد البشر، ثم سرعان ما نرتبط بالأحداث والشخصيات، رباطا محكما عجيب الترتيب، هكذا فعل إناريتوبهذا السرد غير الخطى، فنرتبط بعد التيه، وترتبط الشخصيات هى الأخرى، موسيقى بديعة للمكسيكى جوستافوسانتاولالا، تجذب مسمعنا وتربطه بدراما بصرية لا تنفك عن ما بداخلنا وما بداخل الشخصيات، وبأداء تمثيلى من كل ممثلى الفيلم، من أكبر نجومهم براد بت وكيت بلانشت إلى أصغر الأطفال إيلى فانينج، وناثان جامبل، تسرد حكاية البشر حول العالم فى 143 دقيقة..، تنكسر قواعد السياسيين ومحاولات الإبعاد والتفرقة وإقرار الإختلاف، لتبقى الأرض كما كانت فى أول الخلق، برجا قديما يسمى بابل
حتى إن بعدت المسافات بين البشر، يتلاحمون باختلافهم ويعودون بلسان واحد، هوالتكامل وإلزام قبول الآخر بإختلافه
فلنقف جميعا لنبنى البرج مرة أخرى، أولنعى أنه مازال قائما نتشارك فيه حياة واحدة، ومصيرا واحدأ.
…………
اسم الفيلم: بابــــــل
سنة الإنتاج 2006
تأليف: جاليرموأرياجا
السيناريو: جاليرموأرياجا – أليخاندروجونزالز