فيلم (Genius): الأب والإبن .. والكتابة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
عابرون متشابهون، يسيّرهم الموت بالرتابة البطيئة لقطيع من المظلات والقبعات والمعاطف .. تنبعث الموسيقى الجنائزية ممتزجة بصوت الصقور من أرواحهم كأنها صدى داخلي لخطواتهم الثقيلة فوق الأرض الغارقة ..

هو ليس مثلهم .. لا يرتدي قبعة ولا يحمي رأسه بمظلة .. لا يريد أن يكون مثل كل هؤلاء الذين أسقطهم المطر الغزير من السماء .. لا يريد أن يشارك في هذه الجنازة الجماعية؛ ربما لأنها جنازته هو وقد بدأت مبكرًا دون أن ينتبه، أو ربما كان يعرف هذا ولذلك يرغب في الحصول على النجاة المقيمة وراء النافذة المرتفعة لدار نشر (أبناء تشارلز سكريبنر، نيويورك) .. ينظر لأعلى برجاءٍ مبتل تمامًا حيث يجلس الإله (الأب) بصلابته الحاسمة، ليصوّب أخطاء طالبي الغفران .. يُبادل المخرج (مايكل غراندج) بين النطاقين البصريين المتضادين: الكاتب (الإبن) في الأسفل لا يمشي مثل بقية السائرين بل يضرب ماء الشارع بقدميه كأنما يطرق باب الغيب .. يتودد إلى القدر كي يتحرّك مع إيقاعات أحلامه، بينما المحرر الأدبي في الأعلى منهمك في تنظيم حياة ما من الكلمات .. برودة الشارع المزدحم مقابل دفء العزلة لحجرة دار النشر .. صوت المطر والرعد مقابل السكون .. تبادل لا يكوّن مشهدًا واحدًا ممتدًا من المراوحة بين هذا وذاك، وإنما هو تجسيد للتوتر الكامن داخل استفهامك الشخصي المحتمل عن المشيئة المجهولة.

(ماكس بيركنز) ـ قام بدوره (كولين فيرث) ـ يتحوّل انتظارك لرؤية ابتسامته أو ضحكته إلى أمنية صعبة تتحقق في لحظات نادرة فتصبح حدثًا لافتًا .. تتحجّر في عينيه نظرة جامدة لخيبة أمل مبهمة كأنها هوية النظر إلى العالم، لا يمكن اقتلاعها من باطنه .. يقرأ مخطوط (توماس وولف) ـ قام بدوره (جود لو) ـ كأنما عثر فجأة على مرآته الضائعة .. تعبيرات جامحة لا تنتمي إلى رواية (وولف) بقدر ما كان ماضي (بيركنز) هو الذي يتكلم بعد أن استرد صوته .. كأن تعاقب السطور يضيء ظلام الجرح القديم الذي يُبقي المحرر الأدبي شاردًا، غريبًا عن زوجته وبناته، الذي لا تشغل حياته بينهن أكثر من الخطوات الصامتة التي تقطعها خطواته المكتومة داخل متاهة الأبواب والسلالم والحجرات حتى يصل إلى ركن صغير يصلح للانكماش، ولمواصلة القراءة التي لم تتوقف أثناء الجلوس والمشي، والصعود والنزول، والدخول والخروج .. لم يكن يقرأ عبارة (إنه الموت في الحياة الذي يحوّل الرجال إلى أحجار) في المخطوط الذي بين يديه، بل كان يعيشها .. كانت نسخته الأصغر (الإبن) تكلمه من خلال الرواية، ولهذا سنشاهد ابتسامته المندهشة، والممتنة بعد الانتهاء من قراءة (أيها الملاك تطلع باتجاه بيتك).

يقوم فيلم (Genius) على الصراع بين الإله الذي ينتظره القطار دائمًا، والإنسان الذي يكتب وصفًا طويلًا لانتظار مجيء القطار .. الصراع الذي تؤلفه أشكال عديدة من الصدام: السيرة الذاتية في مواجهة القص .. الطيش الشهواني للغة في مواجهة صياغة الأفكار الكبيرة بأقل الكلمات .. أن تكون أخطبوطًا كبيرًا تقبض أذرعته على كل شيء، في مواجهة أن تكون رب أسرة، يعتني بأطفاله، ويوفر احتياجات عائلته.

لكنه الصراع الذي لا يسير في اتجاه واحد، بل يتأرجح طوال الوقت بين الوتيرة التقليدية ونقيضها؛ فالإله يحلم بالجموح بينما يمارس الإخضاع للنظام .. الإنسان يريد الأمان المستقر في القواعد وهو يجاهد لمقاومتها .. يسعى الأب لاستعادة ذاته السابقة عبر الإبن ثم تحويله إلى نسخة امتدادية له، ويسعى الإبن لاستعادة الأب الذي فقده في صورة أخرى ثم التحرر منه.

يتحوّل جسد (توماس وولف) الفائض بالاندفاعات الاستعراضية إلى مسودات لا تنتهي من العبارات المتوترة، المرتبكة، التي تحاول حياته أن تقهر الغفلة بواسطتها .. أن تصبح الأوراق المكدسة أذرعًا لذلك الأخطبوط الذي يريد أن يكونه حيث لكل تفصيلة ـ مهما كانت ـ مبررها واختلافها عن التفاصيل الأخرى .. هناك أشخاص في الدنيا يفكرون هكذا، لكن المحاذير الاعتيادية ستقطع هذه الأذرع قبل أن تتحرك حتى أن الأحمر لن يبدو كلون الرفض في قلم (ماكس بيركنز) بقدر ما هو اللون الطبيعي لدماء الرواية الناجمة عن بتر الكلمات والفقرات .. دماء (توماس وولف) نفسه .. بعد استمتاع حقيقي بقراءة (الكتابة الخاطئة) يحذف (بيركنز) كل ما يراه حشوًا بلاغيًا من التأملات الزائدة، وشطحات الخيال، والاستطرادات الوصفية، والمبالغات العاطفية للمجاز .. ينتصر للجزء الضئيل من الجبل الجليدي رغم صرخات ذلك الذي يريد كشف الجبل كاملًا .. يحمي الدلالة التي ينتهكها التمادي في الاسترسال والاستغراق في إعطاء المعلومات، دون أن تعطله آلام الكاره لرؤية الكلمات تضيع سدى .. يرد الهيبة إلى المنطق الواضح على حساب الزخرفة النثرية للكاتب الغاضب، الذي يشكر الرب أن (تولستوي) لم يقابل مصاص الدماء هذا، وإلا لحصلت البشرية على الرواية العظيمة (الحرب ولا شيء) .. كأن (بيركنز) يعيد بـ (التكثيف والبساطة) قطع أذرعته هو التي نُزعت من جسده في الماضي .. ستطفو هذه الذاكرة في عينيه المرتعشتين، وملامحه المتحسّرة ، وأنفاسه المثقلة ببكاء مخنوق وهو يقرأ: (حينما سقط .. صوت قلبه المنكسر لم يكن سوى صمتًا، ولكن حياته قد تحطمت) .. الحرب الخالدة بين اللذة (معاندة التماسك) والضرورة (الحبكة الواقعية) التي يخوضها كل منهما ضد نفسه وضد الآخر.

يصحح (توماس وولف) مخطوطه ـ أو يكيّفه بحسب إرادة (ماكس بيركنز) ـ أثناء سيره في الشوارع كأنما يحوّله إلى حياة عادية .. كأن هذا التصويب هو ما يتعيّن على البشر أن يقوموا به دائمًا، أو أن هذا الفعل هو ما يؤدونه داخل أعماقهم في كل لحظة، وكان على طفل خائف مثله أن يؤكد ذلك بوضوح .. طفل يتيم، بلا أصدقاء، يتوسل للطمأنينة الغائبة بالاستمرار الجنوني في الكتابة، كأنه يحاول اللحاق بصوت شيطان مرعوب في رأسه يخشى نسيان أي شيء .. هذا الشيطان ليس إلا روح الأخطبوط الذي يرغب في إنقاذ الماضي بالسيطرة عليه كليًا داخل المفردات المترنحة .. يكتب طوال الوقت كممسوس شبق، يضاجع الأوراق بقلمه، ويطارده السهو والفناء، بين التعلق بأمٍ في هيئة عشيقة تكبره في العمر (ألين بيرنستين) ـ تقوم بدورها (نيكول كيدمان) ـ والهروب من عبوديته لها، وبين التعلق بأبٍ في هيئة محرر أدبي والتخلص من هيمنته .. الأم التي تحتاجه لأنه يحمل الحياة التي تجعلك تفعل أمورًا ما كنت ستفعلها، وحينما يتخلى عنك لن تشعر بمتعة الحياة ثانية، والأب الذي يريده أن يكون أثره الخاص في الزمن .. أن يعطيه الخلود الذي لا تستطيع بناته أن تمنحه له.

يحاول (توماس وولف) أن يخطو بـ (ماكس بيركنز) إلى الإلهام الذي يقوده أملًا في أن يخلق لديه ذلك الفهم أو الاستيعاب للجوهر الموسيقى الذي يبتغي الحفاظ عليه في روايته، ويُصر المحرر الأدبي على تبديد إيقاعاته ودرجاته اللونية .. يصحبه للاستماع إلى (الجاز)، وهناك سيبدأ الانضباط الصارم لذلك المتزمت الذي لا يهتم بالموسيقى في التفكك تدريجيًا مع النشوة التي حوّلت الراحة والألفة في أغنيته المفضلة إلى ثمالة راقصة .. ينفلت الطائش المدفون بداخله للحظات قصيرة من المرح الاستثنائي (سحقًا للنماذج المعيارية .. سحقًا لـ “فلوبير” و”هنري جيمس” .. لتكن مبدعًا، أضِئ دربًا جديدًا) .. ستذكرنا الضربات المتصاعدة لقدميه فوق الأرض مع الموسيقى بضربات قدمي الكاتب فوق أرض الشارع وهو ينظر إلى نافذة دار النشر في بداية الفيلم ..  لكن (بيركنز) سيترك (وولف) الذي لا يعرف متى يتوقف ليلهو مع فتاتين على البار، ويعود وحده إلى المخطوط مستردًا صلابته المتحسرة حيث لن يفصل المخرج (مايكل غراندج) بين تتابع اللقطات التي تدور في فضائين مختلفين .. سيجعل موسيقى الجاز تتواصل بينما يُبادل بين الانسجام الملتذ للكاتب مع الفتاتين على الإيقاع الراقص، والعزلة المغلقة، شبه المظلمة للمحرر الأدبي وهو يقرأ الرواية في حجرة بيته .. كأن السعادة الحسية الجامحة لـ (وولف) مع الفتاتين والموسيقى لا تتم في مكان آخر بل داخل (بيركنز)، وهو ما سيدفعه لانتقام ـ من ألم ذاتي قبل أن يكون من الكاتب وعبر جسده اللغوي ـ يتمثّل في خط أحمر يحذف بتجهمه الحاد فقرة طويلة داخل المخطوط .. ربما من الضروري مقارنة هذا التبادل بين (وولف) في الحانة و(بيركنز) في بيته بالتبادل الافتتاحي بين الكاتب الواقف تحت المطر وينظر لأعلى، والمحرر الجالس داخل السكينة الدافئة لحجرة تصويب الأخطاء.

قبل صدور (عن الوقت والنهر) سيشكّل إهداء الرواية لحظة من الاعتراف المزدوج .. يكتب (توماس وولف) في مقدمة الكتاب سطورًا من الامتنان لمحرره الذي ساهمت شجاعته ونزاهته في نشر الرواية، بينما يؤمن (ماكس بيركنز) بأن المحرر يجدر به أن يبقى مجهولًا؛ فهو الذي يخاف دومًا من كونه شخصًا يشوّه كتب الآخرين، يغيّر مصائرها، دون أن يعرف ـ ولهذا لا ينعم المحررون بالنوم ـ هل يجعل الكتاب أفضل حقًا أم فقط يجعله مختلفًا؟.

إذا كان الفقدان هو شبح (توماس وولف) فهو يسعى دائمًا لأن يسبقه بخطوة .. يتخلى عما لديه قبل أن يضيع منه، مدركًا أن هذا التغييب الاستباقي هو ثمن الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يهجره وهو الكتابة .. حتى لو أصبحت في عيون من يحبونك قاسيًا، ناكرًا، ومتجنيًا، ربما الكتابة هي وحدها التي تعرف أنك تحمل من الأسى ما لا يمكن تصوّره، وأن الفقد المتعمّد هو الطريقة المثالية لتحويل البشر إلى خيال طالما أن التخلي سيحدث حتمًا.

بالإمكان تفهم الدوافع والمغريات التي أنتجت حتمية وجود (سكوت فيتزجيرالد) ـ قام بدوره (جاي بيرس)، و(زلدا فيتزجيرالد) ـ قامت بدورها (فانيسا كيربي) ـ و(إيرنست همنجواي) ـ قام بدوره (دومينيك ويست)، ولكنني لا أستطيع تجاهل التفكير في أن طبيعة ظهورهم في الفيلم قد أوقعت هذا الوجود في الشحوب المألوف الذي ينجم عادة عن المرور المقتضب لشخصيات واقعية ومعروفة وسط أحداث لا تخصهم بشكل مباشر، لاسيما لو أن هذا الظهور كان من الممكن الاستغناء عنه أو تعويضه بحيل أخرى، وخصوصًا لو كان هذا الاستغناء سيجعل وجودهم أكثر عمقًا .. أتصور أن هذا كان سيتحقق بالفعل لو تحولت هذه الشخصيات الثلاث إلى موضوعات للحوار الجدلي بين (توماس وولف) و(ماكس بيركنز) .. لو توجه التركيز على علاقتهم بالمحرر الأدبي كمادة كلامية في الصراع بينهما، وهو ما كان سيسمح بالتالي بتوظيفهم داخل مساحة أكبر من الخيال، الأمر الذي تقلص مع الحضور الباهت لأجسادهم .. لا يمكنني تجاهل التفكير أيضًا في أن هذا الفيلم ينقصه الانشغال إلى حد ما ـ ودون تخريب الغموض ـ بماضي (ماكس بيركنز) .. ما الذي جعله محررًا أدبيًا؟ .. هل حاول من قبل أن يكتب نصه الخاص؟ .. كيف يرشد هذا الماضي إلى حياته نفسها ـ قبل تكوين الأسرة ـ خارج علاقته بمخطوطات الكتّاب؟ .. نفس الأمر ينطبق على (توماس وولف) وإن كان إنجاز ذلك سيتطلب حذرًا بالغًا، يشبه السيطرة على ومضات الضوء القليلة والمتناثرة التي لا تُعكر الضباب المنتشر فيما بين أحداث الفيلم، وصفحات الكتابة.

بعد جنازة (توماس وولف) تصل رسالته إلى (ماكس بيركنز) كأنها قادمة من قبره .. يغلق (بيركنز) باب مكتبه قبل فتح الخطاب كأنه سيقابل (وولف) شخصيًا، ولا يريد أن يخدش لقائهما أحد .. يخلع قبعته للمرة الأولى كأنما حان الوقت لذلك ثم يبكي كل الدموع التي ظل يحبسها طوال الفيلم وهو يقرأ كلمات إبنه الميت إليه .. الرسالة التي كتبها على سرير المستشفى بعد أن ضرب بقدمه مياه الشاطئ ثم سقط كأنما كان يتودد إلى الغيب كي يتحرّك الموت مع إيقاعات أحلامه.

إذا كان الأداء التمثيلي لـ (كولين فيرث)، و(جود لو) من البصمات الفريدة التي ستظل مستيقظة في ذاكرتي السينمائية، وإذا كان لابد أنني سأشير دائمًا إلى براعة اختيار المخرج المسرحي (مايكل غراندج) لممثل المسرح (جود لو) كي يؤدي شخصية الكاتب (توماس وولف) المتسم بالطبيعة المسرحية في كل مرة أتحدث خلالها عن هذا الفيلم؛ فإنني لن أنسى أبدًا اللحظة التي وضع فيها (توماس وولف) كفه فوق عينه بعد أن شعر بالألم المفاجئ عند الشاطئ .. الألم الذي امتد في عينيه وملامحه وصوته قبل وقوعه على الرمال بدماغ مثقل بالأورام .. أنا أعرف هذه اللحظة جيدًا .. أعرف أنها مختلفة عن أي لحظات مشابهة حينما تباغت شخصًا مثل (توماس وولف) كما شاهدته طوال الساعة والأربع وثلاثين دقيقة والخمسين ثانية من أحداث الفيلم التي سبقت هذا المشهد .. لحظة لا تخص المرض والموت فحسب بل تخص الكتابة أيضًا .. تنتمي إلى الحافة التي يقف عندها كل كاتب يقف تحت المطر وينظر لأعلى .. النبوءة التي يحملها، وهو يحاول الهروب من الجنازات الجماعية.

ممدوح رزق

http://mamdouhrizk0.blogspot.com.eg/

 

مقالات من نفس القسم