فواجع وأَصْلاف

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي
أتذكر.َ.
أتذكر أنك قلت لي:” إن حياتي فواجع وأصلاف”..
قلت لي ذلك وأنت ممدَّدٌ على سريرك والنوم يثقل جفنيك.. أَغمضتَ عينيك ونمتَ..
أتذكر أنه قبل يومين عدنا إلى البيت ونفسك منقبضة وحزينة.. وقفت تنظر إلى ذاتك في المرآة تحدثها، لم يكن غرضك الحديث في حد ذاته، كنتَ تريد أن تتأكد من وجودك الفعلي هنا والآن.. تنظر إلى ذاتك المنعكسة على المرآة، تسترجع شبابك الغض ووجهك؛ وجه النعمة كما كانت تقول جدتك دائماً كلما أقبلت عليها ورسمت قبلة على رأسها ويديها..
أتذكر أنك اقتربت من المرآة وهمست لي:” انظر إلى المزهرية؛ زهرتان تتعانقان، تفوح من عناقهما روائح الموت..”
أتذكر..
أتذكر أنه كلما حدَّثتني عن الموت كنت أعرفُ أن أسئلة تلوب داخلك، تحفر عميقاً في الداخل. حدَّثتني عن الموت؛ عن حادثة أوشكت أن تودي بحياتك وانتهت ببتر رجلك اليسرى.. عن الرِّجْلِ الاصطناعية وعن العائق الذي وقف في وجه طموحاتك.. عن موتِ أمك؛ سندك.. عن موت أحلامك.. عن يوم أضحيت تركن إلى أحلام تهدهد قلقك وخوفك وانزعاجك.. تمرُّ صورٌ أمام عينيك.. تحفر ذاكرتك.. تنخرها لتصل إلى عمق الفراغ.. عن حيك القديم، بيتكم الرطب وَالمُعَتَّم الذي أورثك أمراضاً مزمنة انضافت إلى رجلك الاصطناعية.. عن حبك الأول؛ عن ابتسامة حبيبتك كشمس ترسل الأشعة في يوم يبسط فيه الضباب ذراته على المدينة فتضفي عليها غنجاً ساحراً.. عن مدينتك؛ مدينة كطفلة تستعجل نضجها وتتأمل ثدييها وهما يطلان من صدرها..
أتذكر..
أتذكر أنك نظرتَ إلى وجهي، أَطَلْتَ النظر كأنك تريد أن تختزن ملامحي للذكرى، اقتربتَ من النافذة نظرتَ إلى الأفق وعيناك فاغرتان لا تستجيبان لشيء.. عدتَ إلى سريرك، استلقيت، أَغمضتَ عينيك ونمتَ..
انسابت دمعة من عيني وأنا أراك هامداً في سريرك؛ قاربك الذي سيقلك للعالم الآخر.. واريتُ دموعي عنك.. انتصبتِ الذكريات أمامي.. أسئلة لائبة بداخلي تعتمر في نفسي ولا أستطيع طرحها.. تحدثني عن أحلامك المجهضة، أحس بعبق إنساني يَشِعُّ منك.. يَشِعُّ من حديثك.. أتذكر طفولتك وبراءة عمرك.. أتذكر وأنت تغمض عينيك وتفتحهما تُجْهِدُ نفسك للتشبث بحبل يشدك للبقاء فيرقص الأملُ؛ أملي أن تصل إلى الأمان..
خابَ أملي..
وصدتُ البابَ خلفي.. حملتني قدماي إلى الخارج دون أن أشعر.. طيورٌ بيضاء تحلق في السماء على غير هدى.. أُحِسُّ بيدٍ تشق صدري.. تعتصر قلبي. أَلتفتُ.. يَكْتَنِفُني الغمُّ وأنا أرى طائرين أبيضين يحملانك ويصعدان بك إلى السماء، صورتك وقرت في قلبي وأدمته، وقعتُ أرضاً.. نهضتُ ورحتُ أصلح شأن وجهي وثيابي المعفرة بالتراب.. لم أستطع أن أرقأ دمعي وأنا أراك في عليائك تنظر إليَّ وتبتسم.. تنظر إليَّ وتختفي..
أتذكر..
أتذكر أنك قلت لي يوماً وأنت تُطْلِقُ آهةً جارفة:” يقبع داخلي شخصٌ لا علاقة لي به.. حياتي فواجع وأصلاف.. حياتي فواجع وأسرارٌ..”.. وأسدلتَ جفنيك على أمانيك وأحلامك.. ركنتها في الظلام.. قلتَ ذلك وتلاشت الكلمة الأخيرة بين شفتيك..
تأكدت، فعلاً، أن الحياة فواجع وأصلاف..

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال