مراسم تليق بكبير العائلة

محمد صفوت
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد صفوت

لم يكن هذا الذي أفزعه من نومه زلزالا، وإن كان يـُشبه زلزالا طويلا ممتدا لا يريد أن يتوقف، على إثره ترتجف محتويات غرفته، سرير نومه، نجفة السقف النـُحاسية القديمة، أرضية الغرفة الخشبية.

حين اعتدل على فراشه، وجدهم حوله، ينظرون له بعيون يملؤها الذعر، كانوا في كل ركن من الغرفة، يتوارون منكمشين، بعضهم قفز بجواره على السرير، راح يهدهد سريعا على ظهورهم في محاولة لبعث الاطمئنان إلى أجسادهم الرقيقة وأرواحهم المنزعجة.

لم تتوقف ارتجافات محتويات الغرفة، بدا له صوت آلات ثقيلة قريبة جدا، ربما تحت فراشه مباشرة، أخذ أحدهم بين يديه، طبع قبلة سريعة فوق جبهته، الآخرون كانوا أكثر انزعاجا، حد أنهم لم يقفزوا على جسده، ولم يمارسوا مشاغباتهم الصباحية كما كل يوم، ظلوا متجمدين على خوفهم، لكنهم تابعوه وهو في طريقه إلى النافذة، بعضهم كان يتمسح بقدميه، بينما رافقه البعض الآخر في صمت.

تحت يديه يهتز زجاج النافذة مـُحدثا صفيرا متقطعا، لكنه حين ضرب وجهه الهواء البارد القادم من الخارج كان قد تأكد تماما من عمق الكارثة التي تحدث مـُباشرة أسفل نافذته تماما، تهرس الجرافات والعربات المـُجنزرة أرض الحديقة الصغيرة التي تـُحيط بالبناية، تقتلع الحشائش، وتنزع بقبضاتها الحديدية نباتاتها وأشجارها الصغيرة، ثم ترفعها لتقذفها في صندوق عربة كبيرة.

قفز بعضهم على حافة النافذة ليشاهدوا معه عمق الكارثة، ينظرون له بدهشة مـُمتزجة بغضب، ربما بغضب به بعض الدهشة، قرأ في نظراتهم لوما عميقا على صمته وتخاذله على ما يحدث، أخذ يصرخ صرخات مدوية في وجه موظفي الحي الذين يتولون الإشراف على تجريف الحديقة، لكنهم لم يفهموا شيئا من صرخاته، فأطلق سيل شتائمه وسـُبابه، موظفو الحي حاولوا تهدئته، قالوا إن ما يحدث سببه رغبة الحي في توسعة الطريق، ثم حين لم تتوقف صرخاته ولا سـُبابه استكملوا عملهم في هدوء.

أغلق النافذة، ورمى بجسده النحيل فوق مقعد قريب.

عاودوا النظر إليه مرة أخرى نظراتهم التي تشي باللوم وتتهمه بالسلبية، نظرات “جونيور” كانت أكثرهم حدة، هو أكبر أفراد العائلة، وفي مقبرة الحديقة يرقد أبوه وأمه وبعض أخوته، حاول أن يربت على ظهره المقوس، لكن جونيور تجاهل ذلك وابتعد في غضب واضح، في حين التف حوله باقي أفراد العائلة يحاصرونه بنظراتهم.

 حاول أن يتفادى عيونهم، راح يسرح بعيدا، حين ماتتْ “ألفت” لم يكن في هذا المنزل سوى قطة واحدة، كانتْ القطط هي تقريبا سبب التوتر الدائم بينه وبين ألفت التي ورثتْ عن أمها هياما غريبا بتربية القطط، الموضوع عند ألفت كان أكثر عمقا، ربما لأنهما لم يـُنجبا أبناء، كانتْ تعتبر القطط أبناء بررة وطيبين، وهو كان يرى أنها كائنات لزجة ومزعجة، لم يختلفا معا أبدا طيلة حياتهما الزوجية الطويلة سوى حول القطط وعن القطط، كان يتفنن في تسريب القطط بعيدا عن المنزل، كأن يحمل بعضهم صباحا في حقيبته ثم يرميهم في شوارع جانبية بعيدة، أحيانا يتعمد أن يترك باب الشقة مفتوحا حتى تخرج إحداهن، ثم يـُغلقه في وجهها سريعا، أحيانا كان يتفق مع الشغالة أو زوجة البواب في خطف قط أو اثنين في غفلة من ألفت.

ورغم أن ذلك كان يـُثير شجارا عنيفا بينه وبين ألفت إلا إنه لم يتوقف عن محاولاته في تسريب القطط بعيدا عن منزله.

 صوت الجرافات والمـُجنزارات عاد ثانية بقوة، شعر أنها تدوس على صدره، تقتلع قلبه دون رحمة، نظرات أفراد القطيع تحولتْ إلى اتهامات صريحة بالتواطىء، كانوا دائما يرافقونه أثناء تشييع جنازة أحد أفراد العائلة، يتبعون خطواته في صمت جنائزي مهيب وهو يحمل حقيبة سوداء بها الجثة بين يديه، يختارون معه مكانا في الحديقة يليق بدفن أحد أفراد العائلة، يساعدونه في الحفر بمخالبهم، ثم حين يضع الحقيبة يلقون معه نظرة أخيرة طويلة، بعدها يهيلون معه التراب برفق.

يعرف أنهم غاضبون، لكنّه كان يرى أن ورطته أكبر، ربما ألفت الأن أكثر منهم غضبا واتهاما له بالسلبية والخنوع تجاه تجريف الحديقة وإزعاج الراقدين بسلام في رحابها، حين ماتتْ ألفت لم يكن بالمنزل سوى قطة وحيدة هي “بثينة”.

كان الحل الوحيد التوافقي للخروج من دائرة الصراع حول القطط أن سمح لألفت بتربية قطة واحدة، وصيتها الأخيرة كانتْ أن يحافظ على بـُثينة، في البداية كان متوجسا وحذرا في التعامل معها، لكنها ظلتْ تحاول أن تؤانسه حتى تآلف معها، كان يرى أنها شديدة الشبه بألفت، عندما ماتتْ بـُثينة شعر بحزن عميق يكاد يـُوازي حـُزنه على ألفت، كانتْ بـُثينة أول قطِة دفنها في الحديقة، اعتبر ذلك نوعا من الوفاء لزوجته، وتكفيرا عن كل جرائمه السابقة مع قططها؛ لذا دفنها تحت شجرة التوت الوارفة، حتى يمر عليها كلما يخرج أو يدخل.

في نفس تلك الليلة التي ماتتْ فيها بـُثينة عاوده الشعور بوحدته الذي انتابه أول مرة عندما ماتتْ ألفت، غيـّب الموت كثيراً من أقاربه وأصدقائه تباعا خلال السنوات القادمة، من تبقى منهم ليس كمن رحل، كان يزعجه أيضا أن يموت على فرشته وحيدا دون أن ينتبه أحد في هذا العالم لموته، لذا اتخذ قرار في تلك الليلة بأن يشتري في الصباح زوجا من القطط، أطلق اسمه على الذكر، واسم ألفت على الأنثى، ومنهما جاء أفراد كل هذه العائلة التي تعيش معه الأن، كان كلما يدفن واحدا منهم يحزن حـُزنا يساوي حزن رجل فقد ابنه.

الأن يعرف أن أفراد العائلة غاضبون على هذا العبث الذي يطال مقبرة العائلة، لكنه لا يملك أن يفعل شيئا حيال كل هذه الجرافات والمجنزرات، لذا جلس على مقعده مـُستسلما.

أخذ ينظر إلى أفراد العائلة المـُتحلقين حوله، يخصّ كل واحد منهم بنظرة عميقة، كان يطلب منهم أن يسامحوه.

كان جونيور أول من قفز على ساقه، وحين سقطتْ رأسه على صدره، كان كل أفراد العائلة يشغلهم سؤال مـُلح، أين يمكنهم أن يدفنوا كبير العائلة؟

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون