اجتماع الملائكة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد المسعودي

أخلد أهل البيت إلى النوم، وعم السكون جميع حجراته، بعدما تناولوا طعام السحور، وصلى منهم من صلى صلاة الفجر. وفي الصالون الفسيح، اجتمع الملائكة المكلفون بتسجيل حسنات الأسرة وسيئاتها، وقد اتكأ كل منهم على “مطربة” من “مطارب” الحجرة.

قال الملاك الأيمن المكلف بتقييد حسنات ربة البيت السيدة فاطمة:

         -أنا سعيد جدا هذه الأيام.. منذ حلت جائحة كورونا التي بلبلت العالم لم أعد أسجل عندي إلا حسنات فاطمة التي تحصدها من صلاتها وتسبيحها.. ولما جاء رمضان لم تعد فاطمة منشغلة إلا بالمطبخ وعمل البيت والعبادة.. وحتى إن اتصلت بالهاتف تخاطب أختها في بلجيكا وأخيها في أكادير لا تتحدث عن أحد.. وكأن كورونا ألجمها وعافاها من النميمة والغيبة والثرثرة.. ورغم تعبي هذه الأيام من تسجيل حسناتها، فأنا سعيد بهذا التحول لدى فاطمة..

         قال الملاك الأيسر المكلف بسيئات السيدة فاطمة: 

         -اِسعد ما شئت.. أنا الآن في راحة مع فاطمة. فعلا، فبعدما فرض الحجر على الناس في أغلب البلاد قل “تبركيك” فاطمة.. ولم تعد مهمومة سوى بأشغالها وعبادتها.. ولكن هل ستبقى على نفس السيرة بعد رمضان.. وانتهاء الوباء.. هذا هو السؤال، لأن من عاش يتجسس على الناس ويغتابهم صعب عليه أن يتخلص من ذلك.

         قال الملاك الأيمن:

-نطلب الله لها الهداية، ولكل من في هذا البيت..

قال الملاك الأيسر المكلف بتسجيل زلقات الأب السيد قدور (الملقب بالهامص):

-قدور.. لم يتخل عن عاداته.. ما زال يسب ويشتم.. وإذا اقتضى الحال يتعارك.. لم يردعه لا وباء كورونا ولا رمضان.. ولولا أن أماكن القمار: “الترسي” و”كنينا” أقفلت لواصل رهاناته الفارغة وتضييعه للمال كما عهد..

اعترض الملاك الأيمن لقدور:

-مع ذلك.. لمست تغيرا في سلوكه.. صار مواظبا على الصلاة.. ترك التنفيحة.. وصار يعامل زوجته أفضل؛ فلا ينهرها ولا يسبها.. في دفتري أجد نقط حسناته تسير نحو التحسن.. في الشارع ما يزال يسبقه غضبه.. هداه الله.. ونتمنى أن يتوب الله عليه من القمار فلا يرجع إليه بعد كورونا..

ضحك الملاك الأيسر:

-هيهات.. هيهات.. أغلب الناس أُجبروا على ترك بلياتهم.. لكن بمجرد عودة الحياة إلى طبيعتها سترى العجب.. المهم.. لا أخفيك أننا ارتحنا قليلا ـ نحن ملائكة اليسار ـ من تسويد صفحات بني آدم.. يا ليت مثل هذه الكورونا تأتي بين كل عشر سنوات لتنقي الناس وتطهرهم..

قال الملاك الأيمن لقدور:

-لا تكن سوداويا.. الناس يتغيرون حتى بدون الأوبئة.. الهداية من الله.. فعلا تكون مثل هذه الجوائح.. وتكون الأمراض أسبابا للتعقل والعودة إلى الذات، ولكن إن لم تدفع الرغبة المرء نحو الصلاح، فلن يهتدي..

وهنا تدخل الملاك الأيسر المكلف بتدبيج سيئات المخيتر ابن قدور وفاطمة:

-ها هو المخيتر.. لم يتب ولم يردعه لا كوفيد ولا زعتر.. ما زال يأكل رمضان.. ولا يصلي.. وقبل رمضان كان ما زال يعاقر الخمر في خلوته.. تصور أنه خلال الحجر كان يخرج ليشتري الشراب ثم يعود متسللا إلى غرفته.. أنا من بين ملائكة اليسار الذين لم يقل عملهم لا مع كورونا ولا بعد إقبال رمضان..

قال له الملاك الأيمن رفيقه:

-كان الله في عونك.. أنا الذي أشعر بالراحة معك.. والمخيتر هذا لست أدري هل أطلب له الهداية أم أطلب له اللعنة.. ولكن يبقى الأمر بيده.. والهداية من المولى..

-نعم الهداية من المولى.. لو لم تكن منه هل كانت سلوى ستنقلب مائة وثمانين درجة مع اجتياح كورونا لمدينتها..

قال الملاك الأيمن المكلف برصد حسنات سلوى، ثم أضاف:

-صارت تخاطر بنفسها من أجل الآخرين.. إنها تتنقل بسيارتها الصغيرة بين البوادي المحيطة بالمدينة لتوصل المؤونة إلى الأسر الفقيرة والمعوزة.. وتطوف على المحسنين لتجمع معوناتهم قبل أن تقسمها، هي وصديقتها شيماء، حسب لائحة الأسر المكلفة كل واحدة منهما بإعانتها.. لم تعد سلوى بنت الليل المستهترة.. ولا المرأة الأنانية.. منذ حلول الوباء، وبعد إقفال الملاهي صارت لحياتها وجهات أخرى.. عادت إلى بيت والديها ترعاهما.. وتركت الشقة المشتركة بينها وبين شيماء لصديقتها، وجعلت منها مخزنا للبضائع التي تحصل عليها من معارفها ومن المحسنين.. وهي التي تمكن فاطمة من كل ما تحتاجه، وهي التي تبذل من وقتها لتساعد الآخرين.. تحول جذري حصل لسلوى.. أرى أن عملها هذا جعلها تجمع حسنات كثيرة ستمحو بإذن الله لائحة سوءاتها..

أكد الملاك الأيسر لسلوى كلام رفيقه:

-فعلا.. لم أعد أسجل في صفحاتي ولو سيئة واحدة لسلوى.. خاصة أنها تقوم بواجبها طمعا في رضى الله.. ولا نية لها في سرقة أو استئثار بشيء لنفسها أو لأسرتها.. كما لا ننسى أنها آلت على نفسها أن تتوب إلى الله.. وصارت تؤدي الصلاة في وقتها، وها هي تصوم رمضان الذي لم تصمه منذ سنوات.. والله أمرها عجيب..! أنا، أيضا، أنعم حاليا براحة مع سلوى.. ما دمت يا صديقي تسجل حسناتها.. نرجو الله أن يهديها ولا تختل موازينها بعد انحسار الوباء.. وعودة الملاهي والحانات وأماكن البغاء إلى الاشتغال..

وفي اللحظة التي كان يجري خلالها اجتماع الملائكة في الصالون كان اجتماع آخر يتم في مرحاض بيت الأسرة؛ كان قرين فاطمة يتربع على حوض الغسيل، وقرين قدور يقتعد المرحاض الرومي، بينما تشعلق شيطان المخيتر في عمود ستار الحمام، أما قرين سلوى فاتكأ على باب الحمام. كان الجميع يتنصت أخبار الأسرة، وهو يكاد يتميز من الغيظ، إذ إن وساوسه لم تفلح في زمن كورونا، ما عدا شيطان المخيتر الذي كان يقوم بحركات بهلوانية، وهو ممسك بالعمود الذي يثبت ستار الحمام، ويطلق ضحكة جذلانة ساخرة، يعلن بها تفوقه على زملائه الشياطين الذين أفلت منهم زمام من وُكلوا بإغوائهم. وهذا ما كان يزيد توتر الشياطين الآخرين، ونفخهم في غضب بين، قال قرين فاطمة:

-حاولت مرارا بوسوساتي أن أجعلها تتلصص على جاراتها رقية وشمس الضحى ومنانة وحليمة.. وأن تترك المطبخ والزاوية التي اتخذتها مكانا لأداء الصلاة دون جدوى.. يبدو أن خوفها من الإصابة بالمرض، وخشيتها من الموت جعلها تنحو هذا الطريق.. ولكني لها بالمرصاد.. لن أترك ملَاكها الأيمن يسعد بتدوين الحسنات.. بيني وبينه الأيام وسيرى..

انطلقت شرارة شيطانية من عيني قرين قدور (الهامص):

-أما قدور فلم يعد يجد محلات القمار “التيرسي” و”كنينا” مفتوحة أمامه، كما أن تنفيحته التي كان يأتي بها من قرية “بكدور” صار دونها طريق صعبة محفوفة بالشرطة، لهذا قلَّت نرفزته وانحسر غضبه.. وإن كان يغلبه الغضب بين فينة وأخرى فتراه يسب ويشتم.. ولكن فور تراجع هذا الوباء وعودة كل المحال والمرافق للعمل سأعيد قدور إلى القمار، وأغريه بالعودة إلى سيرته الأولى.. سأجعل ملاكه الأيسر ينشط من عقال ويترك الكسل..

قهقه قرين المخيتر قهقهة إبليسية ارتجت لها مرآة الحمام وكادت تسقط على رأس شيطان (قرين) فاطمة الذي يقتعد حوض الغسيل، وقال متشفيا:

-أنتم شياطين بؤساء.. بمجرد فيروس بسيط كالهباء فر لكم القرناء.. وها أنتم في هذا المرحاض تبكون وتولولون.. لم يكن عملكم جادا.. انظروا إلي.. جعلت المخيتر يسير على الخط لا يحيد عنه.. لم يتململ لا مع كوفيد ولا مع رمضان.. هذا هو العمل.. هل أنتم شياطين؟ لا أظن.. الشيطان لا يدع بردعته تفلت من تحته… هههه.

وعاد إلى عموده يتشقلب فيه بحركاته البهلوانية.

ظل قرين سلوى مستندا إلى باب المرحاض صامتا لا يجد ما يقوله، وقد أدرك أن سلوى قطعت شوطا هاما نحو طريق الهداية. كان يبدو مستسلما ينتظر حكم رفاقه عليه. لكن الآخرين أدركوا عمق هزيمته فلم ينبسوا ببنت شفة بعد الكلام الساخر الذي سمعوه من قرين المخيتر.

***     ***     ***    ***

مرت الأيام وطال الحجر الصحي حتى أثقل عاتق الأنام، واضطرب حال الناس من الجوع وكثرة الجلوس في البيوت، وتحولت الطبيعة من برد فبراير ومارس إلى صهد يونيو ويوليوز، والوباء ما يزال يحصد الأرواح، ويدمر البلاد والعباد. واستمر اجتماع ملائكة أسرة قدور (الهامص) في صالون البيت كل ليلة يتجاذبون الحديث حول تطورات حسنات فاطمة وقدور والمخيتر وسلوى، أو تراجعها، كما استمر اجتماع قرناء أفراد الأسرة من الشياطين يخوضون في أمر الحسنات والسيئات ومدى قدرة كل منهم على الإغراء والإغواء. واستمر أفراد الأسرة متشبثين بالعادات الجديدة التي اكتسبوها خلال الحجر الصحي وحالة الطوارئ.

وفي ليلة مقمرة من ليالي شهر يوليوز، جلس الملائكة يتحدثون، كما جرت عادتهم، بعد إخلاد أهل بيت قدور (الهامص) إلى مخادعهم، وإذا بملاك سلوى الأيسر يقول:

-حتى الآن لم أصدق ما حصل.. سلوى التي لم تسجل طوال الفترة الأولى من الحجر الصحي وخلال شهر رمضان ولو سيئة واحدة، تصبح صحيفتها مسودة مغبرة خلال الشهر الأخير.. هل انخدعنا بتقواها الظاهرة.. في حين كانت توزع المؤونة على فقراء المداشر والقرى كانت تهرب حقائب الكوكايين والهيرويين وأقراص المهلوسات..

-نعم.. فجأة بعد خروج رمضان ومرور الأيام الثلاثة من عيد الفطر انتقلت إلى تجارتها الجديدة بعدما تركت ممارسة الدعارة في فترة كسادها بسبب الحجر وإغلاق أوكارها.. لم تكن توبتها خالصة.. أو لعل شيطانها ماكر استطاع أن يقلب كيانها..

وفي المرحاض كان شيطان سلوى يقهقه ساخرا من زميله شيطان المخيتر الذي أفلت منه زمام صاحبه. كان المخيتر، وفي صحوة مفاجأة قد أقبل على الصيام آخر رمضان، والتزم بالصلاة، وصار ديدنه أن يمر كل صباح بدكان بائع السمك الوحيد في الحي ليأخذ منه السمك الفاسد المستغنى عنه ليوزعه على قطط الحي الشاردة، يضع السمكات على الورق المقوى، ويدعو القطط بصوته الأجش: بس.. بسس..بس..بسس. فتهرع إليه القطط كبيرها وصغيرها. ويقتعد المخيتر الرصيف يتأملها، وهي تلتهم الأسماك، وإن سطا قط على حصة آخر يتدخل ليفصل بينهما، أو يستخرج من كيسه البلاستيكي أسماكا أخرى.

قال ملاك فاطمة الأيمن:

-لعل صدق فاطمة في توبتها ودعوتها ليل نهار من أجل هداية قدور والمخيتر كان وراء تحولهما معا.. لكنها غفلت عن سلوى، وقد ظنت أنها اهتدت قولا وفعلا، فعادت الفتاة لتسلك طريق ضلال آخر..

قال ملاك سلوى الأيسر:

-ما علينا سوى أن نسجل ما نراه ونسمعه.. حقا إن الهداية من الله..

وأكد ملاك قدور (الهامص) الأيمن قوله:

-نعم ما علينا سوى أن نكتب ما نراه ونسمعه.. من كان يقول إن قدور سيترك الترسي والكنينا والتنفيحة والسب والشتم.. الهداية من الله..

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون