“عن الذي يربي حجرًا في بيته” لحن جديد على أوتار الوحدة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عزة مازن

في روايته الأحدث "عن الذي يربي حجرًا في بيته" (2012 ) والفائزة بجائزة أفضل رواية في معرض القاهرة الدولي للكتاب (2013 ) يعزف الطاهر شرقاوي على أوتار الوحدة تنويعات تشيد بالسكون، وتستغرق في تفاصيل صغيرة لا يتوقف عندها الكثيرون، ولكنها تدهشه وتستوقفه، فينسج عالمه الخاص في سرد يتماهى فيه الواقعي والغرائبي، تُؤنسَن فيه الأشياء وتمتزج فيه الحقيقة بالخيال. على مدى 124 صفحة من القطع المتوسط يتواصل الحكي في وحدات سردية تبدو منفصلة وغير مترابطة في ظاهرها، ولكنها مثل قطع الأرابيسك المعشقة، تنفتح كل منها على الأخرى وسرعان ما تكتمل في جدارية رائعة تلمس وحدتها الفنية الوجدان وتترك بصماتها على الأرواح.

منذ الوهلة الأولى لقراءة العنوان يشعر القارئ أنه أمام سرد مختلف وشخصية محورية ذات سمات غير مألوفة، ذلك “الذي يربي حجرا في بيته”. ومن دهشة العنوان إلى المتن حيث تزداد الدهشة وتتعمق. يدور السرد حول الراوي الذي يحكي عن نفسه بضمير المتكلم، حكايات متداخلة ومتقطعة، يقفز من فكرة إلى أخرى، وكأنه في جلسة فضفضة مع الذات أو في عيادة طبيب نفسي. تُستهل الوحدة السردية الأولى برنين الهاتف في الصباح يخدش سكون المكان. ويصف الراوي إحساسه بوقع الرنين عل نفسه: “كان الرنين مزعجًا ولحوحًا، وعاليًا لدرجة لا تُحتمل، خدش السكون المحيط بي بلا مقدمات…”. تظهر شاشة الهاتف خالية من اسم متصل أو رقم. ويندهش الراوي ويدهشنا معه: “لماذا لم يظهر الاسم أو الرقم على الشاشة؟ هل العيب في جهاز تليفوني أم في شبكات الشركة؟ دائمًا يظهر الاسم أو الرقم. هل هذه أول مرة يحدث معي ذلك؟ خصوصًا مع اتصالات “سيرين”، هل مكالماتها دائمًا تصاحبها شاشة بيضاء؟”

وبينما يتحدث الراوي إلى صديقته “سيرين” التي، كانت تحدثه لتذكره بميعاد بينهما، يلاحظ “أن مستطيل النور تحرك قليلا من مكانه، أكمل عبور الحد الفاصل بين بلاطتين، وغمر الحجر القابع في منتصف الصالة، بدا لونه البني – تحت شعاع النور – نظيفًا ولامعًا ومغويًا أيضًا، تسلق النور الحائط المقابل للشباك، متوقفا للحظة فوق قط أسود مرسوم”. وهكذا في أسلوب بسيط وسرد متأثر بتقنية تصوير المشاهد السينمائية استطاع الكاتب أن يلقى بكرة السرد أمام القارئ دفعة واحدة في الوحدة السردية الأولى، على أن تنفرج خيوطها رويدًا رويدًا في الوحدات السردية التالية.  تتلاقى خيوط الحكايات في أسلوب استرجاعي (فلاش باك)، ويختلط فيها الواقع والخيال لترسم ملامح إنسان تثقل الوحدة في المدينة على نفسه، فيعيش في عالمه الخاص، يلتقط حجرًا من الطريق يخاله يحدثه، ويرى فتاة على سطح القمر تشير إليه بيدها، ويخال النمر المرسوم على عباءة جارته الحسناء يوشك أن ينقض عليه. يُحكم الراوي شرنقة العزلة حول روحه، ويحميها من مصاصي الدماء الذين يحاولون تمزيق خيوطها وخدش صفو وحدته: “ما إن دخلت في الشارع بعدة خطوات، ما إن لامست نسمة وجهي وصدري، ما إن فكرت أنه اختيار صائب، ما إن حدث كل ذلك حتى وجدته أمامي، منتصبًا في وقفته مبتسمًا كعادته، مادًا يديه إلىَ في ترحاب احتفائي، لم تكن هناك فرصة للتراجع أو الإنفلات، بدا الأمر كفخ تم نصبه بمكر وإحكام. لقد قابلت مصاص دماء..”

يشد الراوي خيوط شرنقته حول نفسه، ولا يعبأ بعبور الحدود نحو الآخرين، فكل من يصادفهم ويضطر للتعامل معهم يطلق عليهم الإسم النمطي “س”، وكأنهم نمط إنساني واحد، عدا صديقته “سيرين”، فهي الوحيدة التي تحمل اسما في الرواية، وإن كان الشك يتسرب إلى القارئ بأنه لاوجود لها سوى في خيال الراوي، أو لعلها الأنا الآخر الذي يكشف حقيقة معاناته النفسية، فهي تواجهه بأنه يجيب دائما عن أي سؤال “بلا أعرف” حتى أطلقت عليه لقب “السيد لا أعرف”، ونصحته بالذهاب إلى طبيب نفسي.

يدفن الراوي نفسه في الوحدة ، فيتماهى منزله مع المقابر الفرعونية وفراشه الخاص مع التابوت. يصف صديقه الشاعر “الشقة”  بأنها “تشبه المقبرة… عتمة تقيم معك في المكان، وجدران تمتلئ بقطط مرسومة، وحاجيات قليلة.. ماذا ينقص؟” ورغم استياء الراوي من الوصف في البداية، إلا أنه وجده ملائما لحالته، وظل يستخدمه في حواراته ساخرًا: “أمتلك تابوتًا على مقاسي ومقبرة لا تليق إلا بعظيم”. يجعل الراوي من تلك المقبرة عالمه الخاص: “اليوم سأرقد في تابوتي صامتًا وساكنًا، أكرر في سري: “مقبرتي هي عالمي.. مقبرتي هي عالمي”، أتأمل العتمة التي تحوطني، في انتظار القيامة من جديد.”

تسلم الحكايات بعضها إلى بعض فيما يشبه المتاهة، وتنتهي كل منها بلازمة لفظية تبدأ بها الحكاية التي تضمها الوحدة السردية التالية.  فالوحدة السردية الثامنة تنتهي بمقارنة الراوي لمنزله بالمقبرة، ومن ثم ينفتح السرد في الوحدة التاسعة على مشهد بالمقابر تختلط فيه شذرات من ذكريات عاشها الراوي أثناء فترة تجنيده، وأخرى من رؤى الخيال، أو لعله حلم من أحلامه التي تختلط مشاهدها بالواقع. وفي توظيف بارع لتقنية المشاهد السينمائية يصف الراوي مجموعة من الجنود يلمح بينهم فتى يشبهه: “وللحظة خرج رفقاؤه من المشهد، توقفت الكاميرا عليه، وبحركة زووم بطيئة ملأ وجهه الشاشة، بانت اختلاجات الوجه الحائر بين الاندهاش والتردد. شعرت بأنه على وشك أن يتقدم نحوي، عيناه لم ترتفعا من على وجهي، وهو يتأملني باستغراب، كاد أن يفعلها، ولكن سرعان ما واصل سيره، ابتعدت الكاميرا فظهرت التفاصيل، مد خطواته ملتحقًا برفاقه، بدت الأمور تتضح، أعرف الولد ونصبة الشاي، والبنت التي تبيع الخضروات، هذا الطريق مشيت فيه عشرات المرات من قبل…”

في الوحدة السردية السادسة عشرة والأخيرة يخرج القارئ من متاهة الحكي لتنتهي الرواية بالتقاء طرف خيط السرد الأخير بطرفه الأول، عند مكالمة صديقته “سيرين” واستعداده للقائهما الأول في الساعة العاشرة: “كنت أشعر بالراحة… وقد استقرت بداخلي طمأنينة، وحل سلام، وبأنني مستعد – وبشكل جيد – لما سيحدث بعد قليل في الساعة العاشرة.” تنتهي الرواية ولا تنتهي دهشة القارئ وحيرته: فهل كان السرد كله فضفضة ذاتية ومونولوج داخلي للراوي مع نفسه، أم أنها فضفضة للراوي في عيادة طبيب نفسي؟! ومع ذلك يجد القارئ نفسه أمام سرد مختلف ورواية تعزف على أوتار الوحدة لحنًا جديدا ومتميزًا.         

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم