فى رواية وحيد الطويلة “أحمر خفيف “يمضون فى الزمن مؤرقين بأسئلة الوجود

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فريد أبوسعدة 

دائما ماتصبح الرواية الأولى، إذا ما كانت جيدة، تحديا لكاتبها، ينظر البعض إليه بإشفاق : هل يقع فى غرام نفسه فيكررما كتب وإن بأشكال جديدة، هل يكبو وهو يحاول مثل عداء كسر رقمه القياسى، فيقع فى ما دونه بكثير؟!

تنتاب هذه الأسئلة أصحاب النوايا الحسنة ، وأصحاب النوايا الشريرة، من النقاد و من أقرانه من “أهل الكار

أنا واحد من الذين تابعوا العداء وهم مشفقين عليه، آملين أن يتجاوز رقمه، ويؤكد مكانه ومكانته فى السباق الصعب.

أحمر خفيف ” هى الرواية الثانية لـ وحيد الطويلة بعد ” ألعاب الهوى” ، وقد صدرت مؤخرا عن “الدار” للنشر والتوزيع بالقاهرة.

محروس “كبير الوادى” ينادى ، فى احتضاره المؤلم الطويل، على أحبائه الذين رحلوا، والذين يحيطون به ، ينده عليهم بأسمائهم ،على مرأى ومسمع من أهل الوادى، الذين أحاطوا بالمستشفى كالسوار، وزحموا الممرات والطرقات.

ما ان ينده على أحد حتى يستحضره الراوى ، فى قطع ووصل من المركز إلى الأطراف وبالعكس، فى حركة عبر الزمان والمكان صانعة (زووم) على المندوه فنجده شاخصا أمامنا حيا من لحم ودم

عبر هؤلاء المندوهين تمضى الرواية فى توازياتها وتقاطعاتها صانعة عالما بالغ الخصوصية، يدور بين قطبين ، كأنهما الخير والشر، هما محروس كبير الوادى، وعبد المقصود كبير عزبة اسرائيل.

عبد المقصود يريد أن يكسر هيبة وجلال محروس، يريد أن يكون زعيما أوحد على العزبة والوادى، ولأن الماء يأتى إلى الوادى الواطىء من العزبة العالية، يحبس الماء آملا أن يأتيه ويستجديه، لكن محروس يواجهه منفردا، و ينجح فى فرض ارادة الغلابة ويفتح الماء ، يهرب كبير العزبة، لكنه يغرى بخصمه قاتلا مأجورا، ظل يترصد لمحروس شهورا حتى استطاع أخيرا أن يصيبه، وينقلونه إلى المستشفى شاخصا بجلاله لا يحيا ولايموت ، شاخصا بين الدهشة والشفقة والإكبار، يدير عالم الرواية من مرقده الطويل، أمامه تجلس إنصاف، ابنته وطوطمه، الباقية بعد موت الأبناء من صلبه .

عدد كبير من الشخصيات جلهم من أسرة محروس، فبالإضافة إلى إنصاف ابنته هناك اخوته الثلاثة وأبناؤهم وزوجات هؤلاء وهؤلاء، وهناك عنانى بعالمه السرى، الحالم بوراثة دورمحروس دون مواجهة، شخصيات محبة وأخرى مناوئه ، بعضها عارض كالبشارة وبعضها مقيم كالكوابيس .

الراوى متورط حتى ليمكن اعتباره شخصية من شخصيات الرواية، فبالرغم من كونه راو عليم بأبطاله ، إلا انه يتعاطف و يقدر بعضها عن بعض أو يحبها أكثر من غيرها إذ نجده غير مرتاح إلى القدر الذى خصّ به “عزت” فى الرواية فيعود ليحكى فصلا اضافيا بعنوان (تذكير) قائلا: كان لابد لعزت من تكملة، ليس من المعقول أن تطوى صفحته هكذا الخ .ص181

بل و يؤكد حضوره فى فصل بعنوان ” هذا هو المشهد الأخير مع بعض الاثارة من عندى” ص253

وعندما يصنع الكاتب مايسميه “تتر الرواية” مقتبسا من أقوال الشخصيات جملا دالة عليها من جهة، ومؤشرة على الأحداث والوقائع من جهة أخرى، لاينسى نفسه كراو فيضع لنفسه جملا هو الآخر، بل ويقلب جملة مثبتة من جمله كراو ويقولها هو (وحيد الطويلة) منفية، موحدا بينه وبين الراوى.

الرواية تنتصر للثقافة الشفاهية، وتكاد تكون توثيقا وتدوينا للتعبيرالشفوى، الذى يتعرض أكثر فأكثر للتآكل ، تحت مسميات الحداثة والعولمة ، مما يؤدى إلى فقدان الذاكرة الشفوية، وفقدان معارف وابتكارات الجماعة معها، تحت التنميط القاسى للعولمة، الأمر الذى يهدد بطمس الهوية وتلاشيها .

يكتب وحيد الطويلة روايته مثل النحات ، فالعالم يسكنه ويحيط به، تماما كالكتلة التى تواجه النحات، وما عليه مثله إلا الحذف، لتنهض أمام القارىء بنية هى من العالم ومغايرة له فى آن .

يرسم  وحيد شخصياته من خلال ما ابتكرته المخيلة الشعبية عبر تاريخها، من الأساطير والسحر والعرافة ، من التهكم اللازع والحكمة البصيرة ، من الصور التى تقبع فى والجدان الشعبى عن البطل وما ينبغى له من صفات ، من الأسرار التى تكتنف التدين الشعبى وتدنو بها من الشعر ،و لغته المسبوكة من جسدانية الفوتوغرافيا وتحليق المجاز ترشح بحميمية العدودة والمثل والموال، ووتتنوع باختلاف االروىء وتباين المصائر.

تنهض الحكاية وكأنها صوت الجماعة، ويصبح الراوى، فى أحد مستوياتها، ليس إلا مندوب عن الجماعة فى تقديمها للغير، وفى مستويات آخرى، يبدو ناسجا عبر طرائق المخيلة الجماعية ، لأساطير مبتكرة يحرث بها السرد، ويكثف بها الحدث ويرفعه إلى فضاء الشعرية.

حالة رائقة من الشجن الأسيف، معلقة كسحابة فى سقف النص، تراوح فى فضائه كجثة أب بطريركى هائل لاهى حية ولا هى تموت، تحتها تمور حياة فائرة ضاجة،   حيث تمضى الشخصيات، شبيهة بلغتها، مسلحة باسطورتها، إلى مصائرها فى ثنائيات متوازية ومتقاطعة فى آن

(محروس /  إنصاف ، محروس / عبد المقصود)، (أبوالليل / فرج، أبوالليل / العنانى)، (عزت/ الفناجيلى ، عزت / فرج)

 حياة فائرة يرث فيها الأبناء عن الآباء أكتافهم العريضة، وآلاتهم الهائلة، وولعهم القاسى بالنساء، وحيث يرشح الفضاء بمراودات مشتعلة بالرغبة هى 

من الغيوم الأسيفة التى تحوم فى سماء النص وجوه مؤرقة ، مكلومة بأسئلة الوجود ، سؤال الموت (الفناجيلى) ، سؤال الكمال والحرية (أبو الليل/ فرج) ، سؤال الشرعية (العنانى) ، سؤال السلطة (عبد المقصود/ ناصر) هذه الأسئلة الشائكة لاتنى تظهر وتختفى فى عالم روائى يثمن الحياة، ويجعل من همومه الانتصار على الموت !

ومع أن هذه الأسئلة تمثل سدى ولحمة وعى الجماعة فى الرواية إلا أن سؤال السلطة يظل أكثر تأثيرا، لأنه سؤال الجماعة كلها لا سؤال الفرد الموجوع بأزمته ، وهو السؤال صانع التراجيديا ، صانع الحدث الرئيسى، الأمر الذى يغرى بتأويل اسطورة العنانى عن القطب الباطنى، ذلك الذى يظهر من حين إلى حين، يعطى الحكم (العهد والسر) لمن تتوافر فيه الصفات المؤهلة، عبرالكفاءة التى يظهرها الممنوح لتحمل الأمانة، ليس عبرالوراثة، وليس عبرالقوة، التى يوفرها الفساد لبطانته، كما فى عبد المقصود من عزبة اسرائيل، وناصر من الوادى ، خاصة وان ناصر كان فى يفاعته يقلد عمه محروس، الذى توسم فيه مع الآخرين أنيشب على طريقه ويصبح وريثه المعنوى .

يحتاج الأمر إلى مداخلة أخرى بالتأكيد ، لكن أهمية الإشارة تعود إلى دورها فى تحديد الزمن الروائى ، فهى مع اشارات حول عبد الناصر والتنظيم الطليعى وحرب اكتوبروغيرها كثير، تجعل الزمن ماثلا أمام القارىء ، بما يجعله مؤشرا على مصداقية وأهمية السؤال، الزمن الروائى أكثر مصداقية من المكان الذى يبدو أكثر تجريدا وأكثر تخييلا

يبرع وحيد الطويلة، للمرة الثانية وليست الأخيرة بكل تأكيد، فى صنع عالم من هذا الموزايك الانسانى ، عبر مزاوجة رفيعة بين الفوتوغرافيا والمجاز، عبر فنون من السخرية وبلاغة الجماعة ، ومن خلال حدس ايقاعى دقيق استطاع أن يقدم لنا أصحاب المواجيد، وهم يحملون أسئلتهم ، عبر توالى الظهوروالخفاء وكأنهم مندوبون عن الجماعة يتوالون فى الزمن مؤرقين بأسئلة الوجود.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم