محمد بركة في “آيس هارت في العالم الآخر”… اختراق “التابوهات” بسلاح السريالية

محمد بركة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. سلوى جودة*

 يواجه الكاتب الروائي محمد بركة في أحدث أعماله الروائية الصادرة في القاهرة عن “منشورات إيبيدي”  التابوهات الثقافية الأشهر “الجنس- الدين- السياسة”  بسرد سريالي يعبر من خلاله الجسر بين العقل الواعي واللاواعي ويحرر به العقل الباطن ويصل إلى جوهر ما يمكن أن تكون عليه الحياة عندما لا يكون المرء مقيداً مجتمعياً. والحركة السريالية التي بدأت في باريس في عشرينات القرن الماضي جاءت كرد فعل مباشر لأهوال الحرب العالمية الأولى وللمعاهدات المقيدة نسبياً لعالم الفن في ذلك الوقت. وتشير كلمة “سريالية” إلى ما وراء الواقع  وقد صاغها الشاعر الفرنسي الطليعي غيوم أبولينير في مقدمة مسرحية “أثداء تريسياس” التي عُرضت في  باريس عام 1917، وعرفها رائدها أندريه بريتون “1896-1966” في  البيان السريالي بأنها: “آلية نفسية خالصة، والتي من خلالها يعمد المرء إلى التعبير، إما شفهيًا أو كتابيًا أو بأي طريقة أخرى إلى  الأداء الحقيقي للفكر، فهي إملاء الفكر في غياب كل سيطرة يمارسها العقل، وخارج كل الانشغال الجمالي والأخلاقي”. والسرد السريالي في رواية  “آيس هارت في العالم الآخر” لكاتبنا محمد بركة  تغلب عليه  النزعة الفرويدية نسبة إلى سيجموند فرويد (1865ـ 1939) الذي طرح العديد من الأفكار حول العقل اللاواعي ، والذي أطلق عليها اسم “الهو” أو الهوية والذي كان مصدراً للإلهام للحركة السريالية، ولايعمد المبدعون إلى هذه التقنية إلا عندما يضيق حيزالتكيف والفهم والموائمة وربما الحريات في مطلقها . ولا يجب أن ننسى أنها ظهرت في أعقاب حرب طاحنة صادمة أدت إلى فقدان الثقة في المؤسسات الحاكمة وفي منظومة القيم الأساسية التي تحقظ استقرار وسلامة الشعوب النفسية والمادية، وربما كان السياق الذي كتبت فيه “آيس هارت في العالم الآخر”  لايختلف كثيراًعن سياقات الحرب العالمية الأولى.

على ناصية العدم

    الراوي في هذا العمل المدهش  يقف على ناصية العدم ويغرد وليس وحده ، فصدحه يشاركه فيه ثلة من المعدمين من أبناء العصيان والتمرد وربما الثورات لاحقا،  فهو الرافض بكل شطح،  والناقد بلا كلل، لكل الموروثات و التقاليد البالية . مجتمع القرية التي ولد بها ينظر إليه باعتباره ” فيروس شديد الخطورة يفتك بالجهاز المناعي للتقاليد والأصول”، هو الفنان التشكيلي الذي لم ينجز معرضه الأول بعد رغم كسره حاجز الأربعين، يتعافى من اكتئاب حاد و يقاوم ميولا انتحارية قديمة، لم يتسق يوماً مع مجتمعه القروي الذي كان يرى لوحاته رجسا من عمل الشيطان “أرسم فأجلب لأهلي العار،  ألوّن فأجعلهم  لبانة  في فم كل نذل”. يرونه  العنصر الشاذ في مجتمع نظيف ” سبحان من أخرج الطالحين مِن ظهر الصالحين”  بينما الفساد الحقيقي ينخر كالسوس في عظام القرية  والعائلة حيث” تمتزج الحداثة بالسياسة إذن فى تلك التحفة المعمارية المقامة على عدة أفدنه وسط بقعة من أخصب الأراضي الزراعية، دفع أبي المعلوم وشرب موظفو البلدية شايا بالياسمين”.

       وفي هجوم مباشر بلا استعارة أو مجاز يطلق النارعلى حقب سياسية كان الإنفتاح فيها مدوياً على المحسوبية والرشوة واعتياد القبح: ” ترعة صغيرة كانت تشق مسقط رأسى الى نصفين ، لتهب القرية بعضا من إنسانيتها القديمة، ردموها فى عهد ” صاحب أول ضربة جوية ” ليزداد القبح رونقا”.

 يتوفى والد البطل ” مروان”  بعد أن هبطت عليه الثروة متأخرة حيث كانت تربط الاثنان  علاقة فاترة فيها من الغشم أكثر ما فيها من اللطف، فيذهب لحضور الجنازة بصحبة حبيبته. وفي البيت الريفي الفخم يتمرد ، على طريقة بروميثيوس، على  سلطة مجتمعية لم يألفها ويرفضها وترفضه . وفي استحضار لرمزية الموت والذي يشير إلى نهاية وغموض كبير حول ما سيأتي بعد ذلك ، وسط خضم المشاعر الإنسانية المرتبكة ،  يتأمل ” مروان” أباه  مسجيا على “المغسل” في  تصوير لا  يقل برأيي قسوة عن عقد “شيلوك” مع “تاجر البندقية في رائعة شكسبير: “يفركون بطن الديكتاتور المرح بحثا عن أى فضلات فى أحشائه، يقصون شاربه المفتول الذي كان يباهي الخلائق به. يزيلون شعر عانته و يقلمون أظافره، ثم يسدون جميع الفتحات في جسده منعاً لتسرب الأذى، يجب أن يكون على سنجة عشرة استعدادا للقاء ملكين لا يعرفان المزاح”.

        ويصر على ممارسة الحب مع حبيبته ” كرستين”  حيث يغيب عن الوعي مؤقتاً إثر ذبحة صدرية ،  فيبدأ رحلة سريالية لما بعد الموت، فيها الكثير من أجواء  الغرابة والإدهاش وشطح الخيال، وسبب هذه الغرابة أنها خلقٌ ذهنيّ خالص لا يمكن أن يتولّد من مقاربة أو مشابهة بين طرفين، بل من مقاربة بين واقعين متباعدين بنسبة أو بأخرى، واقع الدنيا وواقع ما بعد خروج الروح . وكلما كانت الصلة بين هذين الواقعين بعيدة جاءت الصورة قوية، هذه الرحلة التي لم يتوقف الإنسان منذ الهبوط الأول في تصورها والتفكير فيها والتي شغلت الأدباء والفنانين وكانت من علامات الآداب والفنون الكلاسيكية فلدينا مخزون تاريخي من هذه الرحلة، فهناك “الإنيادة”  لفرجيل في نهاية القرن الأول قبل الميلاد و”الكوميديا الإلهية”  لدانتي أليجييري (1265-1321) المقسمة إلى رحلة من ثلاثة مستويات الجحيم هى  المطهر، الجنة، حيث تصور دانتي موقع الجحيم بعيداً عن الإله الذي يشع نوراً، ويتصور المطهر جزيرة صغيرة وسطها غابة تنبض بالحياة وترمز إلى فردوس الإيمان على الأرض، حتى يصل إلى ارتقاء روحي نحو الكمال حيث الخير الأعلى والسكينة الخالدة ، وكانت نظرته إيجابية لرحلة الروح بعد الموت.

لغة شعرية

و لا تخلو سريالية السرد  في ” آيس هارت في العالم الآخر”  من لغة شعرية تمزج بين   بين عالمي الواقع والحلم حيث يعبر  أحدهما إلى الآخر،  فالأحلام والذكريات إضاءات للمواقع الخفية في الإنسان، وهي تتشابك وأرجاءَ الواقع الراهن .يتذكر الراوي صديقاته النسويات في إشارة إلى بعض الارتباك وربما العنصرية والتعسف الذي يصيب بعضهن أحيانا ” بعض صديقاتي من غلاة النسوية يتصورن الخالق أنثى”  ويلمح إلى مغبة الطاعة العمياء لأي سلطة مهما كانت حيثياتها وقوتها فأصدقائه ” يكنّون احترامًا بدرجة متفاوتة لإبليس ويعتبرونه أول معارض سياسي في التاريخ”  في مواربة سياسية تحمل دلالات التمرد كفعل إنساني مشروع. أما عن قطته “آيس هارت”  والتي تحمل الرواية اسمها فهي بيضاء فارسية وقد تفحمت  مع احتراق مرسمه بحي الحسين ، وهي لا تزره في الأحلام على خلفية من اللهيب أو الأدخنة لكن” التراب كان العنصر المشترك في كل زياراتها”  واللون الأبيض برمزيته للموت والميلاد والفتور وفقدان الشغف الذي يسيطر على  بطل الرواية قد أحدث انسجاماً مع تيمات النص. وفي العالم الآخر يقابل ” أيس هارت”  التي تخفف من أجواء الجلال التي تسيطر على الرحلة وهي تنطق بلسان البشر: ” كم افتقدك أيها الأحمق” ، يعانقها فتفر بعيداً “عبر مروج واسعة رغيدة من العشب والدلال”  في إيماءة إلى أنها سعيدة في عالمها الجديد، فهي غير معنية بالرماد الذي يخشاه أهل الدنيا ولا بالخلود سواء في الجنة أو حتى في ذاكرة الفن التشكيلي.

رحلة محمد بركة في ” آيس هارت في العالم الآخر”  هي امتداد لرحلات نفسية وميتافيزيقية يواجه فيها الراوي المحرمات الثقافية في مجتمعه والتي رسخت الخوف الأزلي من الموت عبرالأوهام والأساطير التي نسجت حوله، فهو لم يقابل الثعبان الأقرع الذي يحمل مطرقة صلبة ولم يرعذاب الآخرة التي يصرعليها بعض وعاظ  أهل الأرض، بل قابل طيفاً متسامحاً لديه ابتسامة أبوية حانية وهو مرشده الذي يقوده إلى عالم الروح، حتى أبيه يبدو أكثر جمالاً وحناناً وإشراقاً عندما قابله في رحلته فبدا وكأنه ” ضوء يتأهب للعناق” . وفي حوار طويل وأسئلة، قد تبدو  شائكة بمنطق عالمنا الدنيوي لكنها عادية بمنطق العالم الآخر، يتطرق البطل و الطيف السماوي إلى قضايا الخلق والوجود ونشأة الإنسان وفكرة العذاب و النعيم  .وهنا يطرح الطيف السماوي سؤالا  استنكاريا  لا يخلو من عتاب وفيه من الحكمة والقدسية ما يثبت الفؤاد ” خُلقتم من حب ويسري في عروقكم الحب ثم ترتابون؟”. الحب بعد هذا الوعي يصبح وسيلتنا لتصور العالم القادم، إنه الحب الكلّي المطلق ، المزيج من كل أنواع الحب، إنه وسيلتنا للمعرفة ووسيلة  ” مروان ” لإعادة اكتشاف نفسه .

 ويصبح الحب سلاحاً ثورياً يباح معه كل شيءٍ محبوب، وتغيب الخطيئة الأولى -خطيئة آدم- التي ما زالت تثقل ضمائر الناس، والحب لا يعمل إلا مع الأمل، وبهما يتجدد العالم، ويصبح فردوساً آخر غير الفردوس الإلهي.

………………………………

* أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس

 

مقالات من نفس القسم