بين سجن الكاتب وحرية السارد: قراءة في “خلف النهاية بقليل” لوحيد الطويلة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 83
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فوزية العلوي

هذه المقاربة هي أشبه بتهـــويمة إبداعية في النص وتسلل الي بعض زواياه بطــريقة هي إلى الحدس الفني أقرب. 

إنها من هـــذا المنظور تنأى عن تلك المداخـلات الأكاديمية الرسمية وأعني بالرسمية تلك التي تحتكم بالضرورة إلى مرجعيات نقدية أو معترف بها. إنها تلك المرجعيات المسيّجة بقوانين صرامتها والقاطعة حتما مع الهشاشة والتساهل والانطباعية كما يريد لها أصحابها. فالحديث عن المكان في أي خطاب سردي يملي بالضرورة علي الباحث الصارم الذي لا أرتدي مئزره أن يعود إلى ما قاله النقاد في المكان كدعامة من دعائم الحكاية وهذا الباحث لا أراه إلا ملتزما قليلا أو كثيرا بما قاله هذا أو ذاك من أصحاب المناهج والمدارس ولا أراه إلا متصفحا ولو علي سبيل الفضول ما قاله غاستون باشلار في جماليات المكان، ولكني سعيت، وإن لم أكن بمنأى عن عدوى النظريات بحكم ما ترسب في قاعي من قراءات، أن أعدو في حلبة أفسح وللصعاليك في النصوص مذاهب حتى وإن أهدر النقاد دمهم وارتأيت أن أدخل النص من منافذ قد لا تكون مجعولة للدخول في العادة ولكني آثرت أن ألج منها إليه ولو علي سبيل التسلل والمخاتلة، أفعل هذا ولي حصانة المبدع الجموح بطبعه والكاره لعصا الناقد الذي لا يفتأ يضع للنصوص المتاريس والعلامات الضوئية والمعابر الشائكة، ولكن المبدع ولوع جدا بمشاكسة الناقد بل وتخييب ظنه ووضع مقولاته موضع النسبية، فالمتاريس مخروقة وعلامات الضوء متجاوزة وللمبدع قفازاته الخاصة التي تبيح له أن يعبر الأسلاك الشائكة.إن ما أفعله في هذه الورقات قد يكون سطوا على سلطة الناقد، فالنقاد هم الذين يعطون لأنفسهم حق الأبوة في قراءة النص ويرون أنفسهم الأجدر والأقدر علي فك مغاليقه انطلاقا من أنهم تسلحوا بما تكون به القراءة علما متناسين أنهم ما أرسوا هذه القوانين إلا من خلال استنطاق نصوص إبداعية وإن كانوا في حقيقة الأمر تعاطوها من خارجها غير ملمين باللحظة الإبداعية التي أنتجتها والحوافز التي حققت نشأتها فالناقد عموما قد يصف النص ولكنه غالبا ما يكون بعيدا عن روح النص بمعني معاناته واستشعار وجع مخاضه والوقوف علي لذة ولادته الفاتكة. إن ما أباح لي أو ما دفعني إلى مثل هذا العمل هو تواطؤ السري والمعلن مع المبدع وعدائي الأبيض مع الناقد حتى وأن كنت أتناقض في هذه اللحظة باعتبار أني تجاوزت مناطق الإبداع ولامست تخوم النقد ولو بصفة غير مقصودة ولكني إذ أفعل ذلك فأنا آتية من باب التمرد عليه لا من باب الالتزام به. نكهة مختلفة: عندما قرأت نصوص وحيد الطويلة القاص المصري، شعرت بنكهة مختلفة وبسعي جاد إلى الإضافة، فقصصه القصيرة جدا في أغلبها تتضح شعرية حتى لكأن إيقاع اللغة فيها يخرج بها أحيانا عن تخوم النثر ليلج بها تخوم الشعر وتتوفر علي قدرة كبيرة في اقتناص اللحظات المكتنزة من الوجود الإنساني ورصد الجزئيات التي تهب الحياة ميسمها الخاص ولئن كانت في بعض جزئياتها غارقة في محليتها المصرية فإن هذا لم يمنعها من الانفتاح على الإنسان في بعده العميق الأرحب خاصة وإن كثيرا من الأمكنة التي تصفها القصص لا تتمتع بوظيفة مرجعية ولا شيء فيها يدل علي انخراطها في وطن من الأوطان كما أن الزمان سابح في الطاقية تجعل هذه القصص قريبة من عدد لا متناه من القراء. ووحيد الطويلة موغل في التجريب ليس يحتكم في قصصه إلى قوانين محددة لذلك قال عنه إدوار الخراط في إطار التعريف بهذه المجموعة، إنه قاص حداثي لا يعبأ كثيرا بالحبكة التقليدية المتقنة ولا بالسرد المتسلسل علي سننه بل يلوذ بلقطات سريعة متعاقبة غير مفسرة وأحيانا غير مبررة وتمتاز نصوصه بالتركيز والتقطير وتسري فيها روح شعرية مغلفة بالسخرية أو الدعابة السوداء وتستند الي المفارقة والالتباس والتشويق وإن كانت مستوحاة من الحياة اليومية الشعبية. قد أكون فيما قلت بمنأى عن هاجس هذه الندوة المركزة اهتمامها حول المكان بما هو دعامة من دعائم الخبر في مشاغل السرديين ولكني رمت أن أعرف بهذا القاص الذي لا أظنه معروفا جدا عندنا على أن التعريف بوحيد الطويلة ما كان ليستأثر باهتمامي لو لم أجد في مجموعته هذه والتي لم اقرأ سواها له ما يقدم مادة تأمل ومساءلة في إطار الاهتمام بالمكان، لكن القارئ قد يستغرب عندما يعلم أن المكان كما تجلى في هذه الأقاصيص لم يكن مغريا بالدرجة التي كان عليها خارج هذه الأقاصيص. ذلك أن ما أثار فضولي في الأماكن التي أنشأها الكاتب وجعلها محتضنة للأحداث بقطع النظر عن بعدها الرمزي أو الواقعي وإنما مثار الإثارة كان في تلك الأماكن التي تم الإعلان عنها في ذيل القصص والتي تنهض بوظيفة مرجعية ذلك أنها تتكفل بإخبار القارئ بالأطر التي تمت فيها كتابة هذه القصص. ولمستغرب أن يستغرب لماذا وقع إهمال ما يعده البعض جوهريا ووقع الانشغال بالهامشي؟ وهل أن ما يعنينا هو المكان كما أبدعه خيال الكاتب أم ذلك المكان المشار اليه في أسفل الصفحة علي سبيل الإمضاء والذي قد لا يكون الكاتب واعيا بأهميته وعينا به وأن هذه الأمكنة لو حذفت فأنها لا تؤثر في عالم القصص كما أنتجه الكاتب؟إن اهتمامنا بالأمكنة المشار إليها في نهاية كل قصة لا يقل أهمية حسب رأينا عن الاهتمام بعناوين القصص أو الرسوم التي وافق الكاتب علي إدراجها ضمن مجموعته والتي تتضافر مع لغته في التعبير عن مكنونات نفسه وليس يختلف كذلك عن الاهتمام بالتصدير أو الإهداء أو لوحة الغلاف ذلك أنه لم يعد في أيامنا هذه مجال للاعتباط أو المصادفة في العمل الفني. فالكاتب مساءل ومسؤول عما يتشكل طباعيا علي صفحات نصه من علامات ومن رموز، وإذا افترضنا أن الكاتب قد يضع في نصه أو حوله علامات دون سعي منه إلى تحميلها دلالات معينة فالقارئ، كل قارئ، هو حر في أن يقرأ النص من الزاوية التي يريد شريطة أن يكون مقنعا ولا بأس إن عبر أحيانا عما في نفسه من خلال استنطاق النص لأن النص يبوح بما نود له أن يبوح، إننا نقبل عليه محملين بآثامنا وآلامنا وشهواتنا المعلنة والمطمورة؟إن قارئ خلف النهاية بقليل لوحيد الطويلة يستوقفه شيء طريف يتمثل في أن القصص جميعها وعددها تسع وعشرون انتهت بالإشارة إلى مكان كتابتها وهو تقليد درج عليه الكثير من الكتّاب، ولئن كانت المدن والأقطار هي التي يقع التنصيص في نهاية القصص والقصائد والرسائل عادة فإن الأماكن التي أشار إليها وحيد الطويلة في نهايات قصصه ما هي بالمدن ولا بالأقطار بل هي مقاه وليس ثمة مكان وقعت اليه الإشارة دونها إلا إذا استثـنينا ذكره مرتين لأسم فندق وفي هذه الحالة اعتـبرنا المقهى مضمنا داخل كلمة فندق فنحن نتصور أن الكتابة أما أن تكون داخل مقهى الفنـدق أو قرب مسبحه أو في إحدى شرفه وفي جميع الأحوال فنحن إزاء جلسة محددة مسبقا، منضـدة وكراسـيونادل ومشروب وكتل من الناس غير متجانسة تعيش صخبها الخاص وهـمومها الخاصة. وقد حدد لنا الكاتب أسماء جملة من المقاهي المعروفة في مصر، منها مقهى سويس كورنر ويبدو أنه مكان الكاتب الأليف إذ ذكر إحدى عشر مرة:ـ مقهى إيفر جرين وقد ذكر أربع مرات. ـ مقهى الحرافيش وقد ذكر كذلك أربع مرات. ـ مقهى الأندلسية وقد ذكر ثلاث مرات. ـ مقهى الياسمين، مرة واحدة. ـ مقهى البورصة الإسكندرية، مرة واحدة. ـ هلتون رمسيس مرتين. ـ مقهى إلا خمسة ثلاث مرات.مع الإشارة إلى أن هذه الأماكن وردت مرتبطة بتواريخ معلومة حددت لنا المدة الزمنية التي تمت فيها كتابة هذه القصص وهي محددة بين سنة (1994 ـ 1997)، أربع سنوات كاملة والكاتب لا يغير عاداته في الكتابة ويبدي وفاء لنفس الأماكن لا يروم عنها محيدا.إن اختيار الكاتب هذه الأطر المكانية المحددة للكتابة وحرصه الدائم علي تذكير القارئ أنه يكتب في مقهى يضعنا أمام جملة من الأسئلة بعضها يبدو بسيطا إن لم نقل ساذجا مثل، هل أن الكاتب من خلال هذه الممارسة يسعي إلى إحياء أدب المقاهي ولو بصفة فردية ومختلفة

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم