“صمت الطواحين”.. لعبة دائرية فى زمن غارب

"صمت الطواحين".. لعبة دائرية فى زمن غارب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يتيح لنا صدور طبعة جديدة عن مكتبة الأسرة  لرواية "صمت الطواحين" للروائى الراحل بوسف أبو رية الفرصة لكى نتأمل عالمه الخاص، ونظرته للمجتمع القروى بفئاته وشخوصه، ورؤيته لدور الغريزة الفردية، ولتأثير الظرف الإجتماعى والإقتصادى فى تحديد المصائر والنهايات. الرواية التى لاتزيد فى طبعتها الجديدة عن 175 صفحة ترسم بتكثيف شديد لحظات تحول سواء فى حياة القرية المصرية، بعد الإنتقال من العصر الملكى، الى حكم عبد الناصر وضباط يوليو، كما ترسم لحظات تحول فى حياة شخصياتها الذين رسمت ملامحهم بقوة وبراعة.

هذا مجتمع بسيط أقرب الى الفقر، تلعب فيه الطاحونة، مجازا وواقعا، دورا محوريا، وتتكرر فيه الحكايات من الآباء الى الأبناء بصورة لافتة، وجديرة بالتأمل. الطاحونة التى تجمع القرية، وكذلك شخصيات الرواية سواء فى قرية الصوالح، أو فى الجزيرة، أو فى طناح، ليست سوى الدائرة الواسعة التى سيدير من خلالها يوسف أبو رية أحداثه، وقصص أبطاله. انتقال ملكية الطاحونة من الخواجات الهاربين من مصر الى أثرياء الفلاحين، هو بداية الأحداث، وتراجع دور الطواحين هو الذى سينبىء بنهاية العصر والأبطال. الطاحونة تطحن القمح ، المضرب يتعامل مع الأرز، والبشر يأتون ويذهبون، ثم تعاد الحكاية فى دائرة تشبه الطاحونة، حتى منامات الشخصيات مشدودة الى النساء، وحياتهم مرتبطة بهن، وكأنهن المباهج الوحيدة فى مجتمع مغلق ومنعزل.

أبو المعاطى الذى استعاد طاحونة والده من أبناء عمومته، رسخ أقدامه فى قرية الجزيرة، ثم اشترى طاحونة قرية الصوالح، وسافر إليها مع معلمه نور الأسود، وعليوة الصبى الصغير. الطاحونة الجديدة ستظل صامتة لا تعمل، ذلك أن أهل الصوالح من البدو، يتشككون فى أهل الجزيرة الفلاحين، بل إنهم يرون أن توسع الجزيرة كان على حساب قريتهم. أهل الجزيرة يشعرون أيضا من ناحيتهم بالتعالى تجاه بدو رحّل لم يعرفوا الإستقرار إلا مؤخرا. انفصال طبقى رغم اقتراب الأماكن، وأبو المعاطى سيضيف الى الإنفصال وقوعه فى عشق شهدة ، زوجة بائع الكيروسين طه. مجرد رؤيتها سيدفع دماء الحياة التى نسيها رجل تزوج وأنجب أبناء كبارا، ثم بقيت زوجته الأولى عجفاء ومريضة. لن تفلح طاحونة الصوالح، ولكن سيعود أبو المعاطى بشهدة، بعد أن نجح صبيّه عليوة فى التخلص من طفلها الرضيع. هذا الجزء مشوش قليلا فى تفاصيله، لأن الرواية لا تبين كيف تخلصت شهدة ( التى أعادت شهد الحياة الى مالك الطواحين) من زوجها العاجز طه، كما مر حادث قتل الطفل بدون أصداء، مع أن الشبهات تجاه الزوجة قوية للغاية.

لكن قوة الشخصيات، ونجاح يوسف أبو رية فى الربط بين الصعود الإقتصادى، واستعادة الغريزة، واستشعار القوة والسلطة، كل ذلك منح الرواية حيويتها، وخصوصا أن مؤلفها يستوقفه التفاوت بين الشخوص فى أقل سماته وملامحه: نور مثلا مساعد أبو المعاطى، هو ابن أسرة عبيد توارثتها العائلة، ولكنه ينجح بمهارته فى إدارة الطاحونة، فى أن يحتل مكانة متفردة لدى أبو المعاطى، وشهدة القادمة من الجزيرة، تشعر بالتعالى على زوجها بائع الكيروسين الذى ينتمى الى الأعراب. تشتبك الغريزة مع تحولات إقتصادية دفعت بالفلاحين الى امتلاك الأرض، وشراء ما تركه الخواجات، لرسم ملامح العلاقات والتحولات. يتم ذلك بشكل بارع وبأسلوب حكى سلس ومختزل، وتسهم الأحلام والرؤى التى تظهر فى منامات بعض الشخصيات، فى إضفاء نوع من القوة القدرية الواضحة، وكأن الرؤى تنبىء عن مصائر قادمة، لا مهرب منها ولا فكاك.

الجيل الثانى يمثله فرج، ابن أبى المعاطى. الولد ارتبطت حياته أيضا بالطاحونة، ولكن هذه المرة مع طاحونة طناح التى استأجرها والده أبو المعاطى. كان الخواجة قد باعها لأحد أبناء القرية، خوفا من التأميم. سافر فرج وهو فى مطلع الشباب الى طناح مع عمه الأكبر أبى العلا، وعمه الأصغر يونس. هناك تكررت تقريبا الحكاية: فرج وقع فى غرام شاهيناز، حفيدة منسق القصور الملكية، ووريثة المجد الغارب، حيث تعيش فى قصر متهدم مع جدتها. طبقة غاربة تحاول أن تعيش، فى مقابل طبقة صاعدة من الفلاحين الذين امتلكوا الأرض والطواحين فى عصر عبد الناصر. يفوز فرج بشاهيناز رغم منافسة عمه أبى العلا، وعمه يونس. ولكن غريزة أبى المعاطى تعود من جديد . شهوته التى أيقظتها شهدة زوجته الجديدة التى غنمها من الصوالح، أعادتها شاهيناز زوجة ابنه فرج. يّرغم الأب ابنه فرج على طلاق زوجته الفاتنة التى رفضت أن تكون مستباحة الجسد. يتزوج فرج أكثر من مرة، وينجب البنين والبنات، ولكنه لا ينس أبدا شاهيناز، وقبل أن يموت يطلب أن يراها لآخر مرة،  ليكون ذلك لقاء الوداع.

دارت الطاحونة لتصل من جديد الى نقطة البداية، ودار الزمن فتغيرت الأمور، لم تعد الطاحونة تدر الدخل القديم. عصر آخر يتشكل رغم حكايات الصوالح والجزيرة وطناح. شخوص يوسف أبو رية أسرى غرائزهم الى حد كبير.  يسيرون  بالتحديد وراء غريزتهم الجنسية، ويمكن أن يدفعوا ثمنا باهظا لذلك : هذا مثلا ما حدث مع عليوة و مع والد نور و مع أبى المعاطى وابنه فرج. الجنس ليس مجرد إشباع ولكنه إحدى متع الحياة القليلة. المجتمع نفسه ذكورى يقيس الفحولة بالقوة وبالقدرة على اقتناص المرأة، أما النساء فهن تعرفن أن الجسد أقوى أسلحتهن. تدركن ذلك مهما كان المستوى الإقتصادى. الفتيات اللاتى تذهبن الى الطاحونة، تدفع بعضهن الثمن من لحمها. هذا المجتمع المغلق يتوارث الأماكن والمواقع، وكأنه يرزخ تحت طاحونة قدرية هائلة لاترحم: فرج هرب من أبيه، وعمل فى النقل العام، ولكنه سرعان ما عاد من جديد الى الطاحونة، تحت سطوة الأب .

القرية التى ترسم ملامحها رواية “صمت الطواحين” ما زالت موجودة فى بعض سماتها. هناك علاقات طبقية معقدة تحكم حياة البسطاء، وليست فقط علاقتهم مع الأثرياء. كانت الطاحونة معادلا فنيا جيدا وذكيا لتقلب الأحوال والشخصيات، ولتغير المجتمع من الملكية الى الجمهورية. وظل الإنسان كما هو : تحركه الغريزة، وتأسره السلطة والثروة، ويكرر حياته دون أن يدرى.

ولعل موت الإنسان فى نهاية الرواية ممثلا فى احتضار فرج هو الصمت الأكبر لطاحونة لم تطحن إلا أقل القليل، هكذا نحن: نظل نطحن فى الهواء، رغم لحيظات الاستمتاع بالجسد وبالمال، ثم يأتى وقت الصمت الطويل.

مقالات من نفس القسم