المكان مصنع الرؤية.. وقفة مع قصيدة (البصرة) لعبد الوهاب البياتي

البياتي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 د. جمال فودة

   المكان في الشعر يتشكل عن طريق اللغة التي تمتلك بدورها طبيعة مزدوجة، إذ للغة بعد فيزيقي يربط بين الألفاظ وأصولها الحسية، لكن المكان الشعري لا يعتمد على اللغة وحدها، و إنما يحكمه الخيال الذى يشكل المكان بواسطة اللغة على نحو يتجاوز قشرة الواقع إلى ما قد يتناقض مع هذا الواقع.

معنى هذا أن المكان في بنية النص الشعري يجسد بناء فنياً موازياً / مناقضاً لحركة الواقع الذى يعايشه الشاعر من خلال تفاعل الداخل مع الخارج في لحظة كشف تنبئ عن طبيعة العلاقة بينهما مجسدة دلالياً / نفسياً في ثنايا التجربة الشعرية.

   وفي قصيدة (البصرة) يرسم عبد الوهاب البياتي صورة لتلك المدينة، صورة تستقر في منطقة اللا شعور بوصفها مهد الحقيقة المغيبة والمثل المغتربة، وحين يتم استدعاء هذا المعنى بوصفه حلماً ضائعاً في أعماق الشاعر، فإنه يحضر بأبعاده الفيزيقية والمادية، أي إنه يتجسد بعناصره المكانية الحسية وأبعاده النفسية، عبر اختراق خيالي لأستار الماضي البعيد يستقطب إلى الحاضر هذا المشهد الإنساني الرائع:

كانت، كعادة، أهلها البسطاء

تجترح البطولة والفداء

تستقطر التاريخ معجزة

وشارات انتصار

وبوجهها العربي

في كل العصور

-مدينة الشعراء والعلماء-

قاومت الغزاة

وبأكرم الشجر النخيل

وشطها

كانت إلى الشهداء في معراجهم

زاد المعاد:

الشعر سر شبابها

وبطولة البشر /البناه

   يستدعي الشاعر صورة البصرة من خلال عدة تفاعلات فكرية ونفسية ؛ ليصبح انتماؤه انتماءً إنسانياً لا مكانياً، إذ يتمثل البنية الثاوية العميقة لمفهوم المكان، فالبصرة ” مدينة العلماء والشعراء ” في كل العصور بوجهها العربي، وبهذا الأسلوب الشعريّ يدمج  الشاعر الحالتين السابقة والحاضرة للبصرة في لحظة شعورية واحدة، فالإحساس هو الذي يشكّل الهيئة الجديدة للمكان، وليست حالته الحقيقية، بل الاندماج بين التخيل والحقيقة هو الذي يصنع بلاغة الأسلوب في حركيّة المكان.

فمدينته ( كانت) وشتان بين ما كان وما هو كائن !، فالبطولة والمعجزات والانتصار والصمود أصبحت ذكريات يرويها التاريخ !

خصلات شعرك في مرايا البحر:

نافذة وعصفور يطير

ووردتان

وأنا المسافر في الزمان وفي المكان

وفي منافي الأبجدية والعروض

لغتي بضوئك أورقت

صارت قناديل المحبة

أزهرت

صارت منازل للقلوب

صار الزمان حديقة

والبحر مرآة الحديقة والزمان

   النافذة والبحر والحديقة منازل للقلوب تنيرها قناديل المحبة، فتلهم شاعرنا البوح بكلمات تفوح بعطر يخترق حدود الزمان والمكان ويحلق طائراً يشدو بأجمل الألحان.

إن وصف المكان في المقطع السابق يكشف عن الحالة الوجدانية للشاعر أكثر مما يكشف عن حقيقة المكان وطبيعته، فالشاعر اتخذ المكان مرآة تعكس حالته وتوتره الداخلي. وبطريقة شعرية يجعل من صورة المكان استعارة تعبّر عن صورته وتأثره النفسي الذي يختزن حياة سابقة كاملة، في مشهدي تضمّن عنصريْ المكان والزمان مندمجين معا، وما فيهما من علاقات إنسانية سابقة يجري استحضارها في مقطع استعادة الملامح القديمة، لقد أصبح الزمان حديقة، والبحر (مرآة الحديقة والزمان) يعكس على سطحه صورة المدينة التي استوطنت القلب والعقل.

كانت بلادي ترتدي ثوب الربيع

أوقفت راحلتي

وقلت: بكم تبيع

سلطانتي

هذا الضياء الأزرق الوردي

هذا الثوب

هذا الياسمين

قالت: “بكل قصائد الشعراء”

ضاحكة

ولكن، لن أبيع !

   إن تشكل النسق المكاني لدى الشاعر يعتمد على جدل الداخل بما يشتمل عليه من مكونات خاصة وطاقات إبداعية تتفاعل مع فكرة المكان الداخلي، أو التصور الذهني للمكان من ناحية  والخارج متمثلاً في أبعاد موضوعية واجتماعية مستمدة  من الواقع المعيش من ناحية ثانية، فمشكلة الشاعر مع المكان أنه (كان )، وهو لا يستطيع محو تلك الصورة الرائعة من ذاكرته، صورة الأميرة في أوج مجدها ترفل في ثياب العزة والكرامة، ويكشف النسق المكاني ـ بالإضافة إلى ذلك ـ عن نسق أكثر شمولاً لدى الشاعر ذاته، إذ يدفع كل ما يملك ليستعيد ذلك الماضي التليد، ولكن هيهات (هي أشياء لا تُشترى ).

   لقد نجح البياتي في مزج الذاتيّ بالموضوعيّ والداخليّ بالخارجيّ بأسلوب رائع؛ تجسيداً للمعاناة الإنسانيّة، وتكثيفاً للوجع والبوح الشّعريّين المتجليّين في البحث عن الفردوس المفقود ؛ لذلك يظلّ النّبش في الذّاكرة طريقة من الطرائق التي تجعل الشّاعر يسبح في خيال لا يجد فضاء لعناقه غير فضاء النّصّ الذي نراه هنا مترعاً بالتّموّجات الدّاخليّة القائمة على إيقاعات مسترسلة في جدليّة الزّمان والمكان.

     وهكذا يحظى المكان بأهمية خاصة في شعر” عبد الوهاب البياتي” إذ يمثل بؤرة الدلالة ومحور التجربة الذى تدور حوله رؤى النص، فالشاعر يريد أن يطوف بالوجود كله ماديات ومعنويات، مشاعر وأفكاراً بحثاً عن عالمه المفقود ؛ لذا يستعين – في سبيل هذا الطواف – بالانطلاق من مواقع معينة يتخذ منها دفئاً لوجدانه، وسلماً يبتغى به الوصول إلى عالمه المنشود،  وهذه الأماكن التي يجسد بها الشاعر رؤيته ويصور من خلالها تجربته هي نضح مكوناته النفسية، إذ لم يخلقها من عدم، بل هي مواقع أو عوالم قديمة يستحييها ويضرم في رمادها وهج جمراته الشعرية.

 

مقالات من نفس القسم