سردية جدارية البردي في رواية “الرسام الإنجليزي”

الرسام الانكليزي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

انتصار بوراوي

رزان المغربي هي كاتبة ليبية صدرت أول مجموعة قصصية لها في عام2000 م ثم توالت مجموعاتها القصصية التي تجاوزت خمس مجموعات، ثم دخلت عالم الرواية عبر روايتها الأولى “الهجرة على مدار الحمل ” وروايتها “نساء الريح” التي ترجمت إلى ست لغات أجنبية وترشحت إلى الجائزة العربية للبوكر، بالإضافة إلى إصدارها مجموعات شعرية ونصوص نثرية وفى روايتها الثالثة  “الرسام الإنجليزي.. حكاية جدارية البراديا وطبرق” الصادرة عن دار “منشورات ضفاف” في لبنان، تغوص الروائية في التاريخ الليبي وتلتقط من خلاله قصة الرسام الإنجليزي “جون فردريك بريل ” الذي جاء إلى طبرق، رفقة الكتيبة الإنجليزية التي حاربت الجيش الألماني وقائده رومل في الحرب العالمية الثانية، وأثناء وجوده قام برسم جدارية البردي في مبنى على قمة منحدر يطل على خليج البردي، وظلت هذه الجدارية كمعلم فنى تاريخي خالد معبر عن أهوال الحرب العالمية الثانية التي جرت بعض فصولها فوق الأرض الليبية.

 الخلفية الزمنية والمكانية للرواية

تستحضر الكاتبة تاريخ ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، وتربطه بالتاريخ المعاصر من خلال شخصيات الرواية التي يرتبط حاضرها بماضي وتاريخ ليبيا.

اعتمدت الروائية في تكنيك سردها، على الأسلوب الحديث في السرد عبر اللعب بين الأزمان والانتقال بين الزمن الاسترجاعي للماضي، والحاضر حيث تستهل روايتها بأربعينيات القرن العشرين ثم تنتقل لشخصية سلمى فى تسعينيات القرن العشرين ومآبين عامى2006 _2011  ثم تعود الرواية لأحداث ليبيا، خلال أواخر الثلاثينيات أثناء الاحتلال الإيطالي لليبيا ثم حقبة  الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال سرد  طفولة شخصيات سدينة والمنصوري وحسن الاعرج وحباره وخيرية اليهودية، الذين تعرفوا على الجندى الإنجليزي في  طفولتهم بأربعينيات  القرن العشرين .

تنتقل الرواية بين عدة أمكنة جغرافية، ما بين مدن طبرق وبنغازي والقاهرة روما في إيطاليا ولكن المساحة السردية في الرواية الأكبر، كانت لمدينة طبرق التي استقر فيها الجندى والرسام الإنجليزي مع كتيبته لفترة في البردى بطبرق، و دارت على تخومها أحداث الحرب العالمية الثانية وباعتبار طبرق مسقط رأس عائلة “سلمى المنصوري” التي تستمد من سردية جدها وجدتها بعض التفاصيل عن حياة الجندي “جون بريل “في قرية البردى بطبرق.

شخصيات وأصوات الرواية

تحفر الروائية رزان المغربي عميقا في سردها، وتبدأ روايتها بالسرد بضمير الغائب عن سيدة انجليزية غريبة تقوم بزيارة المبنى القديم، الذي أقام فيه الجندي والفنان الإنجليزي جون بريل بقرية البردي وتصف الروائية بأسلوب سردي فني بارع، قرية البردى الهادئة الوادعة وحيرة من يرون السيدة الأجنبية الغريبة واستغرابهم، من حضورها كل فترة رفقة طفل أشقر صغير لزيارة المبنى وتفقده ثم طلبها بعد مدة من الصياد الذى يصطاد جوار المبنى بالاهتمام بالمبنى وتنظيف الغرفة التي توجد بها الجدار.

يكتنف الغموض شخصية المرأة، التي لا تفصح عنها الروائية إلا في الفصول الأخيرة من الرواية ولكنها تلمح لعلاقتها بالشخصية الرئيسية، التي تدور حولها الرواية وهي شخصية الجندي والرسام “جون بريل” من خلال شخصية، حكيم حفيد الطفل الذي كان يرى السيدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي تزور المبنى العتيق المهمل بقرية البردي والذي يجد في المعلم الفني للجدارية جاذبية والهام للبحث عنها، بعد معرفة قصتها من جده ووالده الذين كان المبنى بعهدتهما

تتشابك شخصيات الرواية، التي ترتبط بعضها ببعض من خلال تاريخ، والديهم وأجدادهم وعلاقتهم بالمكان الذي يتمثل في منطقة البردى، التي حدثت فيها فصول طويلة من الحرب والصراع بين قوات المحور والحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

تسرد الرواية مرحلة الاحتلال الإيطالي والمعتقلات، وتصف الروائية حال المعتقلين بمعتقل البريقة التي اعتقل فيها الطفل المنصوري مع والدته وأخته، ومن خلال عيون وعقل الطفل ترصد الروائية حال المعتقل وتفاصيل الحياة فيه، ولقاؤه بحسن الأعرج الذى التحق مع كتيبة إيطالية أو كما قال” يأتى الإيطاليون إلينا بجنود من مستعمرات أخرى لمساندتهم في قتال المجاهدين ولو ماتوا فلن تكون خسارة بالنسبة لهم، ويفعلون ذلك معنا يجندون الليبيين بعد تدريبهم على كل شيء”

يسرد والد سلمى حامد  المنصوري  قصة والده المنصوري، الذى اعتقله الإيطاليين بمعتقل البريقة  ونتيجة ذكائه ونباهته التي لاحظها، الجنرال المسئول عن المعسكر اختاره  للذهاب معهم إلى مدينة طبرق للعمل موظف في الإدارة الإيطالية، ودرس في المدارس الإيطالية  مع أطفال الإيطاليين وأبناء الموظفين، الذين يعملون في المكاتب الإدارية مع الطليان  قبل دخول الإنجليز لمدينة طبرق واستقرارهم في البردى، وتعرضهم للحصار، من الألمان وحرب الكر والفر بين الحلفاء والمحور حيث يصل الجندى والرسام جون بريل، الذى انضم ضمن الكتيبة الخامسة فوج يوركشاير الشرقي،  بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، و حارب في أوروبا في معركة دنكرك على الساحل الفرنسي، ثم نقل إلى الشرق الأوسط ضمن فوج الإمداد العسكري في  القاهرة ثم انتقل إلى شرق ليبيا، في عام 1941  عندما احتلت القوات البريطانية منطقة البردي بعده بفترة وجيزة بدأ بريل في رسم جداريته، والتي انتهى من رسمها في 12 أبريل 1942

 يستقر الجندي جون بريل فى طبرق، ويختبئ في غرفة بمبنى بمنطقة البردى بعد هجوم الألمان على مدينة طبرق، ثم تراجعهم ومحاصرتهم للمدينة وتتقمص الروائية روح الفنان التشكيلي الإنجليزي ساردة عبر ضمير المتكلم، قصة رسمه لجداريته الشهيرة قائلة: “لايتذكر جون نفسه وهو يرسم تزجية للوقت، فالفن إيقاع نبضه الداخلي، عندما ينظر إلى صورته في المرآة يرى تكوينه من الداخل يحرضه على إعادة تصور كل ما حوله ثم تشكيله كما يبدو عليه للناظرين وإذا لم يفعل يختل توازنه النفسي”

ترسم الروائية شخصية الجندي والفنان التشكيلي ببراعة، عبر لعبة الخيال الروائي وكان بالروائية تقمصت شخصيته، وكتبت ما جال بخاطره وأفكاره حين أقام بالمبنى الذي رسم فيه جداريته الخالدة كما يقول” القدر سأقنى إلى هذا المبنى، حيث اقيم منذ ما يقارب العام وهيأ لي بدل الأسر حرية وبدل السأم من البقاء مع صناديق المؤن امتلكت حائطا ألهمني كيف أسيطر على مخاوفي من فقدان هويتي الشخصية”

جون بريل وجد في رسمه للجدارية، تحرر وانعتاق من الحرب التي تسحق روحه ومعنى لإيصال رسالة عن عبثية الحرب وجهنميتها، كما اكتشف في رفقته للبدو الذين يقطنون البردي قيم الشهامة والمروءة التي ظهرت عندما استولى الألمان على منطقة البردي، وانسحب الجيش الإنجليزي منها فيما وقع هو مغشيا عليه ليجده البدو ويحضنونه ويخفونه بعيدا عن عيون الألمان كي لا يعتقلوه أو يقوموا بقتله.

تمضي أحداث الرواية في سرديتها بين شخصيات الرواية، وفي انتقالها بين الازمان وتتوقف عند عام1996 م عند اختباء الجماعات المتطرفة، في كهوف الجبال ليكون الضابط حامد المنصوري ضمن قادة الجيش الذين يحاربونهم، وينهون مشروعهم المتطرف في الجبل الأخضر وكأن بالروائية تربط بين مقاومة الليبيين للاحتلال الإيطالي، بمقاومة مشروع التطرف من خلال الربط بين التواريخ التي تتمدد من نهاية الثلاثينيات حتى العشرية الأولى من الالفية الجديدة

 انتقلت الأصوات السردية بالرواية بين صوت ضمير الغائب وضمير المتكلم فأحيانا تسرد الروائية الأحداث التي حدثت مع شخصيات الرواية، بضمير الغائب وأحيانا أخرى تترك شخصيات الرواية تروى الأحداث والمشاعر التي تعتمل داخلها عبر ضمير المتكلم.

صورة المرأة بين الصداقة والتمرد والحب

تتوزع شخصيات النسائية بالرواية وتتشكل عبر قصة صداقة سدينة  وحبارة وخيرية اليهودية  في الأربعينيات وترسم الروائية تفاصيل صداقتهن، ومسار حياتهن بجمالية سردية وتطل شخصية سلمى بالرواية كالعنقاء التي تخرج من تحت رماد، الأيام والذكريات لتنسج قصتها الخاصة بعيدا عن أرث الماضي، ولكنها في نفس الوقت مرتبطة بالوطن رغم ابتعادها عنه لمدة عشرة سنوات عبر بحثها ودراستها في عمق التاريخ، عن حكاية الرسام والجندي الإنكليزي الذى رسم جدارية البردى  فتنقب في ذاكرة والدها، وجدتها لتسترجعه من التاريخ  عبر سردية  جدها المنصوري وجدتها  سدينة،ثم تربط الحاضر بالماضي، من خلال تعرفها على طالب الدراسات العليا  الذى ارتبط عمل والده بحراسة مبنى جدارية  البردى، وعثر على أوراق الجندي والرسام جون بريل  الذى قدم لها زوايا  فنية مهمة  في جدارية البردى

تظهر سلمى كامرأة متمردة، تخلت عن ماضيها مع الحب البائس وفتحت قلبها لرجل من جنسية مختلفة كما تقول بلسان المتكلم بالرواية” مواجهة الواقع تحتاج إلى شجاعة فائقة إذا ما كنا غارقين في الوهم والأحلام، بالذات مع لحظات ضعفنا الإنساني، يصبح الأمر شاقًّا، ويحدث خلخلة لم نستعدَّ لها، مما يلزمنا بالانصياع والقبول حتى لا نفقد توازننا، هذا ما فكرت فيه بعد أن انجلى وتوضح بعض ما كان خافيًا عني لزمن طويل”

ولكن سرعان ما تتهاوى قصة الحب مع الإيطالي فرانكو، حين يتحول الانبهار الى فتور وتمضى تاركة خلفها حبها الأول، خالد الذي حاول العودة إليها واسترجاعها ولكنها ترفض العودة إليه لأن صورته البهية، سقطت من عينيها   نتيجة المواقف التي عاشتها معه في ماضي قصة حبهما

تتشابك فصول الرواية وتتفرع وتنتقل بين الأزمان، في كسر للبناء التقليدي للرواية الكلاسيكية من حيث تهشيم الزمن بالتقديم والتأخير، في البناء السردي للرواية لتروى الكثير من تاريخ ليبيا عبر شخصيات الرواية المتعددة، والتي ترتبط جميعها بشكل من الأشكال بمعرفة قديمة بالرسام الإنجليزي الذي رسم جداريته بالبردي، ثم توفى تاركا خلفه أثر فني كبير يعبر عبر رموزه عن كراهية الحرب والتوق إلى انتهاء الحرب وحلول السلام.

قامت الروائية الليبية رزان المغربي، في روايتها باستخراج الجدارية الفنية الخالدة من غبار الإهمال والنسيان وخلدتها بأسلوب سردي بارع، وجمعت في ثناياها سردية جميلة عن الفن والصداقة والحب في مواجهة الحرب والخراب والقتل عبر مختلف الحقب الزمنية في تاريخ ليبيا.

 

 

مقالات من نفس القسم