روبير فالزير
تقديم وترجمة: عثمان بن شقرون
أن تترجم نصوص روبير فالزير، وتحديداً هذه المنتقاة من مجموعته “عن بعضهم وعن نفسه“ (Sur quelques-uns et sur lui-même), ، يعني أن تدخل غابة متشابكة من الضوء والظلال؛ مهمة تزاوج بين الصعوبة والمتعة، بين التيه والاكتمال. ففالزير ليس مجرد كاتب، بل عين حساسة تلتقط العالم كما لو كان نَفَسًا عابرًا، وتحوله إلى أثر أدبي يتنفس بدوره.
يتجلى هذا السحر بأكمله في النثر القصير. فشذراته ليست ملاحظات عابرة، بل خطوات متقطعة على درب يشبه المشي الذي لازمه في حياته وكتاباته. فكما يقوده المشي من مكان إلى آخر، تقوده الشذرة من فكرة إلى أخرى: من مواجهة الاعتداء إلى تأمل في الموت، ومن وصف شخصية إلى انغماس في صميم التجربة الإنسانية. كل موقف يومي عنده يتحول إلى بؤرة فلسفية ونفسية، تفضح صراعًا داخليًا يخصه ويخص القارئ في آن واحد.
ولأن النصوص عنده تتشظى مثل البلور، اخترت أن أترجم عنوان المجموعة بـ “شذرات“ بدلًا من “ملاحظات” كما وردت مثلا في الترجمة الفرنسية. فالملاحظة تسجل ما يقع، بينما الشذرة تسعى إلى ما يتوارى. وإذا كان موريس بلانشو يرى في الشذرة انعتاقًا نحو الغياب والصمت، فإن فالزير يحولها إلى حضور جارٍ مع خطوات المشي: حضور متدفق، يتلمس الحياة ولا ينقطع عنها.
في هذه النصوص التي ضمتها مجموعته السالفة الذكر، يحاور غوته وهاملت وفان غوغ وغيرهم. ليس ليعكس صورته فيهم، بل ليتخذهم أقنعة يواجه بها نفسه. يكشف عبرهم هشاشته ووحدته وقلقه الإبداعي. إنهم مرايا يعكس فيها أسئلته عن الوجود أكثر مما يعكسون ذواتهم.
لقد شبّه فالزير نصوصه بـ “راقصات باليه صغيرات يرقصن حتى ينهكن من التعب“. صورة تختصر فنه كله: نصوص ولدت من اللحظة، تتحرك بإيقاعها الداخلي، لا تخضع لقوالب. هي موسيقى خفية، وجملة كما وصفها أحد مترجميه الفرنسيين: “خطوة على درب الزمن، فموسيقى، ثم تنفس”.
في هذه الشذرات، يقف فالزير في مواجهة الآخرين، يراقبهم ويدافع عن حقه في الوجود، يكشف خواء الادعاءات، ويربط تجربته الشخصية بتجربة قارئه. كل قراءة تصبح إذن نزهة مشتركة، حيث النص ليس مجرد نص، بل مشيًا في الحياة نفسها.
**
شذرات
إذا جاز لي أن أعتبر نفسي مُستبصِرا، فإن الأمر بيننا قد جرى على هذا النحو تقريبًا: كان يظن — وهذا افتراضٌ تبيّن لي بقوةٍ بعد وقت قصير من مشادّتنا — أنني لا بد أن أكون في ضائقة شديدة. لا شك أنني قد أخطئ في «كل هذه» الحدوس؛ لكنني في الواقع أعتقد أنني محقٌّ في التفكير هكذا. وفي نهاية المطاف، يجب التمسك بتأويل معين. لقد كان على الأرجح يعتقد أنني كنت في وضع حرج، ولهذا السبب لم يكبح جماح نفسه كثيرا في الملاحظات التي وجهها إليّ، مقلدًا بذلك المبدأ القاسي الذي ينصُّ على أن: ليس هناك من جدوى في التعامل بلينٍ مع الفقراء. كنتُ بالفعل أعطي انطباعًا بأنني فقير مدقع، لكن في أعماق نفسي كنتُ أشعر بالطمأنينة. ماذا حدث بعد ذلك؟ لقد اتخذتُ موقفًا دفاعيًا، وبهذا ألحقتُ أذًى بالغًا بمُهاجمي. كان رد فعلي أو دفاعي، يبدو وكأنه هجوم مفاجئ، وصرتُ منذ تلك اللحظة، في ذهن المُعتدي، شخصًا حقيرا وفردًا خطيرًا. حياةُ الإنسانِ مؤسسةٌ غريبةٌ، وأظن أن الأمر سيظلُّ على هذا الحال دائمًا. هكذا، ولحسن الحظ، تمّ أخيرًا كشْفُ الشرير الكامنِ فيَّ، ولماذا؟ لأنني دافعتُ عن نفسي بشدة على غير المتوقع، ولأنني أظهرتُ طاقةً لم يكن الآخَرُ يعرفها عنِّي. كان يَفترض أنني أقف على أرض رخوة، بلا توازن، وكان يظنني تائهًا، محطّمًا، فارغًا، ضائعًا، كان يعتقد أنني مُحبطٌ… من يدري ما الذي كان يظنه أيضًا؟ على أيّ حال، لقد تفاجأ للغاية، لأنني سمحتُ لنفسي أن أتحلّى بالمبادئ وإظهار كبريائي. كان يظن أنه يستطيع سحقي دون عناءٍ، غير أن ما تلا ذلك أظهر أنه هو من كاد أن يُسحق. وهكذا، إذن أصبحتُ فجأةً أحقرَ الأوغاد الأحياء على الإطلاق. صرتُ همجياً، وصرتُ وحشاً. ولأنني كنتُ أملك قلباً جريئاً وبأسا داخليا، ولأنني تصدّيتُ للضربة، فقد اتخذتُ سمات سيِّدٍ بغيضٍ. أعتقد أن بعض النمّامين ربما همسوا في أذنه شتى أنواع الشرور والمذمات عني. لذا ينبغي للمرء أن يتحقق بنفسه، وألا يعتمد على ما رآه الآخرون. بشكل عام، يبدو لي أنه من التهور الشديد أن يتخيل المرءُ، هكذا وبدون تفكير مسبق، أن يكون شخصٌ ما عديمَ الدفاع تمامًا منذ الوهلة الأولى. تتوالى الخيباتُ، إذ يُمنح سلاح — وغالبًا ما يكون فعالًا — لمن هو أكثر عوزًا، لمن هو أكثر عزلة، ذاك الذي تحيط به في الغالب وجوهٌ معاديةٌ؛ لأنه هو بالتحديد المنعزلُ الذي يتوقّعُ الهجماتِ أكثر من غيره، ولهذا فهو غالبًا الأكثر تسلحًا بأدوات تمكّنه من دفاع ناجح. لقد كنتُ دائمًا معزولًا، ولذلك كنت دائمًا مستعدًا لأيّ نوع من القتال. أما هو، فلم يخطر بباله ذلك. ولهذا بدا دفاعي المنظم بمثابة خبث مُبيَّتٍ. يظلُّ الكائن البشري دائمًا شخصًا طيبًا طالما تتركه في سلام؛ لكنه يملك كامل الحق في أن يُظهر لك بأن المساس به ليس أمرًا يُؤخذ على سبيل المزاح، وفي أي مجالٍ كان. هكذا هو الأمر: لا أُولي أهمية كبيرة للمظاهر، وسلوكي هادئ تمامًا، وتبدو تصرفاتي خالية من أي ادعاء. هذا الطبع وُلد معي. وإن تصرفتُ على هذا النحو أو ذاك، فليس ذلك عن قصد. تلك المظاهر هي التي دفعته لمضايقتي، عندئذٍ، وبكل صدق، أخذتُ زمام المبادرة لأتفادى الضربة، ثم وجهتُ له واحدة. أنا فقير، هذا صحيح! لكني أعتبر الجميع فقراء للغاية، بمن فيهم أصحاب النفوذ. لا أرى في نفسي سوى مخلوق فقير، تمامًا كما أرى نفسي بمقام أيِّ سيِّدٍ كان.
2
سيكون من الجيد أن نكون مخلصين لبعضنا البعض، لكن الوُدَّ المتبادل لديه فرص ضئيلة للغاية في أن ينتشر في كل مكان. يصطدم القلب النزيه بعقبات لا حصر لها. فلنكن صادقين ولننظر إلى الأمور كما هي. إن الصدق لا يفيدنا إلا خيرًا. يجب ألا نخدع أنفسنا. نحن صغار وضعفاء. آه، لو كنا أقوياء! لو كنا رجالًا أقوياء، لكان لدينا أمل في أن نصبح كائنات طيبة. ضعفنا هو خستنا المطلقة، وحساسيتنا هي خداعنا. نحن خاسرون في كل مرة، منذورون على أي حال لشقاقات لا نهاية لها، داخلية وخارجية. ملعونون، خونة ومنبوذون! ولكي لا يتوهّم أيٌ منّا أنه عظيم، ولو بحجم كشتبان! الموت لنا، نحن الغارقون في شعورنا بضآلتنا. أيها الرجل المشهور، الموت لك! أيتها المرأة المشهورة، الموت لكِ! إن لم يكن لدينا الآن إحساس بأننا، على الأقل، بؤساء إلى حدٍّ ما، فنحن وحوش. علينا أن نعمل، وعلينا أن ننبذ الأعراف النبيلة.
3
ثمة شيء كان يدور حوله، شيء ما يرفعه. كان ذلك يخترقه بنوره، يُحْيِيه ويغمره، ويملؤه سكينة وبهجة. سكينة عميقة ومستدامة كانت تتسلل إلى داخله من كل جانب، ثم تنبعث منه. كائنٌ لا يتبدّل، خاضع وفي الوقت نفسه جامح عصيٌّ على الترويض، كان يقوده في أثره، ويُملي عليه خطواته ومساراته. أصبح الوقار لديه عادة متأصلة لا يمكن النيل منه. كان يجهل كل كبرياء، ومع ذلك كانت تلفّه كبرياء عظيمة ومفعمة بالحياة. كان بالكاد يعلم بالضبط ما الذي يجعله فخورًا. لعل الحزن المستمر والصراع القاسي المتواصل قد أصبغا على هيئته تلك الهالة من الوقار المتعالي. كانت بهجة العيش وملذات الحياة بالنسبة له أمورًا ثانوية تمامًا؛ كان يجد نفسه مُرغمًا على التقليل من شأن النجاح والسلطة، وكل هذه الحياة المبهجة من حوله كانت تُورثه إحساسًا راسخا لا تعدو كونها شيئًا ثانويا زهيد القيمة. إذا لم يكن خلف أيّ مظهر للفرح ألمٌ قتالي واضح، فإن ذلك الفرح ينطوي على الكثير من الصبيانية ويفتقر إلى جاذبية حقيقية. كانت متعته في أن يرى الظروف والصدف والتقلبات لم تتمكن بعدُ من الإطاحة به. كان منتصبا هناك، ثابتًا وصادقا، ومُدجّجا ببهجةٍ وروح قتاليةٍ لا تلين. كان يأخذ على عاتقه كل يوم القرارَ الراسخ بألا يفقد أبدًا روح القتال. «المزيد ثم المزيد من العداوات! كان يسمع هذا الصوت يصرخ بداخله، بجسارة متألقة، لكي يستمد قوة جديدة ومتجددة دائمًا من كثرة المضايقات القوية والجديدة. «كانت الضائقة الحتمية، المتفشية في كل مكان، والخشونة واستعصاء الحلول التي تثقل كاهل الحياة، وتحيط بها لتغرقها في جو الكآبة والرهبة، كلها عزيزة عليه. كان يحِبُّ المحتومَ الذي لا يمكن تجنبه، وكان يرى الموتَ تيجانا مذهبة فوق الرؤوس، والأمثلة والبهرجة والجمالَ الأقصى لتلك الحياة التي لم يكن يستطيع إلا أن يُحبَّها، لأنه كان يحبُ الموت أيضًا، ولم يكن يستطيع إلا أن يجده جميلاً، لأنه وجدَ الموتَ جميلاً. كان يحيا مع فكرة الموت في حياة نابضةٍ تحمل في جوفها الموت، حياة لا بد لها في النهاية أن تنتهي بالزوال، ولا بد لها أن تفنى. لأن لا شيء يمكنه أن يحيا حقًا إلا إذا كان مُقدّرًا له أن يموت. فأن تكون حيًا إلى الأبد يعني ألا تحيا إلى الأبد.
4
كان هناك يومًا ما عالَمٌ تسري فيه الأمور كلها ببطء. وقد هيمن على حياة الناس خمولٌ لطيف، بل أقول صِحيٌّ تقريبًا. كان الناس يسيرون بخمولٍ مقبول. وما كانوا يفعلونه، فعلوه بتفكير ورويّة. لم يكن لديهم كمٌ لا إنسانيٌّ من المهام لإنجازها، ولم يشعروا مطلقا بأيِّ ضغط أو التزام يدفعهم إلى الإرهاق أو الفناء في العمل. لم يكن بين هؤلاء الناس هرولة ولا اضطراب، ولا اندفاعٌ مفرط. لم يكن أحدٌ يُجهد نفسه أكثر مما يحتمل، ولهذا كانت الحياة بينهم هادئةً ومُرحِّبةً للغاية. من وجب أن يعمل بجهدٍ مرير أو ينشط كثيرًا بشكل عام، فقد خسر متعة الحياة، ويبدو بوجه كئيب، وكل ما يفكر فيه متواضعٌ وحزين. يقول مثل قديم مبتذل: «الكسل أُمُّ كل الرذائل». أما هؤلاء الرجال الذين نتحدث عنهم، فلم يؤكدوا على الإطلاق صحة هذا القول الطائش، بل على العكس، أنكروه وأفرغوه من كل معنى. كانوا ينعمون بالراحة على أرض بريئة ومألوفة، ويستمتعون بوجودهم بصمت وفي سكينةٍ تفيض بجمال يحاكي الأحلام، أما الرذيلة، فكانت تفصلهم عنها مسافةٌ شاسعةٌ جدًا لدرجة أن فكرتها لم تخطر لهم ببال. — ظلوا أناسًا صالحين لأنهم جهلوا شر التشتت، كانوا يأكلون ويشربون القليل، ولم يشعروا أبداً بالحاجة إلى الانغماس في الرذيلة. لم يكن الملل، بمعناه الشائع والمألوف، معروفًا لديهم بتاتًا. كانوا جديِّين وفي الوقت نفسه الذي يتمتعون فيه بالهدوء، منشغلين بجميع أنواع التأملات المعقولة، وقد سلَّموا أنفسهم للحياة. لم يكن لديهم أيام أسبوع ولا آحاد؛ كل يوم كان يشبه الآخر. كانت الحياة تنساب كجدول هادئ، ولم يخطر ببال أحدٍ أن يتذمّر من غياب المنبهات والمحفّزات. كان هؤلاء الرجال يحيون حياةً خشنةً بقدر ما كانت سعيدة. كان وجودهم عذبا ومشرقا. بعيدًا عن الطموحات والتصنع والغرور، كانوا في مأمن من هذه الأمراض الثلاث الرهيبة وكانوا، بابتعادهم عن الأنانية، لا يعرفون شيئا عن تلك الأوبئة التي تفسد حياة الإنسان. كانوا يحْيَوْن ويذبلون كما تفعل الأزهار. لم تكن المشاريع التي تثير الذهن وتبعث على التوتر تشغل رؤوسهم أو تكدر صفوهم، وهذا ما جعل المعاناة التي لا تُحدّ تظل غريبة عنهم ومجهولة دوما. كانوا صامتين في عزمهم على الموت. ولم يذرفوا دموعًا على الأموات، ولا بكوا أنفسهم حرقة على الراحلين. ولأنهم أحَبُّوا بعضهم بعضًا، لم يحبوا أحدًا حبًا مفرطًا، وبذلك لم يكن الفراق مؤلمًا بذاك القدر من الشدة. يُقيم الحبُ العنيفُ دوما مع الكراهية العنيفة، كما تقيم البهجة العنيفة مع الأسى الذي يشبهها. حيثما يحلُّ العقل، يغدو كلُّ شيءٍ طيِّعا محسوب الخُطى.
……………………
*اللوحة المفرقة للمترجم من وحي العمل.