روبير فالزير: رسالة من شاعر إلى رجل نبيل

روبير فالزير
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تقديم و ترجمة: عثمان بن شقرون

من الشائع جداً في عالم الأدب أن نرى نجاح الأثر الأدبي لبعض الكُتَّاب ينمو على مر السنين، حتى لو كان مثل هذا المصير لا يلقاه إلا عدد قليل من الكتاب والأدباء، لدرجة أنه يمكن القول إن مرور الوقت وحده يمكن أن يضمن لنا التواجد في حضرة كاتب مهم. أو كما قال الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه على وجه التحديد: “إن البعض يولدون بعد وفاتهم”. هذه المقولة تنطبق بالضبط  على الأديب السويسري روبير فالزير.  (مدينة بييل السويسرية ( 1878- 1956).

يعتبر روبير فالزير، بلا منازع، أسذج وأعمق وأكثر كاتب مثير للدهشة في القرن العشرين. الكاتب الهامشي والساخر المتمرد المحتشم وعاشق الفشل الذي اقترنت لديه الكتابة بالمشي، والذي جعل من حياته مادة للكتابة ولم يبال تماما بما يمكن أن تحققه النجاحات من ترق اجتماعي أو مكانة اعتبارية، بعدما اختار بإرادته الهامش المتجول والغياب والصمت. إن حيويته البطيئة، وحزنه الماكر، وسحره المتواضع  والمؤثر، ولد في كتاباته كثافة أدبية أثارت إعجاب كبار الكتاب من معاصريه: فرانز كافكا وروبير موسيل، ووالتر بنيامين وماكس برود وآخرون ممن صنعوا وجه الحداثة الأدبية في أوروبا.

يفرض هذا الكاتب على القارئ، من أجل الدخول إلى عوالمه،  أن يتخلى عن كل الأفكار المسبقة، وأن يتحلى بالتسامح وأن يرمي في سلة المهملات كل نظريات الأدب والنقد، وأن ينغمس في ما يقرأ من نصوصه محاولا إدراك: كيف تنشأ عنده مشكلة اللعب الغامض في الكتابة، وكيف يهدم الحواجز بين الحقيقة والخيال، وبين الواقع والمتخيل، وكيف يخلق لغته الخاصة ليجعل للكتابة  دورا يكشف الذات بالقدر الذي يخفيها. هذا الروائي المنسي الذي كان لي شرف استضافته لأول مرة في لغة الضاد في ترجمة آخر أعماله التي نشرها قيد حياته، “الوردة، لم يكتب في النهاية سوى ثلاث روايات، وعدة قصص قصيرة ونصوص أخرى كثيرة عصية عن التصنيف. وعلاوة على أنه أنهى العشرين سنة من حياته في مشفى للأمراض العقلية والنفسية فإنه يتفرد بكونه اخترع طريقة جديدة في الكتابة سميت بالميكروغرام أو المنمنمات. وهي كتابة مجهرية لم يكشف عنها إلا بعد سنين طويلة بعد وفاته بجهد جهيد من باحثين أمضوا أكثر من خمس وعشرين سنة في فك رموزها.

لقد نشر روبير فالزير مئات النصوص القصيرة في الصحف والمجلات، حتى سمي سيد النثر القصير، لكن هذه المجموعة التي نترجم منها هذا النص يعود تاريخ نشرها إلى عام 1914، هي من بين القليل جدًا من النصوص التي أولاها أهمية قصوى وجمعها بنفسه في مؤلف سماه: “نصوص شعرية قصيرة” [Kleine Dichtungen] نشرته لأول مرة دار النشر  Kurt Wolff سنة 1914، وترجمت إلى الفرنسية ونشرت عام 2015 تحت عنوان:Petits textes poétiques.

ويعتبر تضاعف الإصدارات والترجمات المنجزة اليوم للكاتب السويسري روبير فالزير إلى شتى اللغات فرصة للتحدث والدفاع عن قراءة هذا المؤلف في لغة الضاد، التي لم تستضفه سوى في عملين أدبيين نشرا سنة 2019: “مشوار المشي” (1917) و “الوردة” (1925). وفيما يأتي ترجمة أحد نصوصه المقتطفة من كتاب “نصوص شعرية قصيرة”:  “رسالة من شاعر إلى رجل نبيل”.

 

رسالة من شاعر إلى رجل نبيل

سيدي العزيز، رداً على رسالتكم التي وجدتُها على المنضدة هذا المساء، والتي تطلبون فيها مني أن أحدد لكم الوقت والمكان الذي يمكنكم فيه التعرف بي، ينبغي أن أجيب بأنني لا أعرف حقًا ماذا ينبغي أن أقول لكم. بعض المخاوف وأشياء أخرى تنفجر بداخلي، لأنني شخص، كما ينبغي أن تعرفوا، لا يستحق أن يُعرف. أنا وقح للغاية وليس لديّ شيء تقريبا في المجاملات. أَنْ أمنحكم الفرصةَ لرؤيتي سيكون من شأنه أن أقدم لكم شخصا قطع حافة قبعاته من اللباد بالمقص إلى نصفين ليعطيها مظهرا مزعجا. هل تريدون أن تروا شخصا غريب الأطوار كهذا؟ لقد سُررت جدا برسالتكم الرقيقة. لكنكم أخطأتم العنوان. لستُ الشخص الذي يستحق مثل هذه المجاملات. أتوسل إليكم: أن تتوقفوا فورا عن الرغبة في التعرف بي. إن التأدب يسيء إليّ. يجب أن أبدي لكم المجاملة اللازمة؛ ولكن هذا بالضبط ما أريد أن أتجنبه، لأنني أعرف أن السلوك الحسن والتصرف المهذب لا يكسيان المرء. أنا أيضًا لا أحب أن أكون جيدًا؛ هذا يصيبني بالملل. أظن أن لديك زوجة، وأن زوجتك أنيقة وأن لديك شيء ما يشبه الصالون. لكنني مجرد شخص أحيا في الشارع وفي الغابة والحقول، في النُّزُلِ وفي غرفتي الخاصة؛ أود أن أقف هناك، في صالون أيِّ كان، مثل معتوه خام. لم يسبق لي أن كنت في صالون ما، أخشى ذلك؛ وكرجل يتمتع بالحس السليم ينبغي أن أتجنب ما يخيفني. كما ترون أنا صريح. ومن المحتمل أنكم رجل ثري وتتركون سقوط الكلمات الغنية كيفما اتفق. من ناحية أخرى، أنا فقير وكل ما أقوله يشبه الفقر. إما أن تجعلوني مع تقاليدكم أو سأزعجكم بتقاليدي. أنتم لا تملكون أية فكرة إلى أي مدى أُفضل وأحب بإخلاص الطبقة التي أعيش فيها. ولكوني فقير مدقع إلى حدود اليوم، لم يخطر ببالي أبدا أن أشتكي. على العكس من ذلك: أُقَدِّر ما يحيط بي بشدة، لدرجة أنني أتوق دائمًا إلى الاحتفاظ به. أعيش في منزل قديم مهجور، على شاكلة من الخراب. لكن هذا يغمرني سعادة. إن رؤية الفقراء والبيوت الفقيرة تسعدني، بقدر ما أعتقد أنه ليس لديكم سبب يُذكر لفهمه. يجب أن يكون هناك وزن معين وكمية معينة من الإهمال والخراب والاضطراب من حولي: وإلا فإن التنفس سيكون مؤلما. ستكون الحياة بالنسبة لي عذاباً إذا كان عليَّ أن أكون وسيمًا ونبيلًا وأنيقًا. الأناقة هي عدوِّي اللدود، وأفضِّلُ أن أحاول ألا أتناول الطعام لمدة ثلاثة أيام بدلاً من الانجراف في مغامرة الركوع الجريئة. سيدي العزيز، ليس هذا ما يقوله الكبرياءُ، بل هو شعور واضح بالانسجام والراحة. لماذا يجب عليّ أن أكون ما أنا لستُ عليه، ولا أكون ما أنا عليه؟ سيكون ذلك من الغباء. إذا كنتُ ما أنا عليه، فأنا راضٍ عن نفسي؛ ثم يرِنُّ كل شيء، كل شيء يسري من حولي على ما يرام. كما ترون، الأمر على هذا النحو: حتى الزيّ الجديد يجعلني غير راضٍ للغاية وغير سعيد؛ ومن ثم يمكنني من خلاله أن أفهم كيف أكره كل ما هو جميل وجديد ورائع، وكيف أحب كل ما هو قديم ومتهالك. أنا حقاً لا أحب الحشرات، ولا أريد أن آكلها لكن الحشرات لا تزعجني. المنزل الذي أعيش فيه يعج بالحشرات، ومع ذلك أحب أن أعيش في المنزل. يبدو المنزل مثل منزل لص، ينقبض له القلب. عندما يكون كل شيء جديدًا ومرتبًا في العالم، فلن أحب العيش بعد الآن، وسأقتل نفسي. لذلك يساورني نوع ما من الخوف من شيء ما، إذا كان من المفترض أن أفكر في أنني يجب أن أتعرَّفَ على شخص متميز ومتعلم. إذا كنتُ أخشى أنني سأزعجكم فقط ولا أعني أن أكون سعيدًا أو مريحا لكم، لذا فإن الخوف الآخر ما زال حيًا في داخلي، أي (التحدث بصراحة كاملة)، فلتعلموا أنكم أيضًا ستزعجونني ولن تكونوا مريحين ويمكن أن يكون الأمر ممتعا. إنها روح في كل حالة إنسانية، وينبغي عليكم أن تكتشفوا ذلك تمامًا، كما يجب عليّ أن أقول لكم تماما: إنني أقدِّر كثيرًا مَنْ أنا، نحيف للغاية وفقير كما هو. أنا أعتبر الحسد غبيًا. الحسد نوع من الجنون. على الجميع أن يحترم الوضع الذي هو فيه: هذه هي الطريقة التي يتم بها خدمة الجميع. وأخشى أيضًا من التأثير الذي قد تمارسونه عليّ؛ وهذا يعني أنني خائف من العمل الداخلي الزائد الذي ينبغي القيام به لدرء تأثيركم. ولهذا السبب لا أسعى إلى المعارف ولا يمكنني السعي إليهم. التعرف على شخص جديد: على الأقل هذا دائماً جزء من الوظيفة، ولقد سبق لي أن أخذت كامل حريتي وأخبرتكم بأنني أحب الراحة. ما رأيكم فيّ؟ ولكن يجب أن أكون غير مبال بذلك. وأريد من ذلك أن يكون غير مبالٍ بي. لا أريد أيضا أن أعتذر لكم عن هذه اللغة. هذه ستكون جملة. أنتم دائما أشقياء عندما تقولون الحقيقة. أعشق النجوم والقمر وصديقتي السرية. فوقي السماءُ. ولطالما أنا على قيد الحياة، لن ننسى أن أتملى بالنظر إليها. أنا راسخ على الأرض: هذه وجهة نظري. الأيام تمازحني وأنا أمزح معها. لا أستطيع التفكير في محادثةٍ أكثر متعة. الليل والنهار رفيقَايَّ. أنا على علاقة أليفة مع المساء والصباح. وبهذا أحييكم بلطف.

الشاعر الشاب البَئِيس.

مقالات من نفس القسم