محمد كرم
على خلاف الترتيب الزمني للمجموعة القصصية “مسافة تصلح للخيانة”، التي أصدرتها بيت الحكمة للثقافة، من الممكن أن نعتبر الكاتبة نهى الشاذلي قد انطلقت لكتابة قصص المجموعة كافة من القصة السادسة عشر “في انتظار الوحي”، فهي لها الأسبقية المنطقية على باقي قصص المجموعة، إذ إنها عن كاتبة مصابة بما يسمى “سُدَّة الكتابة”، وهي حالة تصيب كثيرًا من الكُتاب تعجزهم عن كتابة حرف واحد. تقول الكاتبة: “هيبة الكتابة تفرض عليَّ نصًا معقولًا، مقبولًا، لا يصيبني بالغثيان إذا أعدتُ قراءته. لكنه يتمنع، يهرب مني كلما ركضت خلفه. أستدعيه فلا يأتي. أستعطفه، أرجوه، فيختفي. الكتابة لا تحب الاستجداء، هكذا استنتجت في نهاية الأمر”. لسُدة الكتابة إذن جانب إيجابي، كاشف عن هيبة الكتابة، عن حقيقة الكتابة، فكما يُصاب الكاتب بسدة الكتابة؛ يُصاب بتدفق الكتابة. تجد بطلة قصة “في انتظار الوحي” منفذًا من سدة الكتابة في الكتابة نفسها. وبذلك تكون سدة الكتابة هي الداعم الخفي لعملية الكتابة الأصيلة، من هنا نعتبر قصة “في انتظار الوحي” نقطة انطلاق لكتابة بقية القصص.
***
دماء النص
“من بين كل ما هو مكتوب لا أحب غير ذلك الذي يكتبه امرؤ بدمه. اكتب بالدم؛ وستكتشف أن الدم عقل”.
نيتشه
انطلاقًا من أن الكتابة لا تُستجدى ولا تُستدعى (كما اكتشفت الكاتبة في قصة “في انتظار الوحي”) فالكاتب ذو الأسلوب ليس هو الذي يسلب من النفس سرها (كما قال المفكر زكي نجيب محمود في أحد لقاءاته التليفزيونية) إنما السر هو الذي يسلب منه نفسه ليُعرَض كتابةً. ليس الكاتب، صاحب الأسلوب، سالبًا للسر، بل هو المسلوب من السر، فليس هو الذي يستدعي كتابة النص، بل النص يستدعيه ليُكتب من خلاله.
لكن السر لا يكمن في نفس الكاتب فحسب، حيث إن الواقع الخارجي أيضًا به من الأسرار ما لا ينكشف مباشرة؛ من هنا تأتي ضرورة الكتابة للإشارة إلى ما وراء الواقع فيما بين سطور النص، هذا هو الخيط الدقيق الذي تنتظم فيه قصص “مسافة تصلح للخيانة”، وقد انسربت أسرار الأزمات الواقعية الراهنة إلى حدس الكاتبة في تلك المجموعة فتمثلتها تمثلًا مؤلمًا، انعكس في حرارة الأسلوب، ما يدفع القارئ للانفعال بهذه القصص وكأنه وجد ضالته الشعورية التي كانت داخله ولم يكن بها واعيًا، ولم يستطع التعبير عنها، فلا وعي الكاتبة، الكامن وراء النص، يشتبك مع لا وعي القارئ.
إذا اعتبرنا العمل الأدبي جسدًا هو مجموع العلاقات بين أعضائه، فالأفكار هي عظام النص، والأسلوب هو دماؤه، والشكل الأدبي هو عروقه، وفي قصص مسافة تصلح للخيانة لا تُهرق دماء النص نازفةً، مثلما يحدث في أدب دوستويفسكي مثلًا، ولكنها تغلي سارية في عروق النص لتبرزها، فالكاتبة لم تفجر العروق (الشكل) لتبرز العظام (الأفكار)، لكن حرارة الدماء (الأسلوب) أكسبت العروق أشكالًا جديدة، تشير إلى الأفكار المضمرة في النص بشكل غير مباشر. فغليان الأسلوب يكشف من الأفكار والجوانب السرية للواقع ما لا ينكشف في أكثر الأعمال التزامًا ببرودة العقل.
“رئيسي في العمل مصاص دماء، وقد دهستُ طفلًا بسيارتي”.
هذه أول جملة نقرأها في القصة الأولى “الصبي بائع المناديل”. تشعرنا تلك الافتتاحية بصدمة، إذ من الممكن أن نحاول الرد تعاطفًا مع البطلة على الجزء الأول من الجملة؛ لكننا لا نملك عند سماع الجزء الثاني سوى الصمت.
يشير الجزء الأول من الجملة إلى قضية كلية: الاستغلال الرأسمالي، ويشير الجزء الثاني إلى حادثة جزئية: دهس طفل يبيع المناديل عند إشارات المرور، وما بين الجملتين يدور السرد لنتبين العلاقة بينهما. نرى مع تقدم السرد أن البطلة لا تشعر بالذنب، بل تشعر بالخوف من آلام الإعدام -لذلك بحثت على الإنترنت بعد دهسها للطفل عن أقل طرق الانتحار إيلامًا- ومن الخلود في العذاب بعد الموت الذي بشَّر به الدين المنتحرين، ولا تشعر بالخوف من العذاب الذي توعَّد به الدين من قتل نفسًا.
هناك تناقض بين حرارة السرد الاعترافي (إذ تحكي البطلة قصتها قبل انتحارها بقليل) وبرودة البطلة الأنانية إزاء الحادثة، وبين الأسلوب الانفعالي الدامي (على طريقة دوستويفسكي) والالتزام بالشكل المنضبط للقصة القصيرة في الوقت نفسه. هذا التناقض يكشف المعنى الكامن بين سطور القصة، الذي لم تصرح به الكاتبة من خلال البطلة التي تتحدث بهيستيرية، وينكشف هذا المضمون في صور إدراك البطلة للطفل بعدما دهسته، إذ رأت في كوابيسها عينيه الجاحظتين تركضان وراءها ككرتين قافزتين -مثل الكرتين اللتين كانا يطاردان البطل في قصة “بلومفيلد الأعزب” لفرانز كافكا- وفي كابوس آخر رأت أنفه الأفطس ذا المخاط اللزج يملأ السماءَ بأكملها، ويتساقط المخاط من سقف غرفتها حتى يملأها فتختنق غارقة فيه.
البطلة امرأة أربعينية من الطبقة الوسطى، عانت كثيرًا للترقي الطبقي، كان واقعها واضحًا، إلى أن عكر هذا الوضوح الزائف شبح من الفئات الدنيا في المجتمع: الصبي بائع المناديل، وهو من المتسولين الذين تدركهم الطبقة الوسطى في صورة أشباح مزعجة، بعيدة عن واقعهم، لكن أبناء الطبقة الوسطى مهددون بالتدني الطبقي تحت ضغط امتصاص الطبقة العليا لقوة عملهم وصعوبة الأوضاع الاقتصادية. تتجسد واقعية وضع المعدمين للبطلة بعد دهسها لواحد منهم بدون قصد، فيتحول إلى شبح يحتل كوابيسها. تشك البطلة في أنها دهست الطفل، وفي أن الحادثة مختلقة تمامًا في عقلها. الأزمة إذن ليست في حادث صدمتها للطفل؛ بل في صدمة الطفل لها، في التجلي الصلب لواقعيته -وإن كان شبحًا افتراضيًا- الذي كشف هشاشة واقعها، وأنانيتها، ودفعها للانتحار. لقد كشف الوجود الشبحي/الافتراضي للطفل في عقل البطلة (بعد موته) ما لم يكشفه وجوده (قبل موته). من هنا نلمس خيطًا ينتظم معظم قصص “مسافة تصلح للخيانة” وهو: ما يكشفه العالم الافتراضي.
واقعية الافتراضي
“للحقيقة بنية خيالية”.
جاك لاكان
أول ما يكشفه الواقع الافتراضي لنا من حقائق، في أثناء قراءة قصص “مسافة تصلح للخيانة”، هو أن الأدب وسيلة للتعبير عن جزء خفي، قاس، في الواقع، لا يمكن التعبير عنه إلا بشكل خيالي، وهذا الخيال الافتراضي للأدب واقعي أكثر من الواقع نفسه (كما أوضح سلافوي جيجك في شرحه لمفهوم “الواقعي” عند المحلل النفسي جاك لاكان).
يتمثل العالم الافتراضي في الخرافة في قصة “حبلى من الجن”، وهي عن فتاة يغتصبها زوج أمها وتصير حبلى منه، ولقسوة تلك الواقعة الواقعية التي لا تُحتمل؛ تعبر الفتاة عنها -دون وعي- بالخرافة، وتقول لأمها إنها حبلى من الجن، فالخرافة هنا ليست دعوى زائفة علينا أن نفككها لندرك ما يكمن وراءها من أسباب واقعية فحسب، بل علينا أن نتساءل عن هذا الجزء من الواقع الذي لا يُدرك إلا بشكل خرافي، هذا الذي يشكل النواة الصلبة للواقع، من هنا تصبح الخرافة افتراضًا كاشفًا عن الحقيقة.
وفي قصة “الأميرة التي تحولت إلى طاووس” يتجلى العالم الافتراضي في عمليات التجميل، فتجميل الوجه وإن كان قناعًا يزيف الوجه الحقيقي لصاحبته (الأميرة)، فهو في تلك القصة قناع لا يعبر عن حقيقة صاحبته أكثر من وجهها الحقيقي فحسب؛ بل يعبر عن الحقيقة القبيحة للوضع الطبقي في مدينتها أيضًا، إذ وصفت الكاتبة أسرتها بأنها “لديها من فرو الحيوانات ما يدفئ جميع فقراء المدينة”. تفشل عملية التجميل في ليلة الزفاف، ويهلع الزوج المنتظر والمدعوون من منظر الأميرة، تلك الفضيحة هي انكشاف لواقع اجتماعي مرعب في جوهره.
وفي قصة “هوس افتراضي” تصطدم كاتبة بـ”الواقعي” من خلال قارئ يقتحم حياتها من خلال السوشيال ميديا، ويظهر حبه لها بإرسال دراسات دقيقة لكتاباتها، الطريف أن الحب هنا يبدو صدمةً واقتحامًا لها، تتعجب الكاتبة من انزعاجها وخوفها من القارئ، فهو لم يرسل لها رسائل تهديدية، بل رسائل حب، وتتساءل “ما الذي يخيف في ذلك؟”. تنكشف في تلك القصة حقيقة الحب، إذ انكشف للبطلة الهوة بين هويتها الرمزية (التي صنعها لها المجتمع وتتعامل بها في السوشيال ميديا باعتبارها كاتبة وموظفة في شركة كبيرة) وبين هذا الجانب الغامض داخلها (الذي ربما تكشفه كتاباتها) والذي دفع الشاب لحبها. لقد كشف لها هذا الهوس الافتراضي أنها لا تعرف تحديدًا ما ترغب فيه، فهي تحب مديرها في العمل، وهذا حب يناسب هويتها الاجتماعية التي اصطنعها لها المجتمع وصاغ لها رغباتها ومقاييس شريك حياتها، لذلك تجاهلت هذا المعجب المزعج، لكن مديرها يتجاهلها، ما دفعها لإعادة قراءة رسائل الشاب من أجل إشباع كبريائها، وعندما كف عن ملاحقته لها بعد تجاهلها له؛ أخذت تلاحقه فتجاهلها بدوره.
تبدو قصة “ألعاب الحب” مرآة كاشفة وعاكسة في آن لقصة “هوس افتراضي”، ففي الأخيرة تتحدث البطلة بضمير المتكلم لطبيب نفسي لا يتكلم -وربما لم تُرد أن يتكلم كي لا يكشف حقيقة أزمتها- وفي الأولى تُحدث البطلة نفسها بضمير المخاطب، وفي كلتيهما يتجلى هذا الوقع الواقعي العنيف للحب، ففي “ألعاب الحب” يبدو الحب مناقضًا لواقع اجتماعي يمنعه، فتتفق البطلة مع حبيبها على لعبة قياس لقدرة كل منهما على التخلي عن الآخر، هذه اللعبة هي انسجام متحايل على الموانع الاجتماعية لحبهما، فبين أسرتيهما نزاع لا يسمح لهما بالارتباط الرسمي. يتقابلان في السر لممارسة الحب، ثم يستأنفان اللعب، يربح حبيبها وتخسر هي حسب أعراف مجتمعهما، إذ يتركها ليخطب فتاة لا يمنعه أهله من الارتباط بها، لكن حسب معايير الحب الحقيقي المحطم للهوية التي اصطنعها لهما المجتمع؛ تربح هي ويخسر هو، فقتلها لخطيبته التي اختارها له المجتمع هو هدم للأعراف الاجتماعية لصالح الحب، وهذا هو “الواقعي” الذي كشفته اللعبة الافتراضية بينهما.
على العكس يستسلم البطل في قصة “كاتب في مأزق” للموانع الاجتماعية التي تقف أمام ارتباطه بفتاة فقيرة يحبها، ويهرب من عنف الحب المحطم للهوية والأعراف الاجتماعية، فرغبة البطل-الكاتب هنا هي رغبة الآخرين التي اصطنعوها له، رغبة المجتمع، وقد انكشفت له تلك الحقيقة من خلال شخصية افتراضية مُختلقة كتبها في رواية، ليقاوم بها نفسيًا ضغط أمه التي تريده أن يتزوج من فتاة غنية لا يحبها، فجعل بطل الرواية يتحدى أمه ويتزوج من حبيبته في النهاية. ظن الكاتب أن العالم الخيالي الحالم للأدب هو مهرب له من الواقع؛ لكن العكس تمامًا هو ما حدث، فهذا العالم الخيالي كشف له الواقع الحقيقي بخشونة، حيث إن بطل الرواية سيخرج منها متجسدًا للكاتب ويصرح له برفضه للنهاية التي وضعها، فهو يؤثر السلامة من عنف الحب ويرغب فيما ترغبه له أمه. يستسلم البطل/الكاتب ويغير نهاية الرواية، ما يعني أنه لن يقوى على تحمل حلمه بالزواج من حبيبته ويرضخ للواقع، لقد أضحى الواقع مهربًا من الأحلام.
وفي القصة عنوان المجموعة “مسافة تصلح للخيانة” نقرأ بشكل متواز سرد الحياة اليومية الرتيبة لشخصيتين، رجل وامرأة لا يعرفان بعضهما، يشعر الرجل بالفتور في حياته الزوجية، وتشعر المرأة بالضجر من حياتها بعدما استقالت من العمل، يتقابلان في غرفة دردشة ويشرعان في ممارسة الجنس الافتراضي، ثم يعود كل منهما لواقعه شاعرًا بالتصالح معه، فيتصالح الرجل مع زوجته، وتتحمس المرأة للتقدم إلى وظيفة جديدة.
يكشف الجنس الافتراضي هنا جانبًا واقعيًا خفيًا، مسكوتًا عنه، في الواقع الظاهر، فرغم أنه يمثل علاقة مرفوضة من النظام الاجتماعي؛ ينكشف لنا أن تلك العلاقة التي يرفضها المجتمع داعمة لاستمرار النظام الاجتماعي في كل من منظومة العمل (بالنسبة للمرأة) ومنظومة الزواج (بالنسبة للرجل). فالجنس الافتراضي غير الشرعي هو الملحق السري البذيء للمنظومة الاجتماعية، هو الداعم لاستمرارها من مسافة تصلح لخيانتها ولا تهدمها في الوقت نفسه.
يحضرنا هنا مثال من رواية “الباب المفتوح” للطيفة الزيات، فإحدى شخصيات الرواية تجبرها أمها على الزواج من رجل أكبر منها لا تحبه، فتخونه مع شاب، تعلم الأم بذلك، وتلمح لابنتها أنه لا ضرر من خيانة زوجها ما دامت في السر، أما الطلاق من زوجها والزواج من شاب تحبه فهو ممنوع! تبدو الأم هنا حاملة للقواعد البذيئة غير المكتوبة التي تضمن استمرار المنظومة الاجتماعية بالخروج السري عنها؛ لكن في قصة “مسافة تصلح للخيانة” لا توجد شخصية موازية لشخصية الأم في رواية “الباب المفتوح” كي تصرح بتلك القواعد السرية، كما أن الرجل والمرأة لا يمارسان جنسًا جسديًا “غير شرعي” مثل التي مارسته الابنة في “الباب المفتوح”، ما يكشف تلك القواعد في القصة هو العالم الافتراضي الذي يسمح بممارسة الجنس “غير الشرعي” من مسافة تنفي عنه ماديته لكنها لا تسلبه واقعيته، فهو كاشف عن واقعية القواعد السرية الخارجة عن المنظومة الاجتماعية العلنية، والداعمة لها في الوقت نفسه.
***
على خلاف الترتيب الزمني لأعمال الكاتبة نهى الشاذلي؛ من الممكن أن نعتبر مجموعتها القصصية الأخيرة “مسافة تصلح للخيانة” عملها الأول، فهي لها الأسبقية المنطقية على أعمالها السابقة، إذ تتميز الأعمال الأولى لمعظم الأدباء بأنها أعمال أرادوا فيها مناقشة الكون كله، أرادوا أن يقولوا كل شيء، والكاتبة في تلك المجموعة أرادت أن تناقش كل شيء تقريبًا؛ من الأزمات الفردية الصغرى، مرورًا بالتناقضات الاجتماعية والأوضاع العالمية، حتى المشكلات الكونية الكبرى، ولكن أن تقول كل شيء يعني أن تتجاوز كل شيء، أن تنفذ إلى ما لا يمكن قوله، باختصار: أن تكتب، فالكلمة المكتوبة تكشف ما لا تكشفه الكلمة المنطوقة كما أوضح الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا”. من هنا ندرك أهمية الكتابة باعتبارها كشفًا للمستور، وأهمية تلك القصص باعتبارها بؤرًا كاشفة قد تنطلق منها إشعاعات نافذة في الأعمال القادمة.
…………………
*نقلاً عن مجلة “عالم الكتاب”.