الطعام .. بديل الوحدة وصلاة الحب.

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سمر هادي

الطعام رفيق صاحبه في كل مكان.. قد يكون بديلا للفقد وقد يكون وقودا للحب .. أو حتى مذهبا للصوفي في مجاهدته لذاته .

الطعام لغة تعشقها الأفواه، وعندما نُجرى أحاديث عن الطعام فهذا يُفضى بنا إلى مناطق حميمية للغاية فى حياة الإنسان، فالكلام عن وجبة المساء قد يؤدي إلى الحاجة للكشف عن علاقات إنسانية مقربة أو ذكريات شخصية، أو يفضى بنا إلى أبعد من ذلك من تكوين مجتمع ما أو سياسة دولة ما، وبما أنه من السهل إدراك أن هناك درجة من وعي الإنسان بكون الطعام أكثر من مجرد وسيلة للإشباع؛ فالإنسان الذي نجا من مجاعات وكوارث أجبرته على تعديل نظامه الغذائي مرات عدة، قد أصبح على وعي تام بأن ما يأكله صار يشكل الآن جزءًا من بنية هويته، وطبقته الاجتماعية، واختلافه الثقافي، وتحولت مصطلحات مجردة مثل الهوية إلى وصفة طعام، بل تحول الإنسان نفسه إلى وصفة طعام؛ فبمقادير متفاوتة من التغييرات الاجتماعية والثقافية ، أصبح البشر مجموعة من الوصفات الفردية، شديدة التميز فيما بينها، بالرغم من أن جميعها قد تم طبخها في إناء مجتمعي واحد.

ومع رحلات الأطباق المختلفة التى تكشف عن الهويات، نجد أن المطبخ الأمريكى  يشبه طبيعه هذا المجتمع، غالبًا مايرغب الأمريكيون في أن يكون طعامهم سريعًا، وسهلًا، وقليل التكلفة، دون النظر إلى مكان شرائه، سواء من السوق، أو من مطاعم الوجبات السريعة. والتي تتطلب أقل تضحية اقتصادية فردية ممكنة، واختيار طعامهم مرتبط بمظهره الجيد.وبطبيعة الحال تعرض المطابخ إلى عبور الهويات والانفتاح، حيث أصبح المطبخ كأى منتج ثقافي أو عمل فني منفتح على العالم يمكن اختياره أو رفضه. 

وكما للعمل الفنى له سحره الذي في الغالب ينبع من إثارة الحواس، فالمطبخ أيضًا يفوح منه سحره من إثارة الحواس، فقد يجتمع فى طبقٍ ما لذةٌ حسية ومتعة بصرية توازي متعة عمل فنى صادق، السعي للحصول على النكهة المتخيلة لدى من يعد الطعام، تلك التي تملأه بمتعة التذوق ومتعة النظر ومتعة الشم. ومقابل إشباع تلك اللذة، ثمة سعادة إضافية حين يستطيع تقديم هذه المتعة للآخرين والحصول على رضاهم، أي هناك عملية تبادلية بين الأفراد تتم فى المطبخ الفني أو المطبخ الذي يحتوى على مأكولات جماعية.   

وارتبط الطهى بفن الشغف بالحياة والاحتفاء بها، وتواجد الطعام شيئ أساسي فى الاحتفالات والمناسبات المرتبطة بالفرح ومعظم التجمعات البشرية، ونجده كذلك فن الاحتفاء بالوحدة وبديل عن حاجات إنسانية مفقودة، حيث إذا لم تتحقق علاقات اجتماعية للإنسان يكون الطعام بديل بالوحدة والفقد، وهناك أعمال فنية قدمت أشكالًا متعددة من وجود الطعام كبديل للفقد، كما قدمت الروائية التشيلية (إيزابيل الليندي) كتابها ((أفروديت)) لتدمج بين ذاكرتها الحسية وبين وصفات الأكل والبحث في تاريخ الطعام وفنه، ولم تخلو أعمال الليندي الروائية من اهتمامها بالمطبخ ودلالته وارتباطه بثقافتها، والحديث عن أنواع الفن الإيروسي المختلفة وحكايات ووصفات تعبر عن رغبة الحياة المتدفقة داخلها، وذكر وصفات مأكولات بشكل سردى مع احداث شخصية، في حين ان الروائية المصرية ((أمنية طلعت)) في مجموعتها القصصية ((طبيخ الوحدة))، منطلقة من تجربة شخصية، وتتخذ من فعل الطبخ ملاذًا من الفقد وشريكا للوحدة، كما استخدمت الروائية المكسيكية “لورا إيسكابل” المطبخ بمعناه السحري في روايتها ((الماء كالشوكولاته))، فالبطلة التي تفتقد الحب تصنع أكلاتها التي تؤثر في البشر وتصنع المعجزات، ليصبح المطبخ مدخلًا للواقعية السحرية بينما كان الواقع المعاش هو مدخل الكاتبة الأمريكية “إليزابيث جلبرت” إلى عالم الطبخ في سيرتها الذاتية “طعام صلاة حب” خلال محاولتها البحث عن ذاتها تتوقف في إيطاليا لتتذوق كل مأكولات البلد الساحرة وتنهي رحلتها بحفلة وداع مع أصدقائها فيتفنن في الطبخ كاحتفاء بحياتها هناك، ورواية “المطبخ ” لليابانية “بنانا يوشيموتو” وارتباطها بالمطبخ بعد فقدانها لجدتها، ورؤيتها للمطبخ كونه المكان المثالى بالنسبة لها.

قد يكشف الحديث عن الطعام ورصد نمطه فى حياة البشر عن خبايا لا تظهر بوضوح، وعلى اختلاف هذا النمط، يكون الطعام فى الفلسفة الصوفية على سبيل المثال اتخذ مفهوم جوع الزاهد مذهبًا لها ومجاهدة النفس عن اشتهاء الطعام وسيلة للوصول إلى الخالق، وفى الأدب والشعر العربى يميل الطعام إلى رموز اجتماعية كالولائم والسخاء، فى حين أن الثقافة الغربية منها الفرنسية والبريطانية اهتمت بشكل خاص بالطعام وجمالياته وهناك دراسات متخصصة فى ذلك المجال، فالطعام يعد صورة عن معتقدات يتبناها الإنسان.

ولكن كيف لا نربط بين الإقبال على الطعام والاستمتاع بالمأكولات الجديدة وتتبع روائح الطعام التى لا نعلم مصدرها وبين الإقبال على الحياة والشغف بها ومحاولة اكتشافها، وكيف نفرق بين إدراكنا لحواسنا عند التفاعل مع الفن، وبين إدراكنا لحواسنا لحظة الانتشاء بعد تناول وجبه مفضلة لدينا مع من نحب، هكذا هو الطعام قادر أن يكون نوعًا من فن الإقبال على لذة الحياة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نـاقدة مصريّة ــ نقلاً عن  مجلة “فنون”

 

 

 

مقالات من نفس القسم