حفلة في كازينو الشاطبي..موسيقى الافتقاد

حفلة في كازينو الشاطبي..موسيقى الافتقاد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عامر

تجمع الشيماء حامد في "حفلة في كازينو الشاطبي" على مستوى الشكل بين جماليات طرق مختلفة في السرد: القصة القصيرة والرواية وربما أيضا المسرحية أو الأوبرال المسرحي، وعلى مستوى اللغة بين عمق السرد واتساع دلالات الشعر، وعلى مستوى النسق الإبداعي بين الكتابة و الموسيقى.

فقد عنونت الكتاب على أنه مجموعة قصص، وجاءت كل قصة على قدر جيد جدا في الإيجاز والتكثيف بما يناسب فن القصة القصيرة، لكن يأتى تخلخل نص موازي للقصص مترابط فيما بينه، قبل كل قصة، كإيحاء أن هذه رواية تتداخل فيه الكثير من الشخصيات، بين الماضي والحاضر، وتؤكد الكاتبة الترابط حين تعلن عن تفصيلة في أول قصة وهى قصة بلوز _ الأزرق بارد وحزين:

(أمر أمام الكازينو القديم المتهدم داخل الأمواج، مؤخرا اشترته سيدة ما لتعيد بناءه، قيل أنها كانت تعيش هنا منذ سنوات كثيرة مضت …)

وكأنها تؤكد للقاريء أن هذه القصص جميعا تحدث أثناء الحكى والإستدعاءات التي تخص لوكا وريتا. إنها حكاية الوطن / المدينة المفتقدة والمفقودة، ثم تأتي القصة الأخيرة، لتبهرنا في شكل قصصي شعري أوبرالي.

يقول إرنست فيشر عن الموسيقى، أنها أكمل أشكال الفنون، حيث امتزج فيها الشكل بالمعنى في كل يصعب فيه أن تفصل بين جمالياتهما على حدا، لذلك كان الأسم : حفلة في كازينو الشاطبي، وكأن الكاتبة أرادت أن يندمج في مجموعتها الشكل والمعنى، في كُلٍّ متكامل، فربطت بينها وبين الموسيقى،بين عناوين القصص وروحها وبين أنواع الموسيقى ، فأنت ستستمع وتستمتع مهما كانت ميولك الأدبية أو الفنية.

لا تعتمد الشيماء على حاسة السمع فقط، بل كل حواس الإنسان القاريء لكى يتشبع بكل ما تبثه في قصصها، حتى الشم والتذوق ( شكلمة أم ريتا، وامتزاج الرائحة: رائحة الشكلمة، الحديد المطهي، فم ريتا).

لم يكن هم الشيماء حامد هنا هم ذاتي فردي أنثوي فقط، على الرغم من التفاصيل النسوية الخاصة،بل سنجد أن الإنسان والمجتمع، المدينة والوطن،من حيث أنهما كُلٌّ مترابط ومتفكك، متصل ومنفصل، حاضر وغائب، كل هذا في آن واحد يبرز بشكل قوي في كل قصص المجموعة، وفي القصة الطويلة الموازية، سواء بطريقة مباشرة، أو من خلال التفاصيل البسيطة والمهملة لشخصيات القصص.

نجدها أيضا تتحدث في معظم القصص عن الحالة أثناء عملية ” الفقد ” وما بعدها وما قبلها، حالة الإفتقاد في حد ذاتها، محاولة استعادة ما تم فقده، سواء كان المفقود فكرة أو حلم أو شيء، وبالأخص انسان أو مدينة.

لو كان المفقود انسانا هل كان ذلك بارادته (ريتا و لوكا) أم مجبرا؟ وهل فاقد الشيء سمح لعملية الفقد عن طيب خاطر أم مجبرا؟!

أن تفتقد الدفء، الحضن الدافيء، أن تعيش بين كل ذلك البرد الذي يجمد العروق. وهو فقد محكوم مسبقا من قبل ظروف المجتمع، والتعويض الشاذ ( لما فيه من صدق ودفء حقيقي) بسبب الافعال الشاذة من المجتمع( الشيخ الصوفي) كما في بلوز، وماري فتاتي المفضلة، وربما تصل لدرجة نحلم فيها بالبدايات فقط كما في ( سنوات البوسا نوفا ).

وفي قصةجاز تريو عصافير، كريستال و رياح يناير: ربما نلاحظ أن الشخصية غير مكتملة، وكأن نوعا من أنواع الفقد هو عدم اكتمال الشخصية في الواقع، فالشخصية تبحث عما يكملها.

ثم تأتي ميتال: أغنية حب، و آر إن بي دافيء: أصدقاء قدامى، لتحدثنا عن إجبار الذات على الفقد بسبب الأفكار التي هى مُدّعاه غالبا لا معتنقة بصدق ،أو بسبب عادات.

وفي دويتو، دربكة شرقي: يأتي الحديث عن الوطن بشكل صريح، تمني فقد الوطن من أجل شيء آخر لكنه أيضا مفقود،وربما لا ندرك كنه جيدا.

ويتتابع في قصص المجموعة المزيد من الفقد والإفتقاد والتضاد، داخل الإنسان والمجتمع، المدينة والوطن.

في القصة الأولى، الأزرق بارد وحزين،بداية المجموعة نبحث عن الدفء في الحب، في واقع بارد متجمد وجامد، ربما عن طريق الإرتباط بروح ثمينة لا انسانية في الأساس، وفي الأخيرة: أوركسترا شتوية – نسيج ينهينا القدر بضربة يدٍ، لا تخطأ أبدا، ولا تترك مجالا للتصحيح .. ألا وهى الموت!

نحن نفتقد أكثر ما نفتقد انسانيتنا .. حريتنا، فتأتي أوبرا تراجيكو خارج سياق المجموعة كنهاية مثالية للملحمة السابقة المتباينة، تأتي معبرة ربما عن الترادف بين الواقع ( قصص المجموعة وواقع البطل الباحث عن الأوبرا ) وبين الخيال المحض ( أوبرا تراجيكو وشعرائها ) في الواقع مجبرون على العيش موتى – في الخيال مجبرون على الموت أحياء– العامل المشترك هو القدر، لا فكاك من القدر حتى في خيال الفنان.

لكن تظل الإرادة في رأسنا جاهزة للإنفجار في أية وقت، ويظهر هذا جليا في المفارقة الموجودة بين عنوان قصة (حكاية قبل النوم_ هدهدة) وبين نهايتها:

“في الصباح تجمعنا بالساحة، علقنا المرايا على ظهورنا، وشبكنا الأيدي في دائرة مهولة، بدأت طيورنا في الرفرفة والصياح، استيقظوا وخرجوا للشرفات والشوارع.. لا مزيد من خطط وآليات، لننصمت بعد الآن،كل ما علينا فعله، هو أن نجعلهم ينظرون لأكتافهم. هل كان يتطلب الأمر كل هذه البذاءة؟”

في النهاية ربما ستتذكر ما كتبه الراحل إدوار الخراط في رامة والتنين:

قال لنفسه: أنت عندما تفقد شيئا تعرف أنه لن يعوض، لا يعوض، وترفض مع ذلك. ترفض هذا الحس بالفقدان، تتمرد عليه كل جوارحك، كما يتمرد شيء حي متوفز بالحياة ضد ما يحمل إليه الموت، ترفض وكأنك تحطم السماء بيديك العاريتين، كأنك سقطت على تراب القبر، تدق أرضه بقبضتك المضمومة وتقول لا لا، ومع ذلك تظل حفرة القبر مفتوحة داخلك…

مقالات من نفس القسم