هندسة البنية الكلية والجزئية في المجموعة القصصية “حدث مألوف”

حدث مألوف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 د. نسرين صالح

 عند الاطلاع على المجموعة القصصية “حدث مألوف” للكاتب المصري مصطفى عطية جمعة، يتكون انطباع خاص لدى القارئ عن أنّ السرد هنا لا يدور حول شخص بعينه، أو رأي ذاتي خاص بالكاتب فحسب، بل حول سلسلة من الآراء والمواقف، والحالات العابرة المألوفة الحدوث في حياتنا اليومية، كما هو عنوانها تماماً، فالكلمة الافتتاحية توضح أنّ المجموعة القصصية موجّهة بالدرجة الأولى إلى أولئك البسطاء إلى الأكثرية التي تنبني عليها المجتمعات العربية، وهذا الخطاب يعني أنّ هناك فئة أخرى ويوحي بالتراتبية الاجتماعية القائمة، ويرتبط العنوان على نحو رئيس بالإطار الاتصالي الاجتماعي في أنّه حدث مألوف، أي يحدث للجميع، ويتكئ على جملة من الإشارات غير المباشرة التي تغني النص مهما كان حجمه، ومعلوم أنّ القصة القصيرة جداً تميل لتكون رؤية فردية، لكنّها مع ذلك نتاجٌ اجتماعي بقدر ماهي رؤية فردية، وتأتي عناوين القصص لتتنوّع وتعبّر أحياناً عن مشاعر وأحياناً عن عواطف وأحياناً عن مواقف، لكنّها جميعاً تكتنز مغزى القصص.

وما يلحظ في بناء هذه المجموعة القصصية هو التسلسل المتفرِّد الذي صاغه الكاتب من خلال تقسيمها إلى ثلاثة أقسام، ووضعُ تسميةٍ لكلِّ قسمٍ فيها، فقد ابتدأها بنفحات وتلتها لطمات ثم ختمها باللثمات، وفي هذا التسلسل الذي ابتدعه جماليةٌ خاصة توحي بصياغة الرواية، إذ تبدأ بالتمهيد من خلال النفحات، والحبكة باللطمات، والنهاية اللطيفة باللثمات، ومع ذلك فيه تحدي؛ لأنّها عناوين لقصص قصيرة جداً، وتعكس المجموعة وعي مبدعها في القدرة على إنتاج نصوص مكثفة ومختزلة لتجارب حياتية كاملة في بضع سطور.

وقد جاء السرد في المجموعة القصصية ليس محتفياً بالإنجازات، بل تعزيزاً للسياقات الثقافية لمن لا صوت له من البسطاء بما عندهم من أحلام وهموم حياتية وللمواقف المألوفة، فكان سعيُه نحو كسر سطوة امتلاك الحقيقة من طرف واحد، وتركيز الخطاب على الإنسانية في مسعاها نحو العدالة والمساواة، وقد امتازت بوضوح اللغة والبعد عن التعقيد والتزام الواقعية.

ونجد الاهتمام بالمكان غائباً في مقابل الاهتمام بالسلوك والمواقف وتنوّع القضايا، وهذه ميّزة على مستوى القصص، قصيرة جداً لأنّ الموقف الإنساني هو الأبرز والأهم، وعلى الرغم من قصر القصص إلّا أنّ فيها الكثير من الهموم اليومية والذاتية والقضايا الاجتماعية والعبر، إلى جانب تنوّع المشاعر والعواطف ففيها الحب والخيانة والحزن والفرح، ممّا يتناسب مع تنوّع الأهداف وهذا بحد ذاته إبداع يتجلّى في كيفية اختزال قضية اجتماعية أو مشكلة، في بضعة كلّمات.

 فقد أدّت عناصر عدّة في نجاح المجموعة القصصية وإيصال المغزى من القصص منها: الإحكام في بناء السرد وتناسبُهُ مع العناوين الكبرى والصغرى، العمق وتعدّد الإيحاءات وغناها، فالقدرة على التقاط الموقف وصياغتها على نحوٍ مكثّف ليس سهلاً، وكأنَّ الكاتب يمسك ومضة زمنية ويصيغها في قصة تعبّر عن موقف من خلال عدد محدود من الكلمات تختزل حياة أحدهم من خلال موقف حصل، فتتجلّى هندسة البناء أيضاً في كيفية ربط سطح النصوص المتمثّلة بكلمات قليلة جداً مع عالمه الخيالي، وبذلك يكون قد عمل على تكيّف العناصر مع بعضها لتكوين البنية النهائية، ومراعاة الترابط المعنوي بين التصورات والأهداف لتتكوّن شبكة دلالية مكثّفة، تختزل كلّ التصورات والمعارف التي يريدها الكاتب أن تظهر في قصصه، وهذا يعني أنّ جودة القصص وتأليفها لا تعكسها الظواهر السطحية فحسب، فانتظامها في سلسلة متتالية يوحي بالمشاكلة بين القصص القصيرة جداً، وعلاقتها بالعنوان الرئيس وكأنّها بنيت وفق مبدأ الانتظام المعنوي، فارتباط الجزء بالكلّ يوحي بالارتباط المرجعي في المجموعة القصصية،

ونجد أن القصص تعبّر في بعض منها عن تأمل عميق للحياة أو انطباعٍ ما، فيوصّف الكاتب حدثاً ما لتظهر القصة المختبئة وراء هذا التوصيف للحالة أو الموقف، ومع أنّ التركيز كان على موقف الشخصيات فالأسماء لم تكن مهمة بقدر المواقف فالشخصية تمثّل نموذجا اجتماعياً يعبّر عن طبقة اجتماعية معينة، أو موقف أخلاقي تقوم به الشخصية، ويعكس وعيها الإيديولوجي لذلك تظهر الشخصيات من خلال الأفعال التي تقوم بها.

على سبيل المثال: في قصة (بشرى) نجد القصة تروي موقف من الممكن أن نجده كثيراً في حياتنا اليومية، وهو موت أحدهم وهو في المسجد، وقد عنون الكاتب القصة بكلمة تختزن المغزى من القصة وهو بشرى، لأنّ الموت في المسجد يعد من علامات حسن الخاتمة والموت على طاعة الإسلام، وكلمات الشيخ تدلّ على صلاح عمله وصلاح قلبه فقد بشّره بكلامه على ذلك.

وفي قصة (المدينة أسفله) تختزل القصة المقارنة بين حياة الريف وحياة المدينة، واختلاف القيم بين المكانين فتأتي بساطة الريف في مقابل تكلّف المدينة وتعقيدها، عندما يحاول الإنسان التشبّه بغيره ويغيّر شخصيته، ليكتشف أنّ الأصالة والحب العفوي والبساطة أجمل بكثير من التصنّع،

 فلم يستطع أن يطيل إقامته فيها وعاد إلى جلبابه البلدي، وجوهر القصة يتمثّل أنّ العلاقات الاجتماعية في الريف أهم من مظاهر الحياة التي تحتفي بها المدينة، فنجد التآلف والتكافل والتماسك على نحو أكثر وضوحاً من المدينة، أي الروابط الاجتماعية تكون أقوى، خصوصاً أنّ العلاقات الاجتماعية قائمة على القيم الأخلاقية بالدرجة الأولى.

وفي قصة الحظيرة نتكلم عن سوء معاملة المدير لموظفيه الذي حوّل موظفيه لمجرد حيوانات في الحظيرة، وهنا الحديث عن الفساد الإداري والمعاملة غير الإنسانية، ليأتي شاب يريد أن الخروج من هذه الحظيرة، وتغيير الواقع للأفضل وعدم الاستسلام.

وفي القسم الثاني تأتي القصة الأولى(صفعتان) لتكون أولى اللطمات المتمثلة بالسرقة عن طريق الخداع بأسلوب ساخر بين خسيس وبائع للذهب.

والمفارقة في قصة المرة الحادية عشر وهي رغبة إحدى النساء في إنجاب ولد بزواج شرعي، لتكون المفارقة في المحاولة الأخيرة التي كانت غير شرعية وحملها بتوأم وهكذا هي الحياة، وهو حدث مألوف.

 ونجد أن المجموعة الثانية تركز على الحياة الزوجية ومشكلاتها المتمثلة بالخيانة والطلاق

 خصوصاً مع تنوّع أسبابه.

وتأتي المجموعة الثالثة لتكون مشابهة لعنوانها (لثمات)فنجد فيها المواقف العابرة التي لها أثر في النفس الإنسانية على سبيل المثال:

صبّحك الله بالخير وهي أطول قصة وبوجه عامك المجموعة الثالثة أطول المجموعات في المجموعة وعنوانها يختصر حدثها وفيها أنّ القدر عندما يتغير مع الإنسان الشريف الرافض للفساد سيردّ الله له يوماً ما، وكذلك (التذكرة) فيها عبرة تتحدث عن فعل الخير ورجوعه للإنسان يوما ما، وتحكي (مكالمتان) عن المفارقة بين مكالمتي الصديقين وانقلاب الأدوار بين الغني والفقير وتغيّر الأحوال.

وما يلحظ بوجه عام هو هذا التناسب والانسجام بين عنوان القصة وما تحويه، فجاءت الإحالة لتظهر قوة العلاقة بين العبارات من جهة، والعناصر والمواقف التي تشير إليها القصص في العالم الخارجي، ممّا يوحي  بالتعلّق بين الأجزاء على نحو يوحي بسبك العناوين مع النص وتلاحم الأجزاء، فتغدو العناوين انعكاسات خارجية لما هو داخلي، وقد عمل على إحكام علاقة العناوين الجزئية بالعنوان الرئيس وترتيب العناوين لكلّ مجموعة قصصية، فسعى إلى مناسبة الاستعمال مراعياً قرينة الربط بين الجزء والكلّ، بما معناه مناسبة المطالع لمقاصد الكاتب، ونجد المفارقة في معظم القصص لتوحي باستقلالية مدهشة بين القصص، وهذا ليس سهلاً في ميدان خوضه مع القصص القصيرة جداً، إنّ خصوصية هذه المجموعة الشخصية تكمن في أن مبدعها استطاع أن يبنيها بناءً موضوعياً وفنياً معاً.

…………………..

*كاتبة من سورية

 

 

مقالات من نفس القسم