تحت شجرة العائلة: كتابة تتفاوت بين روح الشعر وتقنيات الرواية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عصام عبد الجليل

يشي زخم المشهد الشعري في مصر الآن، والوقوع تحت سطوة الآخر، باستهلاك قصيدة، سلطوية ونخبوبة، يخوضها شعراء الكتابة الجديدة. ويسير ذلك بالتوازي مع تنظير نقدي قائم على اثبات الاحقية في الوجود، بدءاً بالقطيعة المعرفية المصاحبة لتيار ما بعد الحداثة، وانتهاء بانشغال الذات - على ما في ذلك من تناقض - بنفسها، وثورتها على الآخر، في محاولة للاستبطان والكشف من خلال ما هو "ملكي" وليس "ملكاً" للآخرين.

هذا الترويج الابداعي والنقدي أعدم روحاً جمالية في الخلق الشعري بوصفه فناً لغوياً / جماعياً يصدر عن ذات مغرقة في خصوصيتها. ويؤدي التفاوت النسبي بين هذين الحقلين الى خلق الشعرية الحقيقية، وهي يراد لها – بناء على ما سبق – الانتصار للخاص على حساب العام. من ثم، تصبح هذه التداولية كارثة حقيقية لمفهوم الشعر في ازاحاته ومفارقاته لخلق التعددية وتمايز الاصوات المبدعة، ما ادى بدوره الى الاتفاق المضحك في “توصيفات” الشعرية، حتى لنكاد نقع تحت طائلة الاستنساخ للشعراء وقصائدهم.

أحمد يماني من الأصوات المتميزة، التي تطرح نفسها من خلال قصيدة غير نخبوية، وهو يمثل مع مجموعة قليلة من الشعراء الشباب، منهم على سبيل المثال لا الحصر: علي منصور، ابراهيم داود، عزمي عبدالوهّاب، كريم عبدالسلام، عماد فؤاد، ايمان مرسال وميلاد زكريا يوسف، بؤراً مركزية تشكل المصفاة الحقيقية لـ”هوجة” الاستنساخ المتفشية بين شعراء الكتابة الجديدة.

في ديوان يماني الثاني “تحت شجرة العائلة”، الذي اصدره على نفقته الخاصة القاهرة – 1998 مثل ديوانه الاول “شوارع الابيض والاسود” القاهرة – 1995، قصيدة نثر لا تتكئ كثيراً على الذات الفردية كمحور في تداعياتها، عبر ما سمي مثلاً باليومي المعيش وكسر “التابو”، وغيرها من منجزات هذا اللون من الكتابة. يحاول يماني ان يطرح عالماً التحامياً لا تنفصل فيه الذات عن مفردات الحياة، بل هي في طرحها لنفسها تنتقل في رحلات مكوكية بين العام والخاص في صور مشهدية: “انتظر حبيبتي تحت الشجرة / تحت أية شجرة يمكن أن تنمو في حديقة عامة / شرط ان يكون جذعها غليظاً / ولها اوراق ملتفة / يتساقط بعضها فوقي”. ولعل هذه الاوراق ذاتها هي الجنود التي تتساقط من الطائرات: “الطائرات ذهبت وعادت / سقط الجنود من ذيولها في حقل قمح / بالسترات المموهة / ينامون كل ليلة / على الطنين المحبب لآلاف الحشرات / في انتظار ان تبدأ الحرب”.

إذن يكون الفعل العام – الحرب – هو الاصل في تشتت العلاقات المنبثقة المتمثلة في ذات الشاعر، حيث تصبح تجربته الشخصية اكثر التحاماً بالعالم من خلال كم المشاهد المتناثرة في الديوان. وتصبح خبرته – التي هي جماع ذلك الالتحام – متأرجحة بين غلبة احدهما على الآخر. فالنساء اللواتي يمارس الشاعر العابه معهن – تجربته الخاصة – لسن سوى حالة مصغرة ومناقضة في الوقت نفسه لألعاب الجنود في الحقل انتظاراً للحرب، وهو الفعل العام القار الذي يشير تأثيره في مساحات مكانية وزمانية مختلفة، وبالتالي فإن تنوع الذوات ورؤيتها الخاصة لهذا الفعل العام يمثل مجموعة حيوات يصطفي منها الشاعر ذاته المشروخة في تأرجحها بين نقيضين، ويرسم لنا هذه العلاقة عبر شاشتين سينمائيتين تتضمن ثانيتهما الاولى. لذا يفرض المكان سطوته على ديوان يماني، ويصبح ذا جمالية خاصة بحسب استحضاره في ازمنة متفاوتة، حيث تتوقف شعرية النص على المزاوجة بين عالمين – على اختلاف طبيعتهما – وحدّ بينهما المكان، لكن الصدمة الحقيقية والمفارقة في الوقت نفسه هي الفعل المغاير الذي يحتويه ذلك الحيز: “هنا كان جدك زاحفاً على بطنه، ونصفه الايسر / يحترق، امسكه جدك الاخر، اطفأ النيران/ وذهب ليفتح باب الاسعاف”.

بينما في المكان نفسه، وفي آنية اخرى: “يدي في يد حبيتي ندخل باحتراس / كي نجد المكان نفسه – مكان الاجداد / المكان المثالي لمطارحة الغرام”.

ولأن القصيدة عند يماني ليست منغلقة على ذات صاحبها، بل تتسع لمفردات العالم، مستقطبة في الوقت نفسه خصوصية الشاعر، اصبحت اقرب الى الكابوس الذي يمتزج فيه الحلمي بالواقعي، وشكلت مجموعة من الرؤى المتناقضة ولّدها التراوح المحموم بين زمنين مختلفين: الماضي – حيث انتفاء الذات الشاعرة نظراً لعدم وجودها – بكل صفاته الكونية وأحداثه التي ينقلها التاريخ لتأخذ سمتاً عاماً، والحاضر – حيث فاعلية الذات لوجودها – بكل سخونته وحيويته بالنسبة للشاعر. ويأخذ الماضي- ذلك الجميل – شكلاً مفارقاً للحاضر، اذ يتبدى فيه انحسار الوعي في مجموعة من الافعال والاحلام المتحققة على مستوى ضيق الوعي او تلاشيه.

يزعم منظرو قصيدة النثر انها جاءت لتسبح في قانون من الفوضى، وانها بتخليها عن عنصر الوزن، استحدثت آفاقاً جديدة لانتاج شعريتها الخاصة. والناقد الذي يتصدى لهذه القصيدة يكون مجهزاً بمجموعة من الاسلحة يصوبها الى مجموعة موازية من الاهداف الملائمة والمحددة، فالتشتت مقابل الوحدة، والفوضى مقابل النظام، والذات مقابل الآخر، وإذ نتفق معهم في بعض هذه المقولات – اتكاء على مرجع وحيد لسوزان برنار – الا ان الاختلاف ينبع من طريقة التناول القارة في معظم الدراسات التي تتناولها. اذ ينبغي ان تتلمس الوحدة في اكثر الاشكال تشتتاً. وما دمنا قد اقررنا الذات مركزاً للعالم، فإن ما ينبع منها لا بد ان يكون خاضعاً لقانون الوحدة من دون محاولة للتعسف النقدي القائم على ليّ عنق النص لإبراز مدلولات هذه الوحدة.

في ديوان يماني، غير المجزأ، يطيب لنا – بناء على تشكيله الخاص – ان نقسمه الى ثلاثة أقسام رئيسية هل يكون لذلك علاقة بالتقسيم الثلاثي المحبب لدى معظم شعراء قصيدة النثر المصريين في دواوينهم؟، تشكل فيه القصيدة الاولى “اغنيات” والاخيرة “تحت شجرة العائلة”، قسمين منفردين، وما بينهما من قصائد يشكل قسماً منفرداً.

والملاحظ ان القصيدتين الاولى والاخيرة تشتركان في ملمح اسلوبي واحد – إضافة إلى انهما اطول قصيدتين في الديوان – الا وهو تجزىء كليهما رقمياً، حيث احتوت الاولى على سبعة مقاطع، في حين احتوت الاخيرة على سبعة عشر مقطعاً، فيما ساحت القصائد الخمس الواقعة بينهما من دون ترقيم او تجزيء. واذا حاولنا فك هذا الطلسم الذي وضعنا انفسنا فيه – وخصوصاً اننا نبحث عن الوحدة في حين نبدأ بالتقسيم – وجدنا ان النظام المقطعي في القصيدة الاولى ينبىء عن مفتتح اولى لحظات الديوان وهي سرعان ما تتبلور معالمها مع القصيدة الاخيرة. فالاغنيات السبع الاولى تزيح قليلا من ضبابية الرؤية لدى المتلقي، وإن كانت توقعه في فخ التشتت الناشئ عن الازدواجية المقصودة بين العام والخاص. ففي حين تبدأ الاغنية الاولى بحديث عن طائرات كثيرة تذهب وتعود ويسقط الجنود منها في انتظار الحرب حيث يتساقط الواحد تلو الآخر، فإن الاغنية التالية لها مباشرة – وبقفزة هائلة ومعاكسة – تختزل نفسها في خصوصية تتنافى مع عمومية الاغنية الاولى في مشهد الشاعر وهو ينتظر حبيبته تحت الشجرة، ثم وهو يلاطف النسوة اللواتي يمسحن عرقه بملابسهن.

إن هذا التقطيع المزدوج – الذي ينتظم عالمين يمتزج فيهما العام بالخاص – يشي بحلول الفوضى في قصائد القسم الثاني، لا سيما وان الذات التي طرحت اغنياتها السبع كانت ذاتاً استرجاعية واستباقية، لكنها مع ذلك نظامية، لا تخلط في مقطع واحد بين هاتين الوظيفتين، وهي حيادية بنسبة غير ضئيلة، غير انها تُكن داخلها عنصري الاشتباك والالتحام اللذين سرعان ما ينفجران عند اول معترك يخلصها من هذا التراتب الوظيفي، او – على الاقل – يخلط بينهما في لحظة واحدة.

من ثم، فإن الفوضى المتفشية في القسم الثاني يبررها انتقال الذات من موقعها البانورامي – الذي يرصد من دون مشاركة كما في القسم الاول – الى منطقة الفاعلية والتماهي مع العالم، مما يؤدي بدوره الى انتاج افعال واحداث تلقي هويتها في التنافر والغرابة، وتصبح الحقيقة على مستوى الواقع محاطة بكثير من المجاز الشعري. فموت الحبيبة يؤدي الى انقلاب كوني وعضوي ولغوي: “ماتت حبيبتي وكان الليل ازرق / كان جدول صغير يمر تحت البيت / وانوار متشابكة تظهر وتختفي / كان قلبي كبدة نيئة / وروحي بستان اشواك”.

تبدأ قصيدة “تحت شجرة العائلة” – القسم الثالث المقترح – بهذا الجزء من المقطع الاول: “قادماً من الارض البعيدة / في القطار المفتوح / وقدماه تتدليان من آخر عربة / الرجل اليسرى اقصر بخمسة سنتميترات”. وهو متمم للمقطع الاول في قصيدة اغنيات – القسم الاول المقترح – والذي جاء فيه ذكر الطائرات والجنود الذين يعودون بعد الحرب ليتزوجوا … فكأن القسم الاول يحتوي على مكثف شعري سرعان ما تفرغ شحناته على امتداد خط الديوان، ولا يمكن – بناء على ذلك – الا ان نعتبر هذا القادم من الأرض البعيدة سوى احد الجنود العائدين المحملين بآمال جديدة لتحقيق انفسهم على المستوى الشخصي، بعد فشل التحقق على المستوى الآخر المتمثل في فقدان خمسة سنتيمترات من الرجل اليسرى، كما يكشف القسم الثالث عن انتفاء كلي للذات الشاعرة – اللهم الا اندساسها قليلا في بعض المناطق على مستوى التذكر فقط – وطغيان حضوري للآخر، وبطبيعة الحال فإن ضمير الغائب يسيطر على هذا القسم، ما يكشف عن حس درامي عال تتضح خصائصه في استقطاع بنية روائية، يتجلى فيها فضاء الرواية من حيث الشخصيات والمكان والزمان والحوار والمونولوج.

لا يمكن في ظل هذا التماس المقصود بين الاجناس الادبية ان تظل قصيدة النثر محاصرة بآليات نقدية اكتسبت وجودها من دواعي تنظيرية قاصرة على انتاج الشعرية بمفهومات اسلوبية وبنيوية تحتفل – وان بدرجات متفاوتة – بمقولة “برونتيير” في الاجناس الادبية، ولعل كتابات أحمد يماني وغيره من الشعراء محمد بدوي، كريم عبدالسلام، عماد فؤاد، ميلاد زكريا يوسف وغيرهم، تتحمل الكثير من مقولات النقد الروائي ودراسة آليات القص والسرد لإحداث تصاعد درامي في بنية العمل، بقدر تحملها لمقولات الشعرية، لا سيما وان هناك استفادة واضحة من تقنيات الرواية لدى شعراء قصيدة النثر في مصر، يضاعف من ذلك تحول معظم شعراء هذه القصيدة لكتابة الرواية.

ـــــــــــــــــــــــــ

جريدة الحياة 5/9/1999

عودة إلى الملف

  

مقالات من نفس القسم