سلطة الخطاب في “بنات بالتيمور”

بنات بالتيمور
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
د. نعيمة عاشور حامد
شذرات الخطاب
تختلف مداخل القراء باختلاف طبيعة كل خطاب، كذلك تختلف النظرة الخاصة إلى الخطاب نفسه حسب نظرة القارئ نفسه، وحسب وجهة وأيديولوجية معينة ترتبط بالسياق استنادًا إلى عوامل أكثر تخصيصًا حسب طبيعة حال السياق الموجه، وهذا يظهر عندما تتداخل جوانب للخطاب بعينها مع مشاغل اجتماعية وإنسانية متنوعة، وما تختص به ممارسة خطابية بنات بالتيمور يعتمد على الممارسة الاجتماعية التي تمثل الممارسة الخطابية وجهًا من وجوهها في علاقاتها بالبناء الاجتماعي؛ إذ ترتكز على أشكال جديدة للتفاعلات وتشابكات للأزمنة والأمكنة في صعودها إلى القمة داخل لقاءات منتظمة لتوضيح طرائق رفع مستويات التطور داخل الرواية.  
والآن نتساءل:
–      ما أنواع التحويلات التي تحدث لنمط خطاب بنات بالتيمور؟
–      وهل تفسير القارئ يتفق مع معالم النص الروائي لبنات بالتيمور؟
–      وما سمات تجديد الخطاب ببنات بالتيمور؟ 
–      وهل الخطاب المُمثَّل/المُوجَّه يتضمن حدودًا واضحة؟ وكيف بُني سياقه؟
–      وما الاستراتيجيات اللغوية/الأيديولوجية المستعملة؟
وقد يناسب هذا كل القراء لنصبح أمام قراءات عديدة للقراء وهي القراءات التي تنظر في تفسيرها فعلاً للنصوص حسب عيون المفسرين ومن ثم مقدار الاستنباط التحليلي المطلوب في صلته بالنوع الخطابي.
الحدث الخطابي بوصفه حدثًا اجتماعيًّا/سياسيًّا
تشير بنات بالتيمور إلى جدائل خطاب متعددة السيرورات ما بين مؤيد لحريات المجتمع الأمريكي وبين رافض لها، تبدأ بالمسكوت عنه وسرعة إيقاعاته القوية والحاسمة في هجرة فاروق (الأب) إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ خوفًا من ملاحقات الأمن له، بعد أن تم القبض على عدد من زملائه الذين لم يرتكبوا أي حماقة ضد النظام، وقت أن شعر بأن عيونًا ما بدأت تلاحقه في كل مكان، وأن أنفاسًا غير مريحة بدأت تتحرك خلفه حيثما ذهب، حتى قرر الخروج الآمن من مصر، بعد أن شجعته سنية زوجته. 
وهو يعي تمامًا أن أغلق على أولاده خوفًا من عادات مجتمع غريبة ومتنوعة عنه بتنوع واختلاف الثقافات والديانات والأيديولوجيات فما كان منه إلا أن يحافظ عليهم، لأن من واجب كل ثقافة كما يقول: “أن تحافظ على نفسها داخل بيتها بكل قوة حتى لا تذوب في النموذج الأمريكي الثقافي العام، وعليها في الوقت نفسه أن تحترم الثقافات الأخرى لتبادلها الاحترام، كما يجب أن تحترم النظام العام لأمريكا بقوانينه ونظمه ولوائحه وحتى أعرافه”[1]، لأن ذلك “سيحمي الجميع ويحمي التنوع، ويمنع تغوُّل ثقافة على أخرى، وما عدا ذلك سيكون عوامل تدمير أمريكا من داخلها… وعلى الجميع أن يدافع عن ذلك كي تستمر أمريكا دولة قوية وموحدة، وإلا سيجدوا خمسين دولة جديدة تدخل الأمم المتحدة بعد تفككها لدول صغيرة”[2].
وجدنا تشابكًا لمجموعة متعددة من الخطابات شكلت “عقدة خطابية” أوسع لهؤلاء المهاجرين العرب بشكل مكثف إلى المجتمع الأمريكي بأن يبدأ الصراع من شخصية فاروق ويتساءل في إجابة للحوار النفسي والذهني: هل رؤيته في تربية أولاده صحيحة أم أنه أصبح متزمتًا أكثر من اللازم؟
فالسؤال الذهني يكشف عن الجوانب الخطابية المتصلة بالتمثيل والفعال للهوية الشخصية وهي تضعنا أمام عدد كبير من الأحداث الاجتماعية/السياسية المعلن والمسكوت عنها التي أسهمت في تحديد الالتزامات اليقينية لها، وبالالتزام الأخلاقي للعادات والقيم، وبمراعاة الضرورة، والتي تعد أيضًا شروطًا أو نتائج أو تضمينات للتفاعل الخطابي لوجود تتابع لأفعال الكلام ذات الصلة بالسؤال الذهني وبالتأكيدات التي تدور بذهن الشخصية الرئيسة الذي يعد هو الوجه الأول من نظم السيادة صاحبة القرار، فالقرارات العامة للهجرة الخارجية وما يمكن أن يترتب عليها تقع على عاتق الأب، وتحددت داخلها معالم لهوية ثابتة عاقلة وهادئة جمعها الخوف والقوة في ذات الوقت.
وهكذا أسهمت الفعال في تحديد الهوية الشخصية عن طريق الفكر الأيديولوجي الذي سيطر على إيقاعها وتناولها أداءً صوتيًّا وحركيًّا مستمرًّا وسريعًا وقويًّا بقوة التسلسل الزمني للمضارعة في: (تحافظ– تذوب- تحترم بتكرارها- يجب- يحمي بتكرارها –يمنع – سيكون – يدافع – تستمر – سيجد – يدخل)، لتناسب قوة البيان والمعالجة، واستخدام أنماط الأقوال الخبرية التقييمية، التي تعلقت بالمرغوب فيه لتغيير الحال إلى الأحسن وسط الوقائع الموجودة، وغير المرغوب فيه الذي أراد أن يهرب منه المتمثل في الوضع الموجود غير المرغوب فيه مع الخوف والترقب من نتائج الهروب أيضًا، وهو ما تصدى لمواجهته أيديولوجيا فرصد واقعًا مؤلمًا، واستخدام الأقوال الخبرية ذات صيغ القول الوجوبية، المتعلقة بالتقييمات فأراد للسلوك والأفعال المسندة إلى القيم أن تكون جيدة ومرغوبًا فيها.
الإطار الاجتماعي لخطاب “بنات بالتيمور”
يمكن النظر إلى المعالم المختلفة لخطالب بالتيمور في اتصالها بنظام خطاب استراتيجي الهدف منه هو تحقيق بعض النتائج المعينة، التي تخضع أيديولوجيًّا لسيطرة علاقات السلطة، ويرصد المتغيرات والآثار الاجتماعية للخطاب، ومن الشخصيات التي أسفرت عن تجسيد هذا الإطار هي شخصية حسن، وهو من الشخصيات الرئيسة التي وصلت جامعة ميرلاند بمقاطعة بالتيمور، واحد من المعلمين الذين يدرسون لمدة ستة أشهر، وقد زاد تعلق مجموعة العمل به خاصة ليدجيا طالبة الفنون الجميلة التي تدرس الأوبرا، وزاد تقدير زملائه له أكثر حينما نشر أولى قصائده باللغة الإنجليزية “أرض الضياع” بجريدة الرتريفر الخاصة بالجامعة: “لم يصدق حسن نفسه كيف كتبها ولكن إحساسه ببنت أمريكية ضائعة لا تدري ماذا تفعل في هذه الأرض المفتوحة هو الذي دفعه لكتابتها، خاصة بعد تركها بمفردها من جانب والديها المنحرفين قبل سن ستة عشر عامًا وتولت إحدى المؤسسات رعايتها[3]”.
“بعد محاضرة لأحد المسئولين الأمنيين في الجامعة عن الرؤية الأمريكية للعالم ورغبتها أن يصير العالم جنة للحرية والديمقراطية والسلام، عبّر حسن عن رأيه للرجل أن أمريكا بالنسبة إلى كثيرين في العالم الثالث والبلدان الفقيرة حذاء ثقيل يدوس عليهم لمصلحتها ولمصلحة أصدقائها وخاصة إسرائيل والدليل الحروب التي قادتها أمريكا ضد بعض الدول، مثل حربها ضد فيتنام والعراق وبعض دول أمريكا الجنوبية وإبادتها للهنود الحمر …. وأنهى كلامه عن رغبته أن تغير أمريكا استراتيجيتها لفكرة العدو الوهمي الذي تخترعه بعد انتصارها على عدو ما لتظل في موقف المستعد دائمًا، وأنها لو صرفت تلك الأموال على سلام حقيقي في العالم لاستطاعت أن تسيطر على قلوب البشرية من خلال التعليم والثقافة والفن والمساعدات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، فكم صرفت على الحروب والتسليح بلا طائل ولم تجنِ إلا العداوة والكره..
جزء من الحكي لم يذكر
   ويمكن النظر إلى المعالم المختلفة في الخطاب الاستراتيجي بالتركيز على مستويات التنظيم الاجتماعي باعتباره ممارسة موقفية ومؤسسية، ويجيب المستوى المؤسسي عن السؤال التالي:
ما العمليات المؤسسية والمجتمعية التي ينتمي إليها هذا الخطاب؟ وكيف تحدد الأيديولوجيا صورته وكيف يحدد صورة الأيديولوجيا؟
إن النظام المجتمعي في هذا الخطاب يعد بناء معينًا للمقومات المؤسسية لنظام الخطاب القائم، وارتكز الخطاب على جوانب تشكيل عناصر عمليات البناء الاجتماعي والخطابي التي تحدد الأيديولوجيا ومجموعة قوائم العمل النصية/البيخطابية، وأن الأبنية الاجتماعية شكلت وعاء مؤسسيا متعددًا ومعقدًا لسياق الخطاب الاستراتيجي، فقد ظهرت معالم السياسة في ثلاث مؤسسات رئيسة؛ أولا: مؤسسات السلطة السياسية وهي الكتلة السياسية المهيمنة في الصراع الاجتماعي والمُشكلة له وهي القوة الأمريكية والإسرائيلية معًا، ورؤية الشاب المصري المثقف هو رأي العالم كله لأمريكا صاحبة السلام الكاذب الذي تصنعه وتروِّج له كذبًا، فكيف تكون صاحبة سلام وقد خاضت حروبًا سجلها التاريخ تهز سمعة أمريكا الدولية، فقد توقف هذا الشاب على بعض محطات التدخل الأمريكي في العالم وسيطرتها أمنيًّا تحت شعارات مزيفة بائتلافات جديدة على القوى العسكرية الأضعف ضد فيتنام وضد العراق التي بدأت بالنزاع المسلح طويل الأمد بداية من عام 2003، وإبادة الهنود الحمر، ومساندتها لإسرائيل وإمدادها بعوامل القوة المسلحة.  
ثانيًا: مستوى القوى الأقل عسكريًّا وتجسدها النظام الفيتنامي والقوى العسكرية العراقية ومجموعة الهنود الحمر، وهي القوى الأقل تأثيرًا.
ثالثًا: مستوى الخطاب الحواري للشاب المصري المثقف مع الرجل الأمني، والشاب هنا صاحب الهيمنة في تشكيل الأنظمة الاجتماعية لعملية البناء الاجتماعية التي تؤسس لعمليات صراع اجتماعي بين ذاتين وقوى أخرى أعلى وأقل، فينقل أنباء مهمة تخضع للمنطق السليم عن الواقع السياسي الراهن للإرادة الأمريكية صاحبة الهيمنة السياسية العسكرية، ويحدد المستوى الموقفي للشاب إطارًا واضحًا لعملية صراع بين رؤى أيديولوجية/سياسية مختلفة في إعادة بناء خطاب جديد قوي قادر على خلق طاقة إبداعية على السيطرة الأيديولوجية في حدود قدراته على إيجاد حلول، يؤسس منه لعملية بناء اجتماعي بأن يرغب في أن تغيِّر أمريكا استراتيجيتها وأن تصرف أموالها على السلام الحقيقي الداعم للتعليم والثقافة والفن في العالم بدلاً من الحروب حتى تستطيع أن تسيطر على قلوب البشرية.
وهنا خطاب بالتيمور جزء لا يتجزأ عن المعرفة والمواقف فبطريقة الأحداث المماثلة لتعلق المعاني المجردة للخطاب ذي الصلة بالمعتقد والتمثيلات المعرفية الأخرى، فإن الأحداث الخطابية التي يظهرها الخطاب من الصعب فصلها عن الأحداث الاجتماعية التي تحدد المواقف الاجتماعية.
و”بنات بالتيمور” هو عنوان الرواية التي صدرت مؤخرًا للكاتب محمد عبد الحافظ ناصف للعام الحالي 2023 عن دار الفاروق للاستثمارات الثقافية في 271 صفحة من القطع المتوسط.
الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف من مواليد مدينة المحلة الكبرى عام 1967 كاتب مسرحي وقاص وكاتب أطفال وسيناريست ومترجم، له عشرات الأعمال المنشورة، وقد فاز بعدة جوائز منها في المسرح: جائزة محمد تيمور للإبداع المسرحي عن مسرحية طلوع النهار أول الليل عام 1998، ومسرحية وداعًا قرطبة عام 2003، وجائزة التأليف المسرحي من المجلس الأعلى للثقافة عن مسرحيتي أرض الله والفلنكات عام 2001، وجائزة رابطة العالم الإسلامي عن مسرحية سجين الهاء والواو، وجائزة سوزان مبارك في مسرح الطفل. 
وفي القصة القصيرة فاز بجائزة محمود تيمور عن مجموعة الفاوريكة 1998، وفي أدب الطفل جائزة قصور الثقافة في قصة الطفل عن مجموعة “مدرستي يا مدرستي” عام 1996، ومجموعة “ابتسامة القمر” عام 2004. 
أما في الدراما التليفزيونية فقد فاز بأحسن عمل درامي للطفل عروض مسرحية منها: طلوع النهار أول الليل، مسرح الهناجر، الفلنكات، وداعًا قرطبة، طلوع النهار، رقصة الفئران الأخيرة، النهر، حضرة صاحب البطاقة، الغد، حارة الموناليزا، وحكايات رمضان أبو صيام وغيرها.
………………………………..
[1] ص126.
[2] ص126.
[3] ص170-172.

مقالات من نفس القسم