أحمد أبو درويش
إحدى قريباتي، امرأةً خرساء. لم أكن أعلم بشكل جليّ ماهيّة القرابة التي تجمعني بها، ولكن كعادة القرويين، فإن القرابات متداخلة إلى حدٍ عجيب، فالخرساء ليست من عائلة أبي ولا من عائلة أمي، ولكن – وبشكل تقريبي – تقرب لإحدى جدات أبي. ومع أن القرابة بعيدة جدًا، لكن الخرساء كانت تأتي لبيتنا يومين على الأقل في الأسبوع الواحد.
الاسم الحقيقي للخرساء، هو “هانم”، لكن الجميع يقول “الخرسا” بتخفيف الهمزة في العامية، وثقل الهمز في الحديث عنها. كانت امرأة بيضاء الوجه، شهباء، شعرها مجعد ودرجة حماره فاتحة كلون ثمرة البطيخ وهو معصور. وبالطبع ترتدي فوق رأسها المنديل الفلاحي “المزركش” وفوقه الشال الأسود. لكني رأيت شعرها مرات عديدة وهي تعدل منديلها في بيتنا، أو حين تعيد ربطه من جديد. لكنها مع تلك الصفات لم تكن جميلة الوجه. كانت امرأة عجوز، تكبر أبي ببضع سنوات، وتفضّله عن باقي أعمامي.
لم يكن خرس “هانم” يمنعها عن سرد الحكايات! تبدأ في استخدام يدها للإشارات وصوتها لتحديد نبرة الصوت التي تناسب الحدث، إذ أحيانا تُصدر نصف صرخة للتعبير عن هول ما لاقته، حين يهرع أطفال باتجاهها ليرمونها بالحجارة. أو بتمثيل البكاء حين تتحدث عن أحد المرضى الذين عادتهم. أو بالبكاء فعلا، إذا ما أحزنها قلبها لفاجعة مسّت أحد، أو بمعاناة لاقتها. تبكي بوجيعة، وتمسح عينيها بالشال الأسود، بينما يظهر خيط من الريق في فمها، الذي تفتحه على أقصى اتساع حين البكاء. ثم ما إن تهدأ، تميل رأسها لتمسح مخاط أنفها بطرف جلبابها الفلاحي. وتجلس مستندة إلى الحائط لتهدأ بعد أداء مناسك البكاء المعتادة.
إذا استطعت وصف “الخرساء” سأقول إنها “امرأة عاطفية. ثرثارة. تحب أبي”.
الأغرب من ذلك هو تفاعل أبي وأمي معها، واللذين يبادلانها الحديث بحديث، والبكاء بتعاطف، والجوع بالأكل معًا.
كان أبي يفهم لغتها، بمهارةٍ عجيبة، فحين تتعثر أمي أحيانا في فهم إشارات الخرساء، يشرح لها مقصدها.
كنت أنظر إليه، وأتعجب، هذا الرجل كانت له جاذبية اجتماعية تشدّ الجميع إليه، ذكاء حادّ، واجهة اجتماعية في هيئته وملامحه، لكنه ترك ذلك كله خلف ظهره، وآثر الجلوس للاستماع للحكايات، ولم يتعد طموحه أقصى من أن يمر يومه بسلام. انعدمت نشاطاته الاجتماعية في سنواته الأخيرة. بل إنه قاطع أغلب أصدقاءه على كثرتهم. وانحسرت نشاطاته في لعب الدومينو مع بعض أقرانه الجدد، والاستماع للحكايات في البيت.
***
عاشت هانم عشر سنين بعد وفاة أبي. لم أعرف الكثير عن حياة الشخصية يقال أن أقاربها من أبناء إخوتها، بنوا لها غرفةً وحمامًا، كانت تنام وتأكل وتخزن أشياءها وملابسها في تلك الغرفة. ولم تتزوج الخرساء أبدًا، على الرغم من زواج أخريات مصابات بالبكم أيضًا، لكن “هانم” لم تتزوج. وأظنها غير صالحة للزواج، إذ كانت سريعة الغضب، للحد الذي كان يرعبني منها أحيانًا. بل إنها كانت تمدّ يدها بالقبض على قميص من يضايقها، لتبدأ معه عركة، كانت تنتهي سريعا بتدخل الناس. لكن هول مفاجأة الخصم هي ما كانت تصيبه بالرعب.
تعرضت الخرساء لمضايقات كثيرة، خاصة من الأطفال المتنمرين عليها. بل إن البعض منهم كانوا يقذفونها بالطوب أحيانا، وهو الأمر الذي يكون فيه حكايات لا تنته وشكاوى لا تنتهي وبكاءً مريرًا، وما يزال أبي يشاطرها أحزانها، بلغة الإشارة.
كانت ترتدي جلبابا فلاحيا، لكنها لم تكن تهتم بمظهرها الخارجي، ثم إن نمط حياتها البوهيميّ، جعلها دائما تبدو بحالة مزرية. ودائما قدماها غير نظيفتين، بل إن كعبي قدميها دائما مشققتان من أثر المشي الكثير، إذ كانت ترتدي “شبشبًا” بلاستيكيا ناشفا ورديئا، تسبب مع المشي الكثير في تشقق القدمين. لكن الأكثر قرفا بالنسبة لي كانت رائحتها السيئة. فلم تكن الخرساء تغيّر ملابسها بشكل يوميّ ولا بالطبع تواظب على التحمم، وذلك لسوء وضع حياتها.
لم تتغيب الخرساء عن أي من الأفراح التي شهدتها أسرتنا، بل كنا نتعجب أحيانًا من معرفتها بالأمر. كانت تقدم دون دعوة، كفرد من الأسرة. لكن المدهش بحق، هي إمكاناتها المذهلة في الرقص. إذ تصعد على كرسيّ، وتمسك بأكواب المياه وتضعها فوق رأسها وتبدأ وصلة الرقص، بتمايلات كثيرة دون أن تسقط المياه ولا الكوب فوق رأسها.
لكن المدهش بحق، أنها كانت صماء أيضًا. لا تسمع. إذ كانت ترقص على إيقاع داخليّ دون موسيقى.
***
في أعراف أسرتنا، دائما ما تكون الجنازات هادئة جدًا. لا تصرخ نساؤنا. يبكون فقط. ويوم وفاة أبي، بدأت عمتي الصغرى في النحيب لكن أحد أعمامي نهرها فسكتت. لكن “الخرساء” كانت الوحيدة التي تصرخ، في مشهد جنازة أبي. ولم يستطع أحد إسكاتها. وحين خرج النعش من البيت، انهارت “الخرساء” تمامًا، فتقيأت، ثم أغمي عليها.
لم يلتفت أحد للخرساء، كان جميع الرجال يشيعون النعش للمقابر. أهملناها خلفنا، ملقاة على الأرض. لكنني وحين عدت للمنزل بعدما دفنت أبي، وجدتها تسند رأسها على الحائط وتبكي في صمت وما يزال فمها مفتوحا تسيل ريالته ويصدر نحيبا ضعيفا بعد أن انهارت قوتها.