محاولة ترميم ..

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فهد العتيق

 

في المساءات الضالة , التي أشعر فيها بفراغ العيش في مكان متبلد , أرمم ذاتي بأفكار جديدة , أكتب مشاهد لفيلم اختمر كثيرا في الذاكرة , مشاهد روحية تبحث عن رؤيا جديدة , أو أرسم شموساً ضائعة تبحث عن أرض جديدة , أو أقماراً محبوسة يحرسها أولاد وبنات منتشون , وحين أحاول إغلاق عيني المتعبتين يهزني صوت من الداخل , أرتجف ثم أصحو لكي أرمم ذاتي من جديدة بروح جديدة لازالت تبحث عن الرؤيا.

أبحث عن وقت رمادي غامض , وقت جديد وطازج ومختلف يرسم خطوطا فرعية في اتجاهات كثيرة , وقت أعود منه بحكاية جديدة ، أو رؤية تقع في المنطقة الوسطى ما بين يقظة غير صريحة ونوم غير واضح , أدخل معها في حوار , أضع أمامها تاريخي المرتبك واسئلتي القديمة في جدار ناصع مثل شاشة سينما.

 الآن تتداخل كل الرؤى والحوارات والمشاهد التي يحملها هذا الواقع الماثل أمامي  

مثل عمود نار أحيانا ومثل مسرح صغير أحيانا أخرى , تدخل في المشهد كل الاسئلة المبثوثة في الوقت القلق فتبدو مثل قصيدة متشظية , أو مثل فيلم متقطع .

يبدأ الفيلم حين هكذا فجأة , أجد نفسي وحيدا داخل خيمة واسعة ، صحبة غروب ساحر , يتوسط الخيمة موقد نار كبير , وعلى حوائط الخيمة تبين ظلال لرؤوس أدمية كبيرة , أقول لنفسي: ربما يأتي أحد الآن , الخيمة في صحراء ، والصحراء في رأسي,  ورأسي وسط غيمة وظلال الرؤوس الآدمية تتحرك في حوائط الخيمة .

كان جمر الموقد يلمع مع الهواء الخفيف الذي يدخل الخيمة من بابها الصغير ، وكنت أرى ظلي الضخم متمدداً في كل المساحات حولي ، بينما أرى رأسي معلقاً هناك في سقف الخيمة . فجأة يطل من باب الخيمة رجل طويل أسمر ونحيل , له وجه أليف كأني رأيته من قبل ..

قلت : أهلا  تفضل

قال : أهلا بك

دخل وجلس

قلت له : من أنت

قال لي : أنا هذا الأحد الذي ينتظرك

قلت : أنت تنتظرني أو أنا الذي ينتظرك

قال :  أنا حسن الذي تركته منذ عشرين عاما .

قلت وأنا أحاول التذكر متأملا في ملامح وجهه المألوف :  تشرفنا ياحسن .. كنت مشغولا والله .

أخبرني : أنا راعي الأغنام وحارس الأراضي والأحواش في هذا المكان .

وأضاف : أنت جئت هنا منذ سنوات ونصبت خيمة صغيرة ليلة واحدة ثم تركتها في الصباح .

قلت :  تذكرت ياحسن .. وأذكر حين سألتك لماذا تحرس التراب ياحسن .. وقلت لي أن هذا التراب بالملايين .

قال حسن : أنتهت اللعبة والمزاودات وصارت هذه الأراضي بسعر التراب .

قلت  : سبحان الله

قال حسن : أنا مللت وأريد أن أذهب الى أم درمان .

قلت له : أم درمان بعيدة يا حسن  وسيارتي قديمة .

ضحك حسن وقال : الكفيل قال لي لا تستطيع السفر لبلدك إلا اذا احضرت عاملا مكانك .

قلت له :  وأنا ياحسن مللت من الرياض وأريد أن أحرس مكانك.

شرب حسن الشاي معي ثم غادر الى خيمته بعد أن سمع سيارات ضيوف خيمته, وأنا بدأت أرى وجوهاً غير مرئية تتوافد على المكان ، رجال بملابس ثقيلة جلسوا في مايشبه الحلقة أمامي , وبدأوا يتحدثون عن أشياء كثيرة , يحكون عن الحب والدين والرؤيا والحلم ، في مشاهد تصلح  لفيلم مشوق, أحفظ صورهم وأحاديثهم في رأسي .

  نسهر حتى وقت متأخر , وأنا مثل شبح يسبح في صحراء بجسد مرتعش وروح عميقة مليئة بالليل والظلام والوحشة والحنين والأسئلة والحكايات , أرقب حكايات ومشاهد مثيرة , كل حكاية  مليئة بنفوس حائرة لا ترى سوى طرقات واسعة وشوارع سفر وحارات غربة وبيوت تنظر للحياة من ثقوب في الأبواب الموصدة .

الآن بدأت أرى وجوها قديمة أعرفها ، في عتمة خفيفة أمامي ، بدأت أشعر بدوار ثقيل أيضاً، وأنا أتأمل وجوهاً اصطفت بجانب بعضها بتعابير مختلفة ، كل أصحاب هذه الوجوه ماتوا، وكلهم الآن بدأوا في حركة دائرية حول الموقد فيما يشبه الرقص ,  ثم يخرجون فأصحوا من خدري اللذيذ ، ويبقى بعض الدوار الذي يسمح لي بتوديعهم وداعاً يليق بحجم الفقد ، وفي كل وقت كانت تظهر وجوها متفرقة وتغيب ، نساء ورجال فقدتهم منذ أزمنة بعيدة، في حوادث أو أمراض مختلفة ، وجوه تظهر ووجوه تغيب وأنا في حال إرهاق شديد ، أرى أسئلتنا المعلقة وأحلامنا المنكسرة ومتاعب وجوهنا جميعاً, وكانت بين وقت وآخر تطل علي بوجهها الفاتن , تطل من البعد وأنا مشغول بوجوه كثيرة حولي, تطل من البعد فأشعر بتأنيب ضمير وندم , ثم في لحظات أخرى أشعر أنني أعيش حياة بائسة في عالم ضاج كبير الفوضى وكبير البؤس, وكثير الاحلام المؤجلة و لم أشارك في صنعه.

  كانت الظلمة تتكاثف وكان الفيلم لايزال يعمل, وكنت أسمع أحاديثهم وجدالاتهم المثيرة واضحة , وكنت أرى نوراً ضئيلاً يتحرك أحياناً في أماكن مختلفة, لكن المكان بدأ يضيق , والنفق الذي وجدت نفسي فيه بدأ يضيق أكثر، وأطرافي بدأت تموت بجانبي , والبيت الذي وصلته متأخرا لم أعد أعرفه , صار شيئا آخر أحاول تذكر ملامحه القديمة ،  وأنا أتشجع بالهدوء والصمت لمحاولة الفهم , أتأمل دولاب الصالة الخشبي، أتذكر أحلاما وأغنيات قديمة ومشاريع صغيرة غائبة عني منذ وقت طويل,  وأراهم بهدوء يخرجون من وقتي واحداً واحداً, وهم يبتسمون بمرح, أشعر أن رأسي صار مثل قدر يطبخ الأفلام المستحلية , بدأت أرى أني تحولت الى عين تطل على ساحة غامضة من ثقب صغير في جدار غرفتي , قبل أن أصحو مليئا بحكايات وعطش قديم .

 

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب