ناهد السيد
لازالت أحلامى طازجة، لا تبتعد كثيراً عن الواقع ولا تفكرحتى أن تشت إلى ما لم تؤهل له، أحلام مهذبة راقية لا تتشارك مع الآخرين وتجحفهم فيما لا يعنيهم، أحلام وحيدة ضالة، لكنها مشرقة.
أما أفكارى فتسير كعادتها فى خط مستقيم وروتين منظم لا تحيد عنه، خيالى ليس جامحاً بالمرة فهو مطيع يخشى أن يترك يدى ويضيع تائهاً، لذا يظل طوال الوقت معلقاً فى ذيل فستانى، لا يعرف طريقا آخر سوى محيطى الضيق ليتجول به، ثم يعود منهكا ليستريح، وأضمن أنه لن يطمح أبداً لتغيير مسيرته اليومية، ويومى كما هو لم يأكله الزمن بعد، لازال يحتوى على أربع وعشرين ساعة بالتمام والكمال، تمر على عجل، دون التفاتة أو ترقب، لا يعرف الانتظار لا يسكره الملل ولا يطوحه الفراغ.
أما مشاعرى فبلهاء، ترى كل الأناس طيبين مريحين إلى أن يثبت العكس فتخرج حوافر الندم لتنغرس فىّ، ولكنها تقسم ألا تتعلم البغض وسوء الظن، وتعيد الكرة مرات ومرات وتكتفى بأن تبتسم لأعدائها قبل اصدقائها لعلهم ينضبطون.
وللأمانة أعترف بأنى أتنفس نفس قدر الهواء الذى أتنفسه كل يوم ماعدا أوقات الغضب والاكتئاب، أستهلك فيهما أكثر من طاقتى فى الأوكسجين وتنبعث منى سموم الهم والحزن مرتين إلى ثلاث فى اليوم الواحد، تلك السموم كفيلة بأن تحرق باخرة تسير وسط المحيط، لكنها سرعان ما تهدأ وتنام فى قبضة روحى هادئة مستكينة ليس لأجل إطاعتى، لكنها لا تملك بديلا آخر سوى الخمود وما بيدها أى حيلة.
لديّ تطلعات تقف محلقة على حافة نافذة خلفية واضعة يدها أسفل الخد فى حالة من الأسى والشجن لكنها تحاول جاهدة، أن تدير ظهرها وتطل يوما من النافذة الأمامية.
هذه هى حياتى التى سرقها منى المرض وأنا فى أواخر الثلاثينات، وقد تماسكت حتى أعتاب الأربعين، لكنه أصر على سلبى حياتى الصغيرة التى لم تنضج بعد وأدخلنى إلى حياة أخرى ليست لى ولا أنتمى لها، حياة امرأة عجوز اكتفت من الحياة والأحلام وتوقف خيالها عن النمو وأملها بات محموما وصارت طموحاتها عرجاء.
قاومته كثيرا، ساومته، حاولت رشوته وإغواءه و مقايضته بواحدة أو اثنتين من عناصر حياتى المسلوبة، لكنه رفض طامعا فى مجملها، فلا زالت بضة وطازجة، ربما استولى عليها ليبيعها بمبلغ وقدره أو ليدخرها لأحد أقاربه، إنها حياة – على رأى المثل – فيها الطمع، حياة استعمال امرأة تسير بتأن يشوبه الخوف ودقة الملاحظة والانتباه، تسير وفق نظام أخلاقى واحترام قواعد المرور لحياة الآخريين، تخضع لإشارات المشاعر والأحاسيس وتعمل وفقا لها، حياة فابريكا لم يخدشها أحدهم لأنها تحترم الجميع، لم تنكسر، لم تتأثر بما تعرضت له من حوادث وكوارث، حياة استعمال خفيف، لم أستمتع بها بعد ،تفارقنى يوما بعد يوم وتنسل من بين أصابعى منجذبة إلى هذا السارق الظالم، الذى يتوقع أن أتركها له خالصة مخلصة، وإذا كانت عينه عليها، فإن عينى فيها ومنها ولها، ولن أتركها له إلا على جثتى، لكنى أعرضها فقط للتبنى مؤقتا لمن يصونها إلى أن تنتهى معركتى معه.. فهل من مشترٍ؟.