حقك عليّ يارب

ناهد السيد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ناهد السيد

ضاق على الخناق، وأحكمت ربطة الحبل على رقبتي، وظللت معلقة بالكاد تلمس أطراف أصابع قدمي كرسي خشبي.. ذلك الذي كنت أسحبه بلهفه كل يوم وأجلس بطرفه، لا أعتدل إلا بعد الانتهاء من كتابتي، وصب كل مشاعري وما يختلج بعقلي، يحتويني من أم رأسي لأخمص قدمي، ألقى برأسي على مسنده الخلفي لأتنفس الراحة، وأستشعر لحظات تفريغ المشاعر.. ما أحلاها من لحظات!

تحلق بي للغوص في معتقدات وأفكار وعوالم واسترجاع ذكريات، وتلضيم كلمات واسترسال جمل وما إن تكتمل انفعالاتى، يلفظنى ظهر الكرسى للاعتدال وانتصاب ظهرى وانحناءة رأسي قليلا لأصب ما برز من أفكار، فأملأ ساحاتي بالمكنون المنفرد، ولما يرتخى رأسي على صدري من شدة التعب، يظل الكرسي متمسكا بنصفي الأسفل يثبتني في قاعدته لكى لا أقع، ويودعني في أحضان الراحة قليلا، حتى أفيق وأعاود الكرة مرات ومرات.

لطالما دفعني لأصنع اسما ومكانا فى هذا البقعة الصغيرة من العالم، هكذا بدأ معي حياتي وهكذا ينهيها بكل ثبات وحكمه، مؤكدا أن كل ما حدث كان باختياري وأوامري، وأنه مجرد خشبة مسرح لممثل مبتدئ ساعده على الاتزان، التواصل، الصمود.. حتى حصل على “سوكسيه” الجمهور الذى أثار غيرة زملائه المحترفين، فوقع في شرك المقاومة والتحدي وكثرت مهامه في التصدي للزلات، والخروج عن النص، محاولا ألا يلفظه  المسرح، لم أشفق على ذلك الكرسى الذى منحنى أحلاما وحققها لى، لم أتروى لأسمع رأيه في اختياري الأخير، لم أبال بمشاعره بعد فقدى.

من سيعتنى به مثلى ويتلهف للجلسة معه ويمنحه الفرصة لمساعدته والاستلقاء باسترخاء والصمت التام حتى ينتزع افكارا اختبأت في الأغوار، من يشعر به وهو وحيد بانتظاري.. حيث لن آتي أبدا؟  

من يدسه آخر الليل برفق فى فتحة المكتب المصنوعة خصيصا لراحته، من يلمس مسنده بخفه بنقرة الاصابع التي تفكر إيابا وذهابا، حتى يقشعر مسنده ويتلامس مع أحد الأفكار التي تقفز فجأة، فيستدير على الفور فى وضعية العمل ويبدأ صب الأفكار، لماذا تجاهلت مشاعره عندما سلبته عمله الأساسي وجعلته مجرد نصب تذكاري شاهدا على عجزي في كرسي آخر متحرك؟ واخترت أن أنهى حياتي معه، سمحت لنفسي بتركه وعجزت أن أجلس عليه مرة أخرى. واستبدلته بكرسي العجزة

كم أنا قاسية!.

لا.. كم أنا نمرودة!.. رغبت أن أنهى حياتى هكذا دون استئذان ولا اعتذار لمانحها لي، لماذا تبجحت هكذا وسمحت لنفسى أن أخون عطاءه لى ؟ ما الذى أضعف روحى الى هذا الحد لأدع ذلك الخناق يكمل لفته برحابة وسلاسة على رقبتى كما أحكمها على قدمي وعقلي.. دون أن أفلفص وأتلوى وأقاوم؟ ما هو حجم الثقل الذى “خدل” ذراعاى وأضعفهما ومنعهما من الكتابة ومواصلة فضفضتى؟

كنت لا أملك سوى كتاباتي وذلك الكرسي، شريك حياتي في الإبداع، ملهمي.. كيف تخليت عنه؟ وجلست قبالته أتغطى بالحسرة

على كرسى ذى عجلات 

جلسة بجلسة.. ألم يكن هو الأولى   أن أواصل الجلوس عليه..

فأنا لا أكتب بقدمى

على الأقل كان سيلهيني بالكتابة..   

إنه بدون مبالغة مجرد حيوان مفترس تسلل إلى روحي ونهش بها، يتلذذ يوميا أن يلتهم قطعة طازجة حسب ما يشتهى، فأطباقه متعددة من كلى ورئة وطحال وأمعاء، ويحبس وجبته بعصير دماء وألبومين الكبد، ذلك النوع النادر من العصائر، ولا يتوانى عن “تكحيت” الجلد وفروة الرأس فما ألذها تلك الطبقات الخارجية المحمصة، فيقضى – كما يقولون – على الجلد والسقط، وعندما يمتلأ جوفه وينهار تعبا من الشبع، مستصعبا فكرة انتهاء الوليمة، يتسلى بمصمصة عظامي وأسنانى ويقرضها وربما تنكسر أحدها أو تتآكل  فيستلذ بطيب سكرها، ويتلذذ كثيرا إذا ما عثر على  “قرقوشة” أحد المفاصل الدقيقة أو الكبيرة.. وماذا بعد؟

هو فى النهاية مجرد حيوان أنثى الذئب الأكثر ضراوة وتوحش وذكاء وقوة، لماذا أعتبرها مرضا كائنا متطفلا، وبدلا من تسميم وجبتها استسلم لها؟ كيف سمحت لها أن تبعد بينى وبين الله مهما زاد على الألم.. وأفكر في اختيارات ليست من حقى..حقك عليّ يارب.

لم أكن أدرك حجم ما منحتني من نعمة فى المرض.. فهو على الأقل جعلنى أحج إليك فى ألمى، وسأظل أحج اليك كل مساء.        .    

مقالات من نفس القسم