د. مصطفى عطية جمعة
لا يمكن أن نتصور إبداعا دون خيال، ذلك لأن المبدع يرى ما لا يراه الإنسان العادي المفتقد للإبداع. فالخيال هو اللمسة المختلفة التي توهب للمبدع، وتجعله قادرا على تقديم ما يدهش الآخرين، ويفاجئهم فنيا وإبداعيا.
بداية لابد أن ندرك أن الخيال المبدع وسيلة لإحداث التغيير الروحي، مصحوبا بالحب للعالم الجديد، والأشياء فيه، فالحب هو القيمة الروحية التي تفجر الفن، لذا تجب العناية به من لدن المبدع، والتمييز بينه وبين طلب الشيء، أو إرادة الشيء، كما يجب التمييز بينه وبين التوهم وأحلام اليقظة.
ليس المقصود بالحب هنا عاطفة الحب المعتادة في القلوب، والتي كانت عنوانا للمدرسة الرومانسية، وجعلت الأحاسيس بوصلتها في الحياة والأدب، وإنما الحب بمعنى الحميمية التي يقيمها الأديب مع العالم من حوله، أيا كان هذا العالم، عالم يعيشه ويأتلف معه سواء كان بشريا، نباتيا، جبليا، صحراويا، افتراضيا، واقعيا، حتى لو خياليا، فلا إبداع لمن لم يتعايش مع العالم المراد الكتابة عنه، والتعايش أساسه الانحياز والحب والألفة. ومن جانب آخر، لا معنى لخيال مبدع، يفتقد التواصل مع القارئ، فيمكن للمبدع أن يتخيل ما لا يتوقع، ويكون السؤال ماذا عن القارئ ودرجة تقبله لهذا وتذوقه لجماله، واستيعابه لطرحه. إن الخيال المبدع مثل المغناطيسية، يحتاج إلى قطبين، حتى يوجد قطب موجب وقطب سالب، فهو ليس فعلا واحدا، بل متبادلا: إعطاء وتلقيا، وهو يحتاج إلى توتر يصل بين المعطي والمتلقي، والفن أحد أشكال هذا التوتر.
لذا، من المهم التفرقة بين: التخييل، والتخيّل، والمتخيل، والخيال ذاته.
فالتخييل هو النشاط الحر الذي يقوم به الإنسان فيما يشبه أحلام اليقظة، فهو ينتقل من موضوع إلى آخر على نحو حر تماما، ودون الالتزام بروابط أو نظام أو قوانين. أما التخيّل فهو نشاط حر ولكنه موجه على نحو غير مباشر نحو موضوع معين، ويكون بؤرة للنشاط الخاص بالتفكير البصري، ويتجمع حوله كل ما يؤكده ويدعمه ويعمقه من الصور والذكريات والانطباعات والانفعالات، وهو نشاط يقوم به الصانع أو المبدع للخيال أو المتلقي له، أي أنه شكل من أشكال الذاكرة التي تحررن من روابطها، في حين، يكون المتخيل هو: موضوع التخييل أو التخيل أو التفكير البصري، وقد يتجسد في أشكال فردية أو جماعية، داخلية أو خارجية، وقد تقوم أمم وحضارات وثقافات في ضوء هذا المتخيل. أما الخيال فهو العملية الكلية التي تضم كل العمليات الفرعية السابقة.
فالقاسم المشترك بين المصطلحات السابقة، هو وجود الخيال، الذي هو طريقة للاستكشاف العقلي على نحو إرادي مرن واحتمالي، خلال العوالم الخاصة بالصور، بل يكاد يكون الخيال في جوهره عملية تحويل للصور، والذي لا شك فيه أن الخيال هو جوهر الإبداع، أيا كان نوعه وشكله، لأن المبدع أو المخترع أو المبتكر أو الحالم أو المتخيل، يرى في النهاية ما لا يراه غيره، وعلى قدر قوة إبداعه، وصقله في التخييل، وقوة الموهبة ذاتها، يكون المبدع متوهجا، والاختراع مؤثرا.
فالخيال يجعل الإنسان – وهو في كامل يقظته – يجول بعقله في عوالم رؤى شتى، بعضها واقعي وكثيرها غير واقعي، وربما تكون ترجمتها في صور هي الأقرب له، خاصة في مجالات الإبداعات ذات الطابع البصري مثل الفنون التشكيلية والسينما والمسرح، أما في المجال الأدبي، فإن الكلمة هي الأساس في التعبير، صحيح أن الكلمة تعبر عن صورة بصرية، إما بتصوير خيالي في الصورة الفنية الشعرية، أو بوصف مفصل لما هو واقع بصري، أو بوصف حركة وأحداث وشخصيات باستخدام الكلمة، ولكن بتعبيرات دالة على البصر.
وفي هذا الصدد، يجدر بنا أن نناقش الوسيلة الأساسية في تحقيق الخيال، فالفنان التشكيلي مثلا يستخدم خامات عديدة مثل الحجر أو الألوان أو الأخشاب أو المعادن في صياغة ما تخيله فنيا، أما الأديب والشاعر، فإنه يستخدم الكلمة، ولكنها ليست نهاية المطاف، فهناك وسائل أخرى مع الكلمة، تتصل بسبل نشر الكلمة ؛ إما على الحجر أو الأوراق المخطوطة أو المطبوعة أو مواقع الحاسوب.
فالإنسان يفكر ثم يعبّر وفق ما تقتضيه الأدوات المستخدمة في التعبير، فقديما كان يفكر في حدود ما سيدوّنه على الحجر أو الخشب أو العظام، فيكون حجم الكتاب صغيرا، محدودا في الكلمات، بغض النظر عن رغبات القارئ، والانتشار متوقف على مدى عدد القراء ومدى قدرتهم على الوصول إلى الكتاب، فما إن توصل إلى الرّق ومخطوطات البردي، ابتداء من القرن الرابع الميلادي فصاعدا، حتى ظهر الورق في القرن الثاني عشر الميلادي في إيطاليا، وكان الكتاب المصنوع من الرق يوضع في درج، حتى يقال إن الإلياذة لهوميروس كانت في أربعة وعشرين مجلدا لأنها وضعت في أربع وعشرين درجا، يتسع كل درج لحجم المجلد فقط، وعندما ظهر الورق، ثم اختراع الطباعة، تغير شكل الكتاب، واتسع انتشاره، وزاد عدد القراء، وتطور تدريجيا إخراج الكتاب، وبدأ يلبي رغبات القراء، وهذا ما راعاه المؤلفون والطباعون.
لقد كان المؤلف يصوغ نصوص كتابه وفق الآلية المتاحة له للتسجيل والنشر، أي أنه يفكر ضمن ما يفكر في السبيل، ويراعي القارئ، وحاجاته النفسية.
وهو ما يفسر ظهور عشرات الأشكال من الأعمال الأدبية والعلمية ما بين كتب روائية ( رومانسية وبوليسية وواقعية.. ) وشعرية وغنائية وكتب علمية مبسطة أو معمقة، وكتب الخيال العلمي، فيمكن القول إن القارئ شريك في تكوين النص وإنشائه من خلال تفاعله مع الكاتب مباشرة وشرائه للكتب.
أيضا، هناك علاقة روحية بين الكتاب والقارئ، تختلف عن العلاقة بين الإنسان وأدواته المستخدمة في الحياة، مثل الأثاث والملابس، فالكتاب له وظيفة رمزية، والمبدع بوصفه قارئا في الأساس، ينظر في هذه العلاقة، وينشئ إبداعه وفقا لها، ونفس الأمر مع صانع الكتاب وناشره.
فما دامت الوسيلة جزءا من تكوين النص، ومادام المؤلف المبدع يأخذ في حسبانه وسيلة النشر، وحاجات القراء المتلقين، فإنه بلاشك سيبدع ضمن هذه الدائرة. وعندما ننظر إلى استفادة المبدعين من تقنيات الحاسوب، وما يتيحه الفضاء التقني من انتشار وتفاعل مباشر فإن هذا سيؤثر على مجمل العملية الإبداعية: تأليفا وتلقيا.
وفي جميع الأحوال، وفي ضوء مسيرة تطور العلاقة بين المبدع والقارئ والأداة وصناعة النشر، فإننا في حاجة إلى قراءة عميقة للفضاء التقني، بعدما استقر وأصبح واقعا يلاحقنا في حياتنا، ونلاحقه متى وأينما ذهبنا، فهو حافل بالكثير، الذي يجعل العقل البشري في حاجة إلى تأمله، والتعامل معه، بل على الإنسان المعاصر أن يغير من طرق تفكيره، ومهاراته الخاصة في تحصيل المعرفة كي يواكب الثورة المعلوماتية الجديدة بفضائها ووسائلها المختلفة، والتي استطاعت أن تفرض عشرات التحديات على العقل المعاصر، وهي تحديات جديدة لأنها تتصل بالبناء المعرفي والمهاري للإنسان.
وهذا ما دعا ” بيل جيتس ” إلى اعتبار التعليم وسيلة أساسية في تنمية مهارات الإنسان المعاصر، ولا يحصره في التعليم النظامي، وإنما في التعليم المستمر طوال الحياة، لأن العالم مطرد التغير، وكلما ارتقى الأفراد معرفة ومهارةً صاروا هم الأفضل أداء، لأن الأهمية التي يسبغها المجتمع على مهارات الكومبيوتر آخذة في التزايد، وتجد مساحات كبرى من الاهتمام الفردي والأهلي والحكومي.
على المبدع أن يقرأ مجتمعه بشكل كلي، يشمل الثقافي والاجتماعي والشعوري والتقني، وكلها علاقات متشابكة، فإذا قبِل أفراد المجتمع التقنية، فعلى المبدع أن يدرس عوامل السببية الاجتماعية التي جعلتهم يقبلونها، فالتقنية في نهاية الأمر تتوجه للناس، وعلى قدر تقبل الناس لها، تنتشر، وعلى المبدع أن يدمجها في ذاته عندما يروم التعبير عن مجتمعه.
فالمبدع في الفضاء التقني يشكل عضوا بالفئة المتمردة، ضد الهيمنة السياسية والفكرية والثقافية التي تصدرها مواقع البحث الكبرى، والمواقع المعلوماتية الأساسية، لأنه يتمتع بالفردية التي تجعله يقف أمام هذه الهيمنة، يقرؤها وينثرها شعرا وفنا وأيضا يتحداها.
إنه يتناغم في هذا مع التوجه المستقل القوي، والذي واكب تمدد الشبكة العنبكوتية، منطلقا من أن هذه الشبكة مثل القطار يركبه غرباء، وينزلون منه، وكل غارق في أفكاره وأحاسيسه، وإن كان هناك مشتركات دون شك. وهذا التوجه ينمو بعيدا عن توجيه الحكومات، ضد أباطرة الاتصالات عن بعد، الذين يتوقون إلى ممارسة سيطرة احتكارية ليس فقط على السلع المادية مثل الفحم والنفط والصلب والسكك الحديدية، بل أيضا على الوسائل الأساسية للقوة في حضارة تقوم على المعلومات، فإذا وعى الشاعر هذه الهيمنة العملاقة بالقوة المتسلطة في العالم الإلكتروني، فسيكون لديه دور أساسي في مواجهتها، وفضح هيمنتها، وسيطرة الرأسماليين المتحكمين في صناعة المعلومات.
النص الإبداعي في الفضاء التقني:
يمكن تعريف الواقع الافتراضي الذي أتاحه الفضاء التقني ( الإلكتروني ) بأنه: ذلك النشاط الذي يسمح لنا ومن خلال التفاعل مع التكنولوجيا، بأن نستغرق بأنفسنا ونندمج في الصورة وعالمها وأن نتفاعل معها أيضا. فقد جعل الإنسان يعيش عوالم يوجدها الحاسوب بأنظمة تمزج بين طرائق التصوير والصوت والأنظمة الحسية المحوسبة، بحيث يشعر الإنسان أنه مندمج في عالم بمستويات حسية مختلفة، ومتفاعل معه. فهناك عوالم بصرية شبه واقعية ثلاثية الأبعاد، ومخلقة بوساطة الحاسوب، ويتفاعل المرء معها في بيئات افتراضية كالغابات والمعارك العسكرية والفضاء الخارجي وأعماق البحر والأسواق… إلخ.
وعلى الصعيد الأدبي، فإن الفضاء التقني كان سببا في ظهور نصوص جديدة، تكتب بتقنيات جديدة، تشمل الطريقة التقليدية في الكتابة، وأيضا الاستفادة من الإمكانات الكبيرة التي أتاحها الحاسوب على صعيد تصميم وإخراج النص، وهذا ما شجع على ظهور ما يسمى “النص المتشعّب Hybertext” المتميز عن النص الورقي المكتوب، ” فالنص الإلكتروني عبارة عن كتلة لغوية متحركة في الاتجاهات كافة، فهي تأخذ طابعا متشعبا، لكن درجات هذا التشعب مرهونة بنوعية الشبكة ومدى ليونة أو صعوبة أو تعقيد وصلاتها، كذلك بنوعية المعرفة الموزعة من قبل الشركة، التي تتحكم في مساراتها واتجاهاتها الإيديولوجية.
عندما يتعامل المبدع مع الحاسوب، وقد امتلك مهاراته، وأدرك عوالمه، سيعرف أنه يتيح إمكانات عالية في تشكيل النص على مستوى الشكل، وأيضا على مستوى المضمون، فالنص الإبداعي المصاغ على الشبكة العنكبوتية بواسطة برمجيات الحاسوب، يتميز بسمات عديدة، تستقر في نفس المبدع، قبل وأثناء وبعد عملية التكوين الإبداعي لنصه، فلم يعد المبدع قادرا على التفكير بمعزل عن الآلة، إنه يدرك أن النص لن يتوجه إلى فئة بعينها وإنما يتحرك سريعا إلى عشرات الآلاف أو الملايين من المتلقين، وهذا يفرض عليه – إذا أراد أن يخاطب شرائح وفئات واسعة – أن يشكل نصه بفضاء عال في قيمه الإنسانية والفكرية والشعورية، بما يتيح وصول النص إلى أكبر فئة، ويسرع في تداوله وانتشاره. كما يمكنه أن يصوغ نصه مستخدما الموسيقى والصور الثابتة والمتحركة ويشكل الكلمات وينسقها بما يتناسب مع ما يروم طرحه، آخذا في الحسبان أنه خاضع في جميع الأحوال للشركات أو المواقع التي تقوم بنشر نصه على أوسع نطاق أو في نطاقات أضيق، ويمكن حجبه إذا رأت أنه يتعارض مع أيديولوجيتها الفكرية المسبقة، مما يضطر المبدع إلى البحث عن مواقع أخرى قد تكون أقل فاعلية. وهذا يجعل الفضاء التقني على اتساعه، خاضعا بشكل أو بآخر لتوجهات شركات المعلومات ومواقع البحث العملاقة، الخاضعة لدول وحكومات وسياسات وأفراد.
ولابد من الأخذ في الحسبان أن النص العنكبوتي ينظر إليه من زوايا عديدة، فرضتها طبيعة الأداة، من حيث التشابك، التفاعل بين الفاعل والعالم الافتراضي، التواصل والحوار، والأهم مفهوم التناص والتلاصّ في مقابل الإضافة والاختراق، فالنص عالمي رغم خصوصية الهوية الفرعية، أما اللغة فهي افتراضية تعتمد الرمزية بشكل كبير، والنص الأدبي تشكيل رموزي يتوغل أكثر في الافتراضية في مقابل لغة الواقع، أي أن الفن والأدب افتراض في افتراض.
والصورة تلعب دورا مهما في تحريك النص العنكبوتي في الشبكة، سواء بمصاحبة النص القابل للتحريك، أو من خلال وجودها كعنصر رئيس من عناصر النص، وهي تمتلك الصدقية أكثر من اللغة، كما تمتلك التأثير الواسع على المشاهد / القارئ، فلم تعد ملحقا تزيينيا كما في الكتاب المطبوع.
………………….
أهم المراجع:
- الكاتب وعالمه، تشارلس مورجان، ترجمة. د. شكري محمد عياد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012م
- الإبداع في الفن، قاسم حسين صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1981م
- الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي، د. شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، فبراير 2009م
- تاريخ القراءة، آلبرتو مانغويل، ترجمة: سامي شمعون، دار الساقي، بيروت، ط3، 2011 م
- المعلوماتية بعد الإنترنت ( طريق المستقبل )، بيل جيتس، ترجمة: عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مارس 1998م
- التاريخ الاجتماعي للوسائط من غتنبرغ إلى الإنترنت، آسا بريغز، بيتر بورك، ترجمة: مصطفى محمد قاسم، سلسلة عالم المعرفة، المجبس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مايو 2005م