“جنازة السيدة البيضاء”.. صراع محموم مع الذات

جنازة السيدة البيضاء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن إبراهيم

منذ المشهد الأول في رواية “جنازة السيدة البيضاء” لعادل عصمت تطل علينا نعمة الأبيض باختفاء تأثرها بصوت سيارة زوجها، بعد ذلك تضفي الشمس على روحها شيئًا من الحياة، فيما ابنتها منار، تعي أن غياب صوت اليمامة عن شقتها في القاهرة التي تطل عليها من النافذة يعني غياب علاقتها بالمكان، وغربة تطوق حياتها. هنا يغدو ارتباط شخوص الرواية بالحواس رابطا بينهم وبحسهم تجاه سردية عادل عصمت، كأنهم وبدون مباشرةً يبثون حواسهم في ثنايا النص للقارئ، حتى لا يتحسس اللغة كوعاءً خاو.

يبدو المنجز الذي قطعه عادل عصمت في روايته، هو استكمال عالمه الخاص في الريف، الذي يعلن بوضوح أنه لا يتمسح بكتابة من سبقوه، وأن مدرسته التي أسسها لا تملك صوتها الخاص فقط، لكنها تملك الضوء والخضرة والرائحة، والمتن المشيد يختلف عن سابقة، وفي كل عمل تحضر حيلة واضحة في أن تتفرد عن سابقتها، فأصبحت الحكاية أكثر من مجرد وصف إيقاعي للغة، إذ تحضر بخصوصية ما تمنحه الحاسة تجاه صياغة مناخها، في كل شخصية، كأن الراوي العليم قد ضاع صوته بين أصوات أبطال النص دون مساس بالبنية، ودون خلل، فيما تمنح اللغة شاعرية، كقصيدة تنفتح على صراع محموم مع الذات.

يدشن المؤلف الرواية بإيقاع سردية مدفوعة بشيء غامض، رغم أنها سردية قد تبدو كلاسيكية إلا أنها ما تزال تكشف عن جوهر يضفي شيئًا من الفرادة، فمنذ المشهد الأول يتبدد شعور نعمة باختفاء تأثرها بالصوت تبدد حياتها رويدًا، كما أن لحظة احتضارها في عتبه النص هي بداية مدفوعة إلي الوراء.  

نعمة الأبيض ليست نعمة زوجه عبدالله الأبيض الذي تحرر من نسل آل راضي، وأسس عائلته وتزوج من نعمة ابنة عائلة آل السعدني، لكنها نسل يعكس مفارقة احتضار نعمة الأبيض التي يتوالى تواجدها في سلالة العائلة “لا يخلو زمن لا توجد فيه بنت اسمها نعمة” في حين أن نعمة الأبيض هي من تنازلت عن مقامها لتتزوج العقيد عثمان الفقي زوجها الذي سلب حياتها، هنا تغدو نكسة عائلة الأبيض كسياق يخضع قهرًا إلي التاريخ، تاريخ محكية وقعت في السابق، كأن قوة فرد من العائلة وشخصيتها تمنحها من انتصار الأسلاف.

ترتحل ذات نعمة بخفة بين ثنايا النص مع ذوات أبنائها، فأحلامهم هي أحلامها وغربتهم هي غربتها –حين صاروا يباعدون بينها وبينهم في المسافة – كبرت الهوة التي ابتلعتها داخلها لتنبش القاع. تتداخل ذوات الشخوص داخل أغصان الحكاية، على هامش من تاريخ العائلة منذ أن زارتها الحملة الفرنسية حتى ثورة يناير، يقضي فيه التاريخ وطره من الرثاء والنكبة، هي نكبة الذوات ونكبة الأرض حين تفارق أصحابها، ونكبة القلب حين يغادر مكانه، هذا حس عادل عصمت تجاه شخوصه الذين يراهم ذروة نضجه في الكتابة وإخلاصا لقالبه الذي بعد أن سعى إليه؛ صار طينة طيعة بين يديه.

هنا وكضلع مؤسس لسرديته، يقدم سرداً خطيا للأحداث، حكاية مدينته المتخيلة، وخريطة رسمها بذاته، كحكاية تخصه وحده، هي “نخطاي” كوثيقة توضع داخل دورق حكاياته، كأن الريف من وجهة نظر عصمت ليس ذلك العالم المنغلق على نفسه، لا يملك أسئلة المدينة أو غير قادر على خلق سياقاتها، وليس ذلك البعد الهامشي في تناول القرية في الأدب من منظور العادات والتقاليد، ولكن كبرهان على أن ما كتب سابقًا هو هامشًا لذات القرى، ترى فيها السطح ولا تتورط في أن تكون صوتًا فرديًا، وأيضًا كمساهم في القضايا الكبرى؛ لا يتوغل في الثنائيات باعتبارها بعدًا مطلقًا على الحافة ولا يعي الصراعات، لكنه يفهم جيدًا أن قضية الأرض لا تسيء إليه إساءة بالغة.

إن خصوصية عادل عصمت لا تقتصر على أداة بعينها، لكنها تشمل كل ما تدركه الحواس تجاه المعاني الدفينة، فهو لا يكتب سطرًا من حياة مبهمة، لكنه يدرك جيدًا أبعادها، يرسم جغرافيتها كأنه يملك الماء والطين والطمي، ليفسح مكانًا لنهر هو أسوة لمدينة لن يزكيها بذاكرة مضطربة أو حتى يختزلها في منطق واحد، ولكن ليفسح مجالًا آخر لها في أعماله، لأن القارئ لن يبلغها إلا في نصوصه،  كأن جميع قراه ومدنه حقيقة حتى وإن نسبها هو شخصيًا إلى المخيلة، فسرديته لا تنفتح في إطار ينسب للمدينة الكبرى، بل حين يكتب عن بطل دخيل على البلدة، يبدو وصفه مغتربًا، كأن الموسيقى التي تضمنها اللغة قد خلطت بين المقامات، هو الذي يعرف جيدًا كيف ينزع قصة الحب من رجل عجوز قد نحتتها الأرض بفأسها بين تجاعيده، تتسلل اللغة بين صخرة متصدعة وقفت حاجزًا بينه وبين القلب، وأن يجعل المفردات المتجمدة فيها سائلة بين يدية، فكل أبطاله يتحايلون على الزمن كلما تلاقت نظراتهم لتظهر على شخوصهم الجامدة، تبقى الرائحة التي تعبر كل تلك المشقات قادرة على أن تصيغها اللغة على الورق.

كأنه لم يخرج من قوقعته ليرى العالم، لكنه استطاع أن يجعل العالم يراه، يعرف حكاياته، ويتبناها، هو يملك أرضًا حرة كوطن للكتابة، وفي نفس الوقت يحتفي بها. كأن تجعل الكتابة محض مكان ينتظر وافدًا يحبو إلى أفكارها ومعانيها، ويدرك بذورها جيدًا ويعرف سقايتها.  

مقالات من نفس القسم