“لسة البنات قادرة تسحر الولاد”.. ميسرة صلاح الدين يحيي شعائر التعبد في محراب المرأة بديوان كامل

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.راقية جلال الدويك*

فيما يقارب المائة صفحة من القطع المتوسط يدعونا الشاعر ميسرة صلاح الدين للاطلاع على تجارب متباينة ومتنوعة له مع المرأة .. بإهداء إلى ست بنات مصريات أظن أنهن بمعرفته بهن واطلاعه على تجاربهن الإنسانية قد أضأن أمامه شعلة الكتابة (الخالصة) عن المرأة ولها.

في افتتاح النص يظهر الرجل واضحا جليا لمرة أولى – ولعلها وحيدة- في العمل ككل .. فيكتب ميسرة مفتتحا عمله السادس:   “ماكانش عايز يروض الحيوان اللي جواه .. كان عايز يكتسب صفاته”.

ليعطينا لمحة عن الروح التي كتبت ما سنقرؤه بعد ورقة أو اثنتين.

الديوان يضم في مجمله اثنين وعشرين قصيدة بطلتها على الدوام أنثى .. وهي امرأة حقيقية أو رمزية، وذلك حسبما يتراءى للقارئ أن يفسر القصائد

للديوان سمة واحدة أساسية شديدة الوضوح وهو أنه عمل “نسوي” بالكامل .. والنسوية تعني أن يكون العمل الأدبي منتجا مؤازرا للمرأة واعيا بكيانها الإنساني العميق مخاصما كل الأنماط الثابتة للتصورات عنها .. الكتابة النسوية قد تصدر عن أديب أو أديبة .. فالعبرة بمحتوى المنتج الأدبي وليس بجنس الكاتب .. لكن لماذا حكمتُ على الديوان بأنه “نسوي” فالسبب سيظهر جليا عندما نقرأ الديوان ونستعرض أفكاره الجديدة ورؤاه المغايرة للمرأة في مختلف مواقف “الرجل” معها. وهو ما سيتم مع الاستشهاد بمقاطع مختصرة من كل قصيدة للتدليل على الفكرة. 

الديوان بالكامل عن “البنات” .. ستظل طوال العمل لا تدري أيحبهن الشاعر أم يكرههن أم أنه فقط يرنو إليهن من بعيد .. لكنك ستكون على يقين من أنهن قد ملأن قلبه وروحه وفعلن في وعيه الأعاجيب التي أدت به لكتابة قصيدة قائمة بذاتها عن كل “بنت” لفتت انتباهه أو كل قصة لبنت جعلته يتوقف أمامها بعض الوقت.

القصيدة الأولى سن اليأس .. صفعة على قلب كل فتاة مر بها العمر دون زواج .. صفعة على قلبها ستعرف كقارئ للنص أنها بالأساس صفعة على روح الرجل الذي يشعر بحالها ويفكر فيه دون أن يقاضيها أو يحكم عليها … بل بالعكس .. تجده يتوحد معها في كثير من الأحيان.

“بعد ما عدت سن اليأس بكام إحساس ..

بدأت كل سراير البيت تتحرش بيها

والمرايات تراودها ليلاتي

والدواليب عمالة تقيس في حاجات متشالة عشانها

في أكياس حمرا”

القصيدة التانية “حلق ألماظ” .. ستشعر في هذه القصيدة كيف للرجل أن يتألم من أن يتحدث لحبيبة لا تنصت  إليه .. وهي لا تنصت لأنها “لابسة حلق الماظ تمنه قد مرتبه كام مرة” .. وستتعجب أيضا أنه مازال لديه الأمل أن تسمعه رغم كل ذلك

“مابقتش بتسمعني

علشان الحلق اللي في ودانها مش انا اللي جايبهولها

مبقتش بتسمعني

بس انا مش قادر ابطل اسمعها

مع انها اصلا مبتتكلمش”

أما القصيدة التالية “متخافش م الأسد الحلو” فأنا شخصيا أحس بجرح صغير في روحي كلما قرأتها .. ربما لأنها تكشف مساحة حقيقية وأليمة في روح كل بنت .. لكن بالتأكيد لأن كم البوح الصادق الذي تحويه على لسان الرجل .. البوح الذي يعني “ابقى معي حتى لو قال لك كل شيء ألا تبقي” “

تفتكري ممكن نتدفا م التفكير في بعض

ومافيش لزوم للدفايات؟

ممكن تفكي طرحتك

وصفة بسيطة تدفي بيها القلب في اخر ديسمبر”

وفي “قصيدة ماسمعتهاش” ربما تشعر لوهلة أنها لا تنتمي للديوان ككل .. مالها والبنات ؟؟ لكنك ستجد الشاعر يذهب بكل وضوح نحو “البنات” في جملة واحدة تربط المعنى ككل وتنسج القصيدة باحترافية هائلة

“الذكريات دي كلها من حقها

وانت كمان من حقك ترجع زي ما كنت”

وبعيدا عن إبداعات المخرج الكبير صلاح أبو سيف وفيلمه “الزوجة التانية” .. في قصيدة “عود كبريت” سيخبرك الشاعر صراحة وبالتورية أنه على علم تام بأن الجسد ليس أهم من الروح عند البنت .. وأنه كذلك أيضا لدى الولد ..

“عارفة

أنا الوحيد اللي متأكد ان مشاعرك مش عذراء

بس مسامح”

وبعيدا أيضا عن أعمال “حسن الإمام” .. في قصيدة “مطرب مغمور” ستجد ميسرة صلاح الدين يتحدث عن “الراقصة” .. نعم .. الراقصة وعلاقتها بالمطرب المغمور .. الراقصة ذات الرؤية المختلفة قليلا للدنيا !!

“كان طبيعي تنشأ بينهم قصة حب

تتحول هي فيها لجناحه المادي والعسكري

ويتحول هو بعد فترة لمجرد رقم في تليفونها”.

وفي نقلة عالية جدا ومساحة مختلفة تماما يكتب ميسرة قصيدته التالية “مرحلة انتقالية” .. يرسم بكلماته الرائعة مسار ثورة  يناير كاملة في بضعة أسطر .. ويمنحك ونفسه الأمل رغم كل ما في الصورة من يأس مطبق.

“كانت عايزة تحضنني قدام عساكر الأمن المركزي

من يومها وانا مشاعري في حالة انعقاد مستمر

ومشاعري مصدقة انه ممكن يبقى فيه تغيير حقيقي”

  أما قصيدة “انعكاس” .. فهي في رأيي أكثر القصائد التي تظهر كم هو عسير وأليم عالم الرجال في عيونهم وكم أن عالم البنات بالنسبة لهم نور وفرح يستمدون منه الحياة ولو بلمحة قصيرة

“قالت لي وهي مستعجبة

امال انتو ازاي بتفرحوا عندكم؟

قلت لها

بنبص على عندكم ونخطف ابتسامة”

ويرجع شعوره بذاته كرجل باسطا ذراعيه مرة أخرى حينما يقول بثقة مفرطة قصيدته “اطمني” .. فهو في هذه القصيدة رغم تأكيده للفراق بينه وبين حبيبته لكنه يؤكد في ذات اللحظة وجوده الأبدي فيها

“اطمني

كل برفانات الدنيا مش هاتطلع ريحتي من جلدك

كل مواصلات الدنيا مش هتاخدني بعيد عن خيالك”

بعد ذلك يرتدي ميسرة صلاح الدين ثوب الشاعر بوضوح عندما يقول قصيدته التالية “اطلعي على روحي بشكولاتة” هو يتعلق ويتخبط ولا يجد تشكيلا واضحا لعلاقته بها سوى أنها تقرؤه جيدا وتحفظه جيدا أيضا .. وكم للحفظ هنا من معانٍ !!

“بلغي عني ولو قصيدة

وانتي وضميرك بقى

انا عن نفسي ماكانش عندي ضمير

لما قولت لك ان اللي بيننا هو الشعر وبس …”

تأتي بعد ذلك قصيدة “تطعيم” .. عنوان غريب بعض الشيء.. لكنه سيغدو منطقيا عندما تقرأ القصيدة .. فالبطل هنا وكأنه شتلة تقوم بتطعيم نفسها من زهور الدنيا .. في عودة نوستاليجية لمعلومات الشاعر الأولى عن النباتات .. وفي تصوير رومانتيكي للبنت كوردة أو فاكهة .. شيء جميل .. ومشبع

“اوقات بمد بعيد قوي

ولما الاقيها مالحقتنيش

باطعّم نفسي بأي شتلة

وارجعلها .. تقوللي

طعمك على طول صحراوي”.

في قصيدة “ضرس العقل” تصوير غريب للعلاقة بين الولد والبنت .. الإرادة في العلاقة غير قائمة أو هي محل شك .. وهو بحاجة لاستجماع إرادته لكنه كذلك مغلوب على أمره معها

“ايه اللي وداك عندها؟ شبعان ومش طايل

وانت اللي كل ضروس مشيئتك خلَّعت

علشان تكون سهم انطلق مابيلتفتش لحد” .

أما “الورد خانة” فهذه قصيدة تضج بالفناء في كيان الفتاة .. فالبنت في النص إما بها شيء من روح النبوة آو أنها صديقة الورد .. وهو على كل حال لا يستطيع حسم علاقته بها.. لكن هذه العلاقة دوما قائمة وعميقة بكيانه .. ولأنها غير محسومة .. فهو لم يستطع أن يكبر أو يتحقق ولا يتحرر فيها.. هو متخبط دوما.

“كان فيها عشر من تسع اعشار من ميراث النبوة

كانت عايزة تفتح محل ورد

هي علاقتنا كدا مفيهاش حاجة مؤكدة

وانا لسة زي ما انا مقلوب واسير وصغير

وباصحح نظرتي للأديان”

قصيدة “حجر جهنم” .. هذه ليست قصيدة .. هذه ملحمة .. ثلاث قصائد صغيرة مضفورة معا تخبرنا حديثا لا أعلم أنا شخصيا كيف استقام له الخروج من قلم كاتب رجل .. حديث شاق عن أعمق مساحة في نفس البنت في علاقتها بجسدها .. قصيدة ثرية وكبيرة ومهمة .. وهي تعبر مساحة كبيرة في الكتابة عن المرأة في مطلق الإنتاج الأدبي إجمالا.

“مكانتش تملك في الحياة غير جسمها .. انهار من العسل المصفى واللبن اللي ماتغيرش طعمه

مكانتش تملك في الحياة غير جسمها .. كان زي وردة خجولة مروية انتظار للفارس اللي في كفه تفسير حلمها

مكانتش تملك في الحياة غير جسمها .. كان جسمها بيبات بينهج م البكا من ظلم ايد ولسان وعين مستها أو لامت عليها وقوعها في كمين المساس

مكانتش تملك م الحياة غير جسمها .. طب ليه بقى اوقات كتيرة بتكرهه؟

في “تدليس” لسعة نار صغيرة وحارقة .. “اول ما بدأ احلم بيها المنبه ضرب… “

وفي “فرق توقيت” نداء جديد للبنت الحبيبة ألا تبتعد كثيرا .. وحرية يمنحها لها الحبيب ليس عن قدرة قدر ما هي عن عسر حال.. واضطرار

“انصحك تتقلي هدومك كويس وانت خارجة من جوايا

الناس برة برد قوي

وانا محتاج ترجعي على طول”

بعدها يناوشنا ميسرة بقوله “ازيك” .. قصيدة عجيبة هي أيضا.. يلقي السلام ويبدأ الكلام لعله يطمئن هو “ويبقى كويس” .. ويوقن أن الحبيبة ستربح كل رهان على قلبه متى أقامه للحظ أو للمحبة

“ازيك ..

انا عارف انك كويسة

بس كان لازم اسأل

مش يمكن انا كمان ابقى كويس”

تأتي بعد ذلك قصيدة “التلات ورقات” عن كل بنت سحرتها الصورة المبهرة فصدقتها ثم صدمتها كالعادة الحقيقة المريرة .. ثم عادت مرة أخرى للحلم الساحر .. وهو في خضم عذابها يرصد ملامح خداع الساحر المتخفي في ألوان وجهه الكاذبة.. قصيدة كبيرة حقا

“وهي صغيرة كان اكتر حاجة بتحبها في الدنيا هي عرض الساحر….

“ولقت نفسها قاعدة وحيدة

مبقالهاش غير الساحر

تكدبه وهي بتحبه

وتحبه وهي بتكدبه”

وفي قصيدة “ناقل الكفر” ستجد تعبيرات عجيبة حتى لتظن أن الشاعر قد اختلطت عليه ضمائر اللغة .. لكن مع تقدم القصيدة ستعرف أنه يعي ما يقول ويقصده .. وستجد “مصر” تظهر وتختفي في القصيدة دوما .. لتعرف أنه بالفعل “ناقل الكفر” .. لكنه كفر حلو .. لدرجة انك قد تتذكر بطل رواية “قواعد العشق الأربعون” ذات لمحة وأنت تقرأ القصيدة.

“كانت ماشية لوحدي

وانا كنت ماشي لوحدها ..

ويلبسوني توب اسود مش مقاسك ..

كل الحاجات حوالينا عرفت اسمها

من فيض خروجنا في الدخول من بعض”

وقرب نهاية الديوان يلقي إلينا ميسرة قصيدته “تبشير” .. ستجد في النص وجوديات وغيبيات ومعجزات .. وستجد لمحات من برامج المشكلات الأسرية .. كل هذا وارد .. لكن الأمر المؤكد انك ستجد تمردا كبيرا في النهاية وتغييرا لابد منه بعد علاقة لا تضم أي فهم متبادل بين طرفيها.

“لو قولت لك اني لسة طالع من بطن الحوت .. هتصدقيني؟

ولا هتنتهي بخناقة زي كل مرة؟

يا ترى حبي ليكي هايقدر يشفعلك اكتر من كدا

ولا خلاص انا ختمت رسالتي؟

انا هاقلع جلدي عشان امشي

من فضلك خدي ارميه في النار”

ويختتم هذا الديوان القوي الصادم بنص عملي كمبيوتري جاف تظهر فيه طبيعة عمل الشاعر والحياة اللي طغت على تكوينه الرقيق .. فالبنت طوال النص تدعو للمحبة وكيف أنها “بتستر” وهو يناهضها دوما بمعادلاته وقوانينه الجافة .. ثم في النهاية .. يمحوها من حياته محوا نهائيا

“قالت له المحبة بتستر .. قال لها س +ص= ع …

قالت له المحبة بتستر .. قال لها لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار

قالت له المحبة بتستر .. داس alt+ cltr+ del

وعمل restart

حين تقرأ الديوان ربما تنهيه في أقل من ساعة .. لكنه سيظل يدق في عقلك أكثر من الساعة بكثير .. فالنصوص متوازنة وقوية .. والفكرة حاضرة دوما في ذهن الشاعر رغم اختلاف الصور .. ومع قراءة ثانية سترى مساحات جديدة في رصد رؤية شاعر حقيقي لكيان جوهري طول الوقت في حياته .. كيان هو فاعل ومتفاعل معه باستمرار .. وطوال الوقت تتحرك حياته بحركته.

ثم ستكتشف ما اكتشفته أنا شخصيا (كبنت) .. أن الديوان عن نفس الشاعر (الولد) وانه لما رصد حالات البنات إنما كان في الحقيقة يرصد ذاته من خلالهن .. ففي كل نص هو حاضر ومؤثر أو متأثر .. وفي كل نص نجد التفاعل هو أساس الحالة الشعرية النشيطة. لذا أقول أنه ديوان ينتمي للكتابة “النسوية” بقوة ووضوح خارقين .. وأقول كذلك أنه ديوان ينتمي للكتابة “الإنسانية” .. بالأساس.

…………………………..

* دكتوراه علم النفس جامعة القاهرة. مترجمة. باحثة في مجال الجندر

 

 

مقالات من نفس القسم