قراءة لديوان “كليمونتين” لأمل خليف

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

محمد عيد إبراهيم

ولدت "كليمونتين"، كما أنجبتها إبداعياً الشاعرة التونسية (أمل خليف)، منذ خمس سنوات، لا أعرف مدة الحمل ولا ممن كان تخصيب الفكرة، لكنها عموماً ولدت شابة وكبرت خلال فترة وجيزة، لتحمل آلام جنسها، كالصليب، نيابةً عن جنسها، نيابةً عن ضمير "هنّ" بكل مشتملاته، رعت أفكاره واهتمت بقضاياه، من دون أيّ زعيق أو أدنى صراخ، تقول (في فواصل الوقت، تستلقي وتغفو، كيف أغضب لوحدي وأكتفي، بجوفي ماءٌ حارق، وفي حلقي قبيلةٌ من النساء، ولعناتُ السماء على الكلّ)

 

 

قد نعزو المنحى الشعريّ في ديوان (كليمونتين) الصادر في دار “هنّ” بالقاهرة، 92 ص، إلى ما يُطلق عليه “الأدب الاعترافيّ”، ممثلاً في شاعرتين كبيرتين، كأبرز من كتب فيه: سيلفيا بلاث وآن سكستون؛ حيث لا تُكتب شكاوى الأنثى المهضومة، ولا الجحيم الذي قد يعيش فيه بعضهن، فقط رحلة باطنية، إلى طبقات الداخل، إلى فكّ مغاليق الأغوار، بمفاتيح لا مرئية، رحلة تنزع قشرة الألم للوصول إلى منبع الألم، لكن لا لوضع مراهم ومساحيق، بل لتعرية ما هو تحت الجلد، من أفكار بالية، ومجازات عفا عليها الزمن، هنا: (امرأة خضراء، تطقطق أغصانها: كسرتَني، يا أبي).

ربما يكون المقطع (26) من أبرز مناحي الديوان، فهو يتحدث عن عشر نساء: المرأة الأم، المرأة الهشة، الصلبة، المنهمرة، المتوهجة، الخضراء، المحترقة، الطفلة، العجوز، الفارغة من كل شيء. ونرى في باقي الديوان صوراً وأشباهاً ونظائر من تلك النساء، محورهن (أنتمي إلى الصرخة الأولى، إلى الشَعرة الأخيرة، خلف الستار، إلى الأصيص المتروك في زاوية، بالغبار وزهور الزينة)، وشكايتهن (مع أني امرأة سيئة، إلا أني أستحقّ القليل من الحبّ)، وشهقتهن (هنا هواء سام، نريد رَحِماً جديداً: قلبُ امرأةٍ طريّ وناعم ونيء)، أما مصيرهن (أضعتُ نفسي، وكان غروبي طويلاً، وحول عنقي حبلٌ متينٌ من الذنب).

 

لا تدعو كليمونتين إلى “نسوية” جديدة، ولا تشمّ فيها حتى “نسوية” قديمة، بل ربما هي روح من الفيلسوفة الإنجليزية جيرمين جِرير، صاحبة كتب (المرأة المدجنة، الجنس والمصير، أبي لا نكاد نعرفك، المرأة الكاملة)، تدعو جِرير، مثل كليمونتين، إلى الحرية، لا المساواة بالرجل، وقوة المرأة لا تُقاس بفاعلية الرجل، بل تؤكد الاختلاف، والوعي بالذات، لتحقيق الذات، فتحرير المرأة يعتمد على تحديد أولوية هذه القيم، وتقرير مصيرها في النهاية.

تتجلّى كليمونتين في حالات عدة: تلك المصابة بفقر الحياة، والعالم كله فوق صدرها يَعِدها الحبّ/ عند طبيب العيون، تكشف عماءه الكثيف/ من خوفها تلقط الحبّ كأرنبَ في حقل ألغام/ يصخب الحزن في ملل التفاصيل/ لا تنتحر بل تهدأ وهي تأمل في جريمة، تستحق العقاب، تستحق الندم/ السأم تحت جلدها يتبختر، كدودة تزحف/ لن تركض خلف أشباحٍ، فالوتر الأخير في حبال صوتها، كلمة: أحبك/ بنهاية كلّ قصة حبّ، ترقص/ الرجل كالنرد بستة احتمالات، والمرأة بقلب أزرق/ المرأة تمشي بالعتمة وتشرب الصمت ولا تشرَق/ ستنمو شجرة من ماء ودموع، تُزهر فيها الأجنة الميتة.

 

قد لا ترضيك احتمالات الشعرية الجديدة، التي يعكف عليها هذا الجيل الجديد من الشعراء، فهو لا يعتمد أبرز ما في الشعر: المجاز، بل السرد فقط، سرد أبيض بلا زواق، بلا حليّ، سرد يأملون أن يدخل روحك بلا استئذان، فجأة، كالمِشرط، سرد عاطفيّ نوعاً حِكائيّ غالباً حياديٌّ أبداً، وثمة حسّ دراميّ في العبارة، والتاريخ نفسه علبة مفاجآت، كما في ديوان (كليمونتين)، الحياة هنا كالحياة خارج الديوان، تمشي بطيئاً وعاديةً، لا تتفاصح ولا تلبس أقنعةً، بوحشتها، بيأسها ووجع مفاصلها، بالبكاء، كأن بداخلها طفلاً يموت، القصيدة كلها ضحكة ساخرة من القلب، أو القبر، تتمنى لو (سيري يا ريحُ عني، لعلّ الجمرَ يذوي، ويذوي الصمتُ). 

مقالات من نفس القسم