“طي الألم” وتحطيم الجدار الصلب للجسد

طي الألم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ياسمين مجدي

 في السطر الأول تخبرك أنها بنت جنتها على الأرض.. فنواصل قراءة “طي الألم” للكاتبة هالة البدري لمعرفة سر الجنة. ما يدهش أن الرحلة ستكون رحلة للاحتفاظ بتلك الجنة داخل الكتاب، ولتدوين السعادة كي لا نشك أنها كانت وهمًا أو حتى لم تحدث يومًا. 

تستوحي الكاتبة عملها “طي الألم” من تجربة ذاتية لفقدان الزوج، لذلك يصعب تسميتها رواية، نصاحب فيها جملة من المشاعر، خسارة من تحب هي خطوتك الأولى لتعيد إحياءه من جديد عبر الكتابة. يصبح التأمل في تفاصيله وروتينه اليومي وسماته النفسية سلوى عن الأيام الفائتة وعن زحام الحياة والعمل واللقطات التي لم نحصل عليها معًا أثناء حياته.

رحلتا الكتابة والألم

إنها جنة الأرض التي تتحقق رغم تجارب الألم والفقد والصمود ثم الذكرى. ربما الحب هو أحد طرق الجنة الذي كتبت لأجله المؤلفة هالة البدري هذا العمل، فالألم كلمة خرافية لا تعبر عن مشاعرنا وعما نحسه بداخلنا. لذلك كتابات مثل “طي الألم” تكشف عن لحظات الوحدة والخوف، عن هزة القلب والكوابيس والحاجة للصمود أمام الجميع والقرارات الخطرة للنجاة. الكتابة عن الألم تضعه من عالم المعاني الخرافية إلى عالم الأرض، فيتجسد في كلمات تملأ القلب.

يضعنا العمل في مواجهة لحظات شبيهة عشناها، مثل حاجة الأسرة للتبرع بأشياء الأب بعد موته، ورفض الزوجة ذلك، واحتفاظها بملابسه، فربما لو غابت متعلقاته ظنت أنه لم يكن هنا يومًا، لأنها كما تقول: “أتوهم أننا مازلنا نكمل المسيرة بجميع أعضاء الرحلة”.

توازت رحلة الكتابة مع رحلة الألم.. فاستعملت المؤلفة الكتابة لتعيد تفكيك الحدث وتفسيره، فتحلله بعد عدة سنوات من وفاة الزوج، فنجدها تسأل في النص أسئلة عن زوجها.. هل  كان سعيدًا هل كان منزعجًا؟ “هل كان يسرق التفكير وحيدًا حتى لا يؤلمني؟” ولا تحصل بالضرورة على إجابات. في الوقت نفسه تحتفظ الكتابة بما جرى، لأنها ترفض ضياعه من الذاكرة.

بالتوازي قدم الكتاب رحلتين، الأولى هي تجربة الكاتبة مع زوجها ورحلة مرضه ووفاته، والرحلة الأخرى في فصول متوازية هي رحلة قامت بها الكاتبة بعد عامين بعد وفاته إلى سويسرا من أجل الكتابة في قصر منعزل تملكه مؤسسة تستضيف الكتاب حول العالم.

حتى الأقوياء يتألمون

“أحتاج إلى الانفراد بنفســـي· إلى لقاء يجمعني به وحيدة، إلى الإعلان عن الألم الذي لا أستطيع الإعلان عنه بصرخات تشق فضاء الكون”. امرأة تتألم في صمت دون إعلان ذلك، لأنها تحمل على عاتقها مسؤولية أسرة، تظن أن صمودها سيمنح الأسرة كلها قوة لتحمل الموقف.

حتى الأقوياء يتألمون، لذلك يعتبر كتاب “طي الألم” رحلة لتحطيم الجدار الصلب للجسد، الذي يوحي بالصلابة والقوة ويسمح لنا بالدخول إلى القلب الهش حيث ينام فيه الألم مستريحًا.

ذكرني العمل بجملة قالتها الكاتبة صفاء عبد المنعم، وهي روائية فقدت زوجها الشاعر مجدي الجابري مبكرًا، وربت أبنائها بصمود وواصلت الطريق بنجاح، وهي تتحدث عنه باعتباره موجود، حتى أن روب زوجها وحذاءه تضعهما في الغرفة دائمًا ليكونا في حيز رؤية بناتها.

قرأت فكرة الإنكار نفسها لدى هالة البدري في “طي الألم”: “أقنعت الأولاد بألا نذكر أباهم أبدًا بالفعل الماضي، أو باســتخدام (كـان)، وأن نتحدث عنه باعتباره موجود بيننا وألا نغفل ذكره أبدًا” عكست مثل تلك الجملة فعل المقاومة التي تتمسك به الكاتبة لكي يظل الغائب حاضرًا بقوة الفعل المضارع وبقوة استحضار الحكايات.

وقد استعملت الكاتبة هالة البدري الفعل المضارع: “أتذكر، يحمل، يسافر” وزمن الأفعال هذا يوحي بالتجدد والاستمرار، كأن حدث مرض ووفاة زوجها لا يزال حاضرًا ويجري الآن وهي تعيشة من جديد أثناء كتابته، ولا تحكي عن زمن رحل.

الذاتي مرآة للمجتمعي

لا تشاركنا الكاتبة حياتها وحدها، لأنها تمنحنا نافذة اجتماعية على المجتمع، فحين تسرد تفاصيلها الخاصة تقدم عبره المشترك بين كثير من الأسر المصرية، مثل تخزين مقتنيات النيش، واعتناء الأب بسيارته ورفضه أن يقودها أحد.

تتبدى ملامح التاريخ الاجتماعي والسياسي مثلاً وهي تروي عن توقيت زواجها، وكيف منع جمال عبد الناصر الاستيراد، فكشفت أمها عن مقتنيات مستوردة خزنتها من رحلات سابقة للخارج، فاستفادت بهم في تأثيث منزل الزوجية حينها.

بالعودة إلى العنوان “طي الألم” نجد الكاتبة قد رسمت تصورًا لكائن نرى أفقه الخارجي، بينما في عمقه بالداخل طيات، مطوية على الألم، فمن الخارج هو مجرد خبر موت شخص قريب، ومن الداخل هو أيام وكوابيس لا يعرفها غير من فقد.

يعترف “طي الألم” باللحظات التي يخبئها الانسان طويلاً بداخله، فتقول الكاتبة: “قد نجحت في إخفاء آلامي عنهم بمهارة اعتدتها طوال العمر”، وأمام هذا الصمت الطويل قررت أن تخرج عن صمتها في هذا النص، وتعترف: “أنا أجتر ذكرياتي المؤلمة وأكتبها معًا”.

للحظات ترددت في الكتابة.. فالكتابة عن الوجع موجعة.. أحدهم سألني وأنا أكتب المقال هل تبكين؟ تفاجئت أن الآخرين يرون جمل النص وأحداثه تنعكس على وجهي. أجبت: لا، إنني فقط أحس الكلمات لأعبر عنها على الورق. حسمت ترددي وكتبت، فتجارب الألم تكشف الإنسان في لحظات صموده بهيًا ولديه ما يضيفه في كل لحظة.

مقالات من نفس القسم