“سقوط الصمت”.. مشهدية تصنع رواية ثورة يناير

سقوط الصمت
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فرج مجاهد عبد الوهاب

مدخل

مّن يفتح ذاكرة أية أمة من الأمم، تفاجئه وقائع لأيام خالدة، لم تمحوها الأيام، ولم يطوها الزمن، ولم تتجاوزها تحولات الأمكنة، لأنها عالقة في الحافظة الإنسانية دليل وعي، وفي الذاكرة المرجعية مورد عطاء لا ينضب ماؤه، ولا يتوقف، نهل منه مبدعو الأمة عناصر الإبداع الذي سّجل لها وحولها أساطير سيمفونيات الصبر والظفر، الكفاح والنجاح، الكرّ والفرّ.. تناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل.

وفي تاريخ مصرنا القديم والحديث أيام غرّاء لوقائع فخر واعتزاز، كانت من صنع الإنسان المصري، ابن الحضارة المندمجة مع التاريخ المشرق منذ أكثر من سبعة آلاف سنة.

ولعل ثورة يناير التي أنهضت شباب مصر من أجل العيش والحرية والكرامة بمليونياتها المنتشرة في معظم ساحات المدن المصرية وميادينها، والتي أدت إلى تنحية الرئيس مبارك بعد أكثر من ثلاثين سنة من حكم الفرد الذي سلب الشعب حريته، من أهم الوقائع المصرية الحديثة وأبرزها، لأنها حالة نادرة وخاصة جداً، لم يفرز التاريخ ما يوازيها، ليس لأنها ثورة العلم والفيس بوك والتواصل الاجتماعي فحسب، بل لأنها ثورة شبابية سلمية تحوّلت بسرعة البرق إلي ثورة مجتمعية كان الناس جميعهم حاضرين بشكل أو بآخر في ميدان التحرير، ولذلك شكلت مورداً ومنهلاً لكل أشكال الإبداع، وعلى مستوى الشعر والنثر حتى شكلت أدباً خاصاً حمل سمات الثورة وخصائصها وما أفرزته من إبداعات فنية، من الممكن أن يُمنح ذلك الأدب مصطلح أدب ثورة يناير.

وإن كان الشعر الذي واكب الثورة منذ ساعاتها الأولى مشكلاً الناقوس الذي يوقظ النيام،  وينبه العقول، ويحفز النفوس ويستفز المشاعر، فإن القصة والرواية لم تكونا بعيدتين عن هذا المنهل الثوري المبرق والمشع بدماء شهداء الثورة، فأفرزت الثورة كماً كبيراً من المنتج السردي المعني بأيام الثورة ووقائعها، تناولها كل مبدع من وجهة نظره الخاصة، أو من خلال معايشته لأيام الثورة والمشاركة الفعلية بيومياتها، وكل ذلك يشكل إضافة قوس قزح المنتج الذي ظل يدور حول أحداث ميدان التحرير منه تنطلق وإليه تعود.

ومن أبرز الروايات الإبداعية التي تناولت وقائع أيام الثورة بأسلوب تناولي إبداعي جديد ومتطور ما أبدعه الروائي “عمار علي حسن” في روايته المكتوبة برهف الإحساس المتدفق حيوية، وشغف الغوص في ما بيْن سطور أحداث الثورة الطاهرة، المعلنة والمستترة غير المعلنة، متقاطعاً معها في ومضات إنسانية ومجتمعية، ومن خلال عالم ساحرٍ من السرد الذي بدا وكأنه عالم أشبه بالحلم، حلم الإنسان البسيط لرغيف نظيف، ولشربة ماء غير ملوّثة ولمقاه لا تضم العاطلين عن العمل، أو أصحاب الشهادات المركونة في دواليب الملابس المهملة، ولتكون روايته “سقوط الصمت” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2013م سقوطاً حقيقياً وواقعياً لما ينوف على ثلاثين عاماً من القهر والذل والفساد المتفشي في كل ركن من أركان الدولة.

البنية الروائية

بعد الإهداء المرفوع إلى الفتي النحيل الذي كان الجوع يأكله حين مدّ رأسه أمام صدري ليأخذ رصاصتي عني، فنجا سابحاً في دمه إلي شاطئ الراحة والخلود، وتركني أموت كل لحظة من فرط الدهشة والوحشة واللهفة، وأنا ألملم بعض أحلامه وآلامه المنشورة فوق رؤوس المحتشدين بالميدان الفسيح، وأرشفها على الورق محاولاً أن أرسم بعض معالم الطريق الذي سلكه بخطاً ثابتة، وهو يوزّع المسّرات بيمناه، ويهشُ الأوجاع بيداه. (ص5)

الإهداء على طوله يضعنا مباشرة أمام مفتاح الرواية وعتبتها المرفوع له الإهداء، ذلك الفتي الذي لعب دوراً بارزاً ومهماً في يوميات ميدان تحرير، ثورة الخامس والعشرين من يناير.. هذا الفتي النحيل الذي قتل الليلة الشهيد حسن عبد الرافع، وأن يعلن المؤلف موت بطله الرئيس من أول جملة في الرواية، هذا يعني أنه أخذ منهج القفل والمفتاح، أسلوباً لتناول الرواية التي تبدأ من النهاية ثم تعود إلى البداية التي تضعنا أمام الأحداث والوقائع التي أدت إلى قتل بطل الرواية وبهذا الشكل السريع الذي يفتح الشهية على الإثارة التي تجمع خيوط السرد في حبكة من حبكات السرد، وهي حبكة الحدث التي تنتظم حول المشكلة الأساس ، موت أو قتل حسن عبد الرافع، ليبدأ بعد ذلك حل المشكلة وتحديد أسبابها ودافعها ونتائجها ، وهي محكومة بالسؤال الذي يتكرر دائماً في نصبة الرواية: ماذا حدث بعد ذلك؟

وبدورنا نطرح السؤال نفسه : ماذا حدث بعد قتل حسن عبد الرافع الذي رآه الناس مسربلاً بدمه، يحملقون في وجهه الساكن؟

تنكشف  الأحداث عن روايات من يكره الشاب فوصفوه بالعلماني الزنديق ، ومن أنه كان عميلاً لأجهزة الأمن، قالبيْن الحقائق بينما هو من أهم الناشطين في ثورة يناير و”حين انكشفت هوية  القتيل انفتح باب الأسئلة، ضرب الواقفون أخماساً في أسداس، ثرثروا بما في وسعهم أن يلقوه في الآذان المرهفة ثم عادوا إلى نقطة الصفر، ووصلوا إلى السؤال الذي تتناثر إجابته في الجهات الأربع: مّن قتل حسن عبد الرافع؟ مَن ؟ مَن؟

أما الإجابة لم تكن واحدة لأن كل فريق تكهن القاتل بعضهم أشار إلى فلول الحزب الحاكم، وبعضهم الآخر، قال: حسن كان ينتقد بشدة التيار الديني المتطرف وطالما وصفهم بأنهم لصوص الثورة، وآخر وضع قتله في رقبة الجنرالات، وأشار آخر لأنه عرف أكثر مما يلزم وقالت امرأة: حسن كان يهاجم الفاسدين الراقدين على أكوام من المال الحرام ولابد أنهم تخلصوا منه ليستريحوا (ص14)

هذا كلام أهل الشارع وتأويلاتهم المختلفة، أما النظام وأجهزة الأمن لا شيء يعنيها من قتل شاب ثار ضدهم ليتحوّل مقتل حسن عبد الرافع فعل السرد وبنية القص الذي قام على المرجعية التذكرية التي يفتح أبوابها المقتول الشهيد حتى يصبح مركز دائرة الحدث منه تنطلق الأحداث وإليه وإلى ميدان التحرير تعود وتتمركز، والذي يعد وحداً من الذين جعلوا المكان يموج بناس يرفعون قبضاتهم ويدقون الهواء فيسمعهم العالم بأسره.. ليتحرك النبض الروائي من خلاله بالدرجة الأولى وتتنامى الأحداث وتتفاعل لاسيما حين يملك الفلاشة التي تحوى كل ما تيسَّر له من معلومات ووثائق وأسماء شكلت عنكبوت خيوط المؤامرة ” كل هذا يا أولاد الأفاعي .. ملايين الكلمات وعشرات الآلاف من الصور تفضح كل شيء، وترفع الأقنعة عن الوجوه القبيحة (ص23)

امتلاك حسن لهذه الفلاشة شكل عنصراً من عناصر الصراع الدرامي في بنية الرواية فالشاب مقتول بظروف غامضة وتحقيقات الشرطة ملأت الصفحات من دون أن تسطع الحقيقة أو حتى بين أي خيط يهدي إليها، لا شيء سوى رسالة أرسلتها صفاء عليوة على جواله، تقول: اهرب يا حسن، الأوغاد وصلوا إلينا، حاول أن ترجع إلى الصعيد، أنا  سألحق بك.. بسرعة يا حسن من فضلك بسرعة، فساعات قضتها في نسخ ما على الفلاشة من معلومات تسعون جيجا كاملة تحوي ملايين الكلمات وعشرات الآلاف من الصور تم التقاطها في أماكن محددة، نسخ مصورة من مستندات عن الفساد حصل عليها من صديق له يعمل في الجهاز المركزي للمحاسبات، أشكال جهنمية لتجارة غير مشروعة، مخدرات وسلاح ورقيق أبيض، عروق ذهب نائمة في أحضان الصخر وآبار نفط … صفقات أمنية وسياسية تحت الطاولات وفي الغرف المغلقة.. صناديق عامرة بالمليارات من قوت الناس ولا يعرف عنها أحد شيئاً (ص102)

كان حسن وإلى جانبه صفاء وقد فغرت فاها، واكتست ملامحها بحزن وانزعاج وعندما سألته عن المصعد قال: ضابط مخابرات متقاعد أراد أن يفضحهم، فأرسلها عبر وسيط من وسيط، والأخير الذي قابلني لم يخبرني باسم الضابط واكتفي بأنه فاعل خير خائف على البلد.

هذه المعلومات كانت كفيلة بقتل من يمتلكها كائناً ما كان.

وبالتالي فإن مقتل حسن إضافة إلى الأحداث التي أفرزها الصراع بين المتظاهرين وعناصر الظلام والنظام من الأمن بتسمياته المرسَمْ الفني لبنيه النص الروائي الذي قام على 662 صفحة موزعة على 75 فصلاً ضمت ما يربو على مئة شخصية ما بين رئيسية وثانوية ومحكي عنها لتروي عن الأحداث والصراعات خلال يوميات الميدان التي أدت إلى كمٍ من الشهداء والمصابيْن وبالتالي أوصلت الحالة إلي تنحية الرئيس ليبدأ صراع آخر بسبب الإخوان الذين سرقوا الثورة واحتلوا مراكز القيادة لتضع الثوار أمام إحالة جديدة دفعت إلى صراع آخر استمر زمناً حتى عادت الأمور إلى مجراها الطبيعي وليتضاعف محور الصراع في بنية الرواية التي عملت وبقوة على الاهتمام بكلٍ من:

1-الزمنية التي شملت يوميات الثورة منذ إعلانها وخروج المتظاهرين ومطالبتهم برحيل النظام وحقهم في العيش والحرية والكرامة حتى إعلان التنحية، ومن بعدها توقفت حركة الزمنية الثورة لتبدأ مرحلة التأهب والترقب، ثم تعود حركة الزمنية الثورية بعد استلام الإخوان وخروج المتظاهرين رافضين حكم المرشد وتستمر المرحلة حتى انتصار ثورة يونيو وإحلال العدل وفتح آفاق زمن جديد حافل بالعطاءات المثمرة.

ومن هنا كان للزمن في بنية الرواية دور مهم لارتباطه بزمن الخطاب الروائي من منطق لا وجود للحكاية بأحداثها وشخصياتها وأمكنتها خارج الخطاب الذي يرويها وهو منطلق من ضبط العلاقات بين زمن الأحداث وكيفية سردها من حيث الترتيب والمدة الزمنية ودرجة التوتر.

وفي هذا المستوى نجحت بنية الرواية في سرد ما حدث فعلاً في كل مرحلة من مراحل الحركة الزمنية الثورية باعتبار أن الراوي في كل المراحل السابقة كان يروي أحداثاً فعلية مرتبطة بزمن محدد تتصل بالأفراد المجتمعين في ميدان التحرير، وعلي درجة من التحديد والدقة لأن الراوي هنا، وبكل بساطة، ينهل مادته من فترة زمنية تاريخية معروفة الأحداث والشخصيات.

2-منطق الأعمال التي كان يمارسها كل من.

أ-الشباب المتظاهرين بشعاراتهم ومطالبهم وحركتهم داخل الميدان.

ب- الموقف الآخر المجابه وما قام به من أعمال عنف وقنص وضرب واعتقال وهجمية تجلت في أبشع صورها يوم جمعة الجمل.

تنطلق أعمال الفريقين على اختلاف أسباب ونيات كل منهم فإنها فاعل تحريض قوي في دعم بغية الرواية في بنائها الدرامي التصاعدي.

3-الوظائف التي قام بها كل من:

أ-حسن عبد الرافع في وظيفته المحددة في إشارة الشباب ودفعهم إلى الغضب والتنوير من أجل التغيير والتي أدت إلى اغتياله.

ب-وظيفة كل من رجال الأمن وبعض ضباطه المتهمين باغتيال حسن واعتقال الشباب وتعذيبهم في السجون والمعتقلات.

ج-وظيفة المقربين من النظام ودفع الأموال واستئجار البلطجية ودفعهم للاعتداء على الشباب وضربهم.

د-وظيفة بعض شيوخ الإخوان المفسدين بين المتظاهرين ينشرون أفكارهم ويسوّقون أنفسهم حتى تمكنوا من سرقة الثورة واعتلاء مناصب الدولة.

هـ- وظيفة الجيش المصري الوطني الذي نزل إلى الميدان لحماية المتظاهرين دون التدخل معهم أو الصراع بينهم فكان العين الساحرة والعقل اليقظ حتى قام بالمبادرة وحسم الأمر وأنهى حكم الإخوان ومرشدهم، ليحضن النص الروائي الطويل في بنيته السردية الوظائف السابقة دون خلل أو ملل.

مقدمة إحالة فنية وتقنية في ضبط الوظائف ودفعها إلى دعم البنية الروائية الضامنة لأركان كل وظيفة سردية من الوظائف السابقة.

4-العلاقات القائمة بين الشخصيات التي توزعت بين:

أ)شخصيات إيجابية ضمت القبطي إلى جانب أخيه المسلم.

ب) الشخصيات السلبية المتمثلة بالنظام وأعوانه من التجار والفاسدين.

وأصحاب النفوذ ومن ثم ضابط شرطة أمن النظام وهي شخصيات فاعلة ومنفعلة قدّموا نظرية كاملة للبنية السردية حيث كانوا بمواقفهم الإيجابية والسلبية حاضرة مستفزة مستنفرة حاضنة لدورها في بنية الرواية الفاعلية، ومن دون أن تهمل دور المكان ووظيفته في احتضان الشباب الثائر وهذا ما يصلنا إلى قيمة العمل الفني والتقني في إبراز قيمة بنية روائية في تتابع زمني.. مكاني، مالي ومرجعي وظيفي ودال متصل بمختلف الدلالات التي أوصي بها سقوط الصمت لتغدو الدلالات واضحة بينة في فضاء وظيفي معني بتلك الجمالية الواقعية بثوريتها واستشهاد شبابها ومحاربتهم للطغيان الفاسد والمفسد حتى تحقق للشعب ما أراده وانتفض ثائراً من أجله.

بنية الشخصيات

لابُد من الإشارة أولاً إلى أن الشخصية مع الحدث تشكل عمود الحكاية الفقري، ولذلك تُدرس في إطار الحكاية في إطار الطابع النفسي، لاسيما في الراوية الواقعية التي تشكل الشخصية فيها منطلق التصور النفسي للشخصية التي يقوم السرد عليها لتتضافر في فضاء أدوار ثلاثة هي:

1-الفضاء الفاعل وفيه ينظر إلى الشخصية من خلال:

أ-المعتدي: رجال الأمن وأعوانه.

ب-الواهب نفسه من أجل قضيته – حسن عبد الرافع والشهداء

ج-الشخصيات المساندة سواء الرئيسية أو المحكي عنها.

د- المرسل الراوي الذي له علاقة ما بشخصية المؤلف سلباً أو إيجاباً.

هـ- ما له علاقة مباشرة بـ الذات — الموضوع — المرسل – المرسل إليه وأنماط علاقة التواصل بين البطل والمعارض السلبي والإيجابي، وما ينشأ بينهما من صراع يدعم حبكة بنية النص الروائي.

2-الدور التمثيلي ومن خلاله ينظر إلى من ينهض بهذا الدور –حسن – الثوار – المعتصمون من رجال ونساء من العاصمة وخارجها.. مسيحيون ومسلمون.

3-الدور الفرضي وفيه يحدد طبيعة الدور الاجتماعي: الثقافي الوعي الثوري – الإحالات النفسية لتحوّلات الشخصية وبهذا الوعي الذي أدركه مبدع سقوط الصمت جعلنا نسلم بأن الشخصيات بصورة عامة ، وبالشكل الذي عمل عليه في بنية روايته على أنها نظام فني ينشئه النص السردي تبدو في بداية ظهورها صاحبة هوية عامة أي هي شكل أو بنية عامة وكلما أضيف إليها خصائص معينة- سلبية أو إيجابية – أصبحت الشخصية غنية، مرغبة من دون أن تفقد هويتها الأصلية وقد أشرنا إلى أن سقوط الصمت نهضت على ما يربو على مئة شخصية منها شخصية بؤرية واحدة لأن بؤرة الإدراك تجسدت فيها، فنقلت المعلومات السردية التي تمثل وجهة نظرها ومن يسير خلفه من ثائرين ومتحمسين كان حسن عبد الرافع يمثل هذه الشخصية البؤرية أفضل تمثيل بصفتها المتصلة بمعظم مكونات العالم المترامي في ميدان التحرير الذي يشكل مرئيات العالم المصور الذي تقع تحت طائلة إدراكه الواعي والمثقف.

ولذلك كانت شخصيته التي تبدت بعد اغتياله وعن طريق التذكر المرجعي لكل من عرفه وصادقه: مرآه عاكسة لكل ما يجري وهي ذات وعي واضح ومدرك لاسيما بعد أن وقعت تحت يديه الوثائق التي تدين النظام من رأسه إلى أصغر رتبة في أجهزة أمن النظام.

بالإضافة إلى الشخصية المبئرية التي جسدها الشهيد حسن عبد الرافع فقد نهضت مجموعة من الشخصيات الرئيسية المساندة للشخصية الرئيس ولما كانت الرواية تقوم على فصول وصلت إلى خمسة وسبعين فصلاً فقد خصص بعض الفصول لتقديم كل شخصية على حدة ثم قام بجمعها في المتن الروائي بشكل صحيح ومنضبط ولعل من أهم الشخصيات:

-شخصية صفاء عليوة المرتبطة بحسن بقصة حب نبيلة أرسلت له الرسالة التي تحذره وتدعوه للهرب، يلتفت إلى صفاء فيملأ روحه من روعة حسنها، ويهمس:

أحبك يا يمامتي

متى يجمعنا عش هادئ؟

يعيد بصره إلى البناية التي تطعن الفضاء ويقول:

شقة في هذه العمارة تحل مشكلة ألف شاب مثلي، الحكومة تبيع لنا متراً في شقة عادية التشطيب بألف وثمانمائة جنيه وبينما تعطي رجال الأعمال متر الأرض بنصف جنيه فقط.

نظرت في عينيه ملياً وهمست: سننزل سوّياً يوم 25 يا حسن نموت معاً أو نعيش معاً (ص105)

ولدت صفاء يتيمة الأب فصار أباها، وماتت أمها بعد أن عرفته فلم تشعر باليتم ، انطوت سنين عمرها مغتربة عن صراع من حولها الرخيص على الفتات، فأصبح صديقها الوحيد، وكأي بنت طالما راودتها أحلام عن فارس همام يخطفها على حصان أبيض تمثلته وتخيلته ونادته منذ أن سرت في أوصالها دفقات النشوة المبهجة، وها هي تحترق معه في بطء تتنظر ماءه ليطفي نارها، معذبة هي بالحلال، لكنها معتزة به، لا تتصور أن يسترخصها أحد، حتى ولو كان من تهبه مشاعرها الفياضة كاملة دون نقصان.

غمست صفاء عينيها في النافذة، ورأت النور يغمر جنبات الأرض ويسربل أشجاراً تجري.. وبيوتاً يملأ بؤسها عيون الناظرين (ص130)

على الرغم من المساحة السردية الضيقة التي احتلتها صفاء، فإنها لا تمثل الصوت النسائي في ميدان التحرير فقط، ولا إلى دورها الوطني في حفظ الفلاشة ومقاومة عسكر النظام، بل كانت بالإضافة إلى ذلك كله الوجه الرومانسي الثوري المرتبط بحسن كحبيب والشعب كقوة والإرادة كحق وأمل.

 ويمثل البلطجي سباعي الدغل في الرواية الجانب السلبي الذي كان عمله مقاول بلطجية يقصده الخونة وعملاء النظام ليهاجم وجماعته بالأجر الثوار.

-هل سمعت عن الخونة العملاء المعتصمين في ميدان العباسية؟

-طبعاً

-عاوزين نربيهم، أصل أهلهم أهملوا في تربيتهم.

-كيف؟

-زحفوا على الميدان، ويريدون حصار وزارة الدفاع.

-الجيش كفيل بهم.

-لا يجب للجيش أن يدخل في مواجهة ضد الشعب، وهناك من يفضل أن نتعامل نحن معهم.

-أنتم..؟

-نحن الذين كنا في كل مكان… في ميدان العباسية .. أمام ماسبيرو وعند مسرح البالون، وفي شارع محمد محمود، وفي أي مكان وقعت فيه مواجهة، كنا نحن حائط الصد، أصابعنا مرسومة على أقفائهم، بعضم مات بين أيدينا، وبعضهم لا يمكنه أن ينسي ما فعلناه به، خاصة ولد اسمه حسن عبد الرافع، أنا شخصياً لا يمكن أن أنساه، فقد ضربته بنفسي ورميته إلى جانب الحائط وأنا موقن أنه فارق الدنيا، ثم فوجئت بعد أيام يطل علينا من التلفزيون.

-ومن يدفع لكم؟

-جهة لا نعلمها ولا نريد، الواسطة بيني وبينها شخص اسمه عاطف الشطنوفي، جاءني هنا، حدد مهمتي وأعطاني أجري وذهب وكلما احتاجوني يأتي هو.

عاطف الشطنوفي شخصية سلبية بلبس ديني ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين الذين لا يعول عليهم أحد في المظاهرات الكبرى، إنهم يؤمنون بالإصلاح البطيء المتدرج ولا يوجد لفظ ثورة في كتاباتهم أبداً (ص97)، ولا شيء يضاهي كراهية حسن عبد الرافع في قلب عاطف الشطنوفي.. يجلس أحياناً مع نفسه ويتخيل- حسن- واقفاً أمامه عارياً ويداه مربوطتان إلى سلسلة معلقة في سقف قبو خفيض وحين جاء الشطنوفي إلى القاهرة لم يكن لحسن ذكر ما كان الشطنوفي عامل علاقات عامة في مبني مجلس الشوري وكان طموحه يأخذه إلى أبعد من ذلك ، يتخيل نفسه جالساً مكان ممدوح البرماوي صاحب أكبر منصب في المكان وكثيراً ما كان لمن يقصده بطلب ما.

-الرجل الكبير لا يثق إلا في العبد لله وأرافقه كظلله ويهمس أحياناً بأسرار غرفة جهنم التي جهزها سيده العجوز القصير وزملاؤه في مبني الحزب الحاكم للتعذيب والإخفاء وعندما تخلي الرئيس هام على وجهه في الحقول.

وحين تأكد له أن مخدومه أبرم صفقة مع السادة الجدد قبل أن يترجل عن بغلة العرش التي ركبها ثلاثين عاماً فقرب منه عاطف ومنحه المال ليدفع البلطجية لتنادي بعودة الرئيس.

وبالمقابل كان الشيخ رأفت المغازي الشيخ الإخواني الذي كان يدون ما يراه مناسباً للدرس الذي سيلقيه على آذان تصغي إليه جيداً، يتساءل: ما الذي أوقعني في بحور السياسة وعندما جاءه مقتل حسن ضيق عينيه وسحب شهيقاً عميقاً، وتاه رأسه في مليون رأس كانت مرفوعة في ميدان التحرير وضع مغازي يده فوق عينيه ليصد الشعاع المبهر وقال:

-جاءني خبر أن الطاغية يركب طائرات الأباتشي التي عبرت قبل قليل، يقال إنه أنكر أن الميدان ممتلئ بالمتظاهرين وظن أنها لعبة إعلامية لإسقاطه، وطلب أن يري بنفسه.

– كيف عرفت هذا السر الدفين؟

ابتسم في خبث وقال: نقف هنا معكم ولنا هناك عيون وسند

-أين؟

– في أرفع مكان يصل إليه خيالك.

تذكر حسن ذهاب رفاق الشيخ ومجيئهم في مساومات فاشلة مع السلطة ، بينما كانت الأرواح تزهق في شوارع مزدحمة بصدور مشرعه للموت، لا ترضي عن إزاحة الطاغية بديلاً هز رأسه بغيظ وسأله: أتدبرون أمراً من خلف ظهور الناس.

-أي ناس؟

-هؤلاء الذين خرجوا قبلكم وآمنوا دوماً بما كنتم تحسبونه من المستحيل.

-هؤلاء جنود سخرها الله لنا، جنود سائبة هائمة على وجوهها تدوس أرضاً ملغومة يتقدمون الآن إلى حيث يستحقون.

-يستحقون ماذا؟

-الحكم طبعاً.. وهل هناك غيره (ص149)، لتبدو علانية مؤامرة استعدادهم لسرقة الثورة وركوبها.

خالد السبع الشخصية الإيجابية وأحد ثوار الميدان تحل كآبة على وجهه لم يلحظها أحد وسط لغط ارتفع وانتهى السكون على ميدان الشعرية وقف يطيل النظر في الورقة المبللة تأكله الأطراف المرتوية بعرق القتيل حين كان جلده يفرز عرقاً، وبقع من دمائه، وماتت هي الأخرى فوق تراب الشارع، وصارت وحلاً، لم يجد خالد بالورقة سوى بضع كلمات الأولى هي – الزنباع- وسأل نفسه: هذا اسم غريب لشخص؟ أم اسم كائن غير معروف، أم شعار؟ أم كلمة سر؟ لم يدر ولم تفارقه حيرته، ويزل عن عجزه ما اتضح أمامه عنوان.

يقول: السمطا/ قنا، ثم رقم هاتف ناقص، يبدو أن القتلة لم يمهلوا حسن حتى يكمله وما كان عليه سوى أن يجرب حتى توصل إلى من أجابه، فسأله: ممكن أكلم الأخ زنباع؟

-زنباع سافر. يومان ويرجع (ص15)

لم يهتم خالد السبع بالسياسة يوماً في حياته، كلما رأى مظاهرة ابتعد عنها أنهي خدمته العسكرية وتم تعينه محاسباً ببنك “القارة” كان يرى الكون كله حزمة من الأرقام المنتظمة في هندسة بديعة (ص53) – لم يؤمن بالخلاص الجماعي أبداً حتى شاهد في اليوم الثاني للثورة بغالاً وخيولاً وجمالاً وعليها رجال وصبية يحملون سيوفاً وسنجقاً وعصياً وجنازير، هب إلى دولابه والتقط ما وجد أمامه من ملابس، استل سنجقه وانطلق إلى الميدان وأصبح من أصدقاء حسن.

كلمات أخذته نحو خطوة أخرى في سبيل تلبية هذه الرغبة المحمومة التي تدفعه ليهتك سر مقتل حسن، الرسالة كانت من حسن إلى أكمل: يجب أن تضع يدك في يدي يا صديقي لتفضح كل الثعالب(ص80) لم ينس خالد السبع التي انسكبت في أذنه فهزته لم يكن يعرفها، لم يرها أبداً لكنه راح يرسم ملامحها على مهل لتتجسد صورة صفاء عليوة في رأسه قال في نفسه: من يسْعّ إلى بلوغ مرتبة الإنسان لأسمى، لا يجب أن يعرف التردد إلى روحه سبيلاً (ص215)، لا يعرف لماذا يريد هذه الفتاة بالذات؟ ما الذي أعجبها في حسن وما الذي أعجبه فيها (ص216)

وقال لنفسه: امرأة نحبها قد تكون الوطن، صفاء عليوة، الثورية الحالمة فيها ومعها، يمكن أن تلتقي الطريق بالطريق، ويعانق الحلم الحلم، ولعل هذا يسعد حسن في تربته، من المؤكد أنه يريد لها السعادة فهو لم يكن أنانياً في يوم من الأيام، ومن هذا الذي يسعدها أكثر من صديق الميدان المخلص الوفي (ص219).

المقدم سيف عبد الجبار الذي لم ينس المشهد الرهيب الذي رآه على كوبري قصر النيل يوم جمعة الغضب، لكن أكثر ما كان يقض مضجعه هو هذه الصرخة الحادة التي كانت آخر ما أطلقته حنجرة شاب نحيل كان يواجهه مبتسماً وهو يرفع ذراعيه وفي يده زجاجة خل صغيرة اصطحبها معه لتقيه من آثار قنابل الغاز.

نحن في المكان الخاطئ، الشرطة دورها حماية الناس وليس الدفاع عن عرش ينخر فيه السوس، ويطمره العفن ورجل لا هم له سوى أن يضع ابنه فوق الرؤوس ويدخل في حوار مع زميله سيف الذي يقول له:

-أنسيت أننا نعمل في سلاح الأمن المركزي، وطالما شاركتني في التصدي لمظاهرات واحتجاجات وشغب.

-ما يجري الآن ليس شغباً أتسمع هتاف: سلمية.. سلمية

-هذه خدعة.

-أنت مخطئ يا سيف وتقديراتك نابعة من غرورك، ثم إنّ الأمن الحقيقي يخلفه العدل وليس البطش (ص61)

ولم يعد يهمني. لقد فعلت طيلة هذه السنين ما لم أكن راضياً عنه  وهذه المرة أشعر أن بوسعي أن أتخذ القرار الذي طالما ترددت فيه يمكنني أن أكفر عن كل أخطائي وأنا أشعر أنني مع الناس ولو لمرة واحدة (ص62) وبالمقابل فإنّ أم حسن تعرف جيداً أن الذي قتل ابنها هو المقدم سيف عبد الجبار، قال لها من حملوه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، أنه أطلق صرخة حادة وإنه واجه الرصاص مبتسماً فاتحاً ذراعيه وفي يده زجاجة خل صغيرة وكان ينظر إلى قاتله باستهانة مما يتوافق مع اعتراف المقدم نفسه والذي كان دافعه الرئيسي في انحيازه إلى الشعب.

 إضافة إلى هذه الشخصيات الرئيسية ضمت الرواية كماً آخر من الشخصيات التي دفعها المؤلف إلى سياقات القص ضاقت مساحتها السردية أو اتسعت تبعاً للوظيفة التي أعدّها المؤلف لها ومن تلك الشخصيات (المخبر شعبان النمر ص7 – حامد عبد الظاهر ص7 – حنفي سليم ص25 – الشيخ حارس البنهاوي ص25 – شاهر نور الدين ص29- شريف ذهني ص33- كريمة اسماعيل43-يسري62- الزنباع71- أكمل75- 220- اسحق عبد الملاك95 – محجوب122- الشيخ عبد الرحيم القوصي133- 157-319 – الصول عبد الستار وابنه أحمد 134- الشيخ عبد الحق الهامي 162- دلال مشرقي 167 ، 423 – المعلم شحتوت 168 – حسام عبد المغيث 173 محمد البرادعي 180- عم فاروق 182- المهندس إبراهيم الشرنوبي190- إبراهيم فخري193- أحمد حسن هاشم 194-حنا تادرس صومائيل 194 – سامر خفاجي 208- 417 – مازن عبد الرحيم: 210-336 – القس جبرائيل مكاريوس 223- الحاج عبد الحميد 234 – الضابط أحمد 239 – الست عواطف أم حسن الشهيد 243 – جمال العزم257 – سعد الزايط 290 – حنان المنشاوي 305- خليفة الإسناوي 313 – العقيد سليم العناني 316 – هاشم الغامدي320- دلال مشرقي 320- بيتر جيدنز 327- محروس 330- مازن 341- الست سكينة 347- مخيمر 347-مجاهد351- حامد عبد الظاهر356- دارية 363- هدى السويسي 364- شادي 372 – عمران عبد الصبور 382 – الضابط أحمد عبد الستار 385- محمد أبو العطا 386- المستشار عادل عبد الحكيم 389- الأسطى مندور 400- الحاج سليم 402 – الدكتور عبد البصير مرتضي 408 ، 412 – عزت 439 – سعد 443 – ممدوح البرماوي 239، 579 – فؤاد بهيج 446 – دكتور مصطفى حيدر 461 – عبد الدايم وفايز حافظ وإبراهيم يوسف 470، جمال أبو العزم 471- سميرة 474 – عيسي الرويشد 495 – سالم الهرش 495 – رشدي الزفتاوي 530 – حجاج أبو متولي 540- د.عصام عبد القادر 550- بسطاوي بك 578- زين الأبجي586- عبد السميع595 – د/ ياسر 596 – أبو اسحق 597 – المهندس يونس أبو الفضل 603 – أحمد حسن قاسم وحنا تادروس صموئيل- إبراهيم الشربينى 637.

أمام هذا الكم من الشخصيات الرئيسية والثانوية والمحكى عنها يتساءل القارئ أتتحمل الرواية هذا الكم وهل من الممكن أن تنهض بوظائفها دون أن تخل بنسيج الرواية مع أن الأمكنة محدودة، وزمن الرواية ليس بالطول الذي من الممكن أن يسمح بكل هذه الأشخاص إلا أن نظرة تأملية لكل من:

1-مليونيات الثورة التي كان لكل فرد فيها دور سواء رسمه هو لنفسه أم أن هناك من رسمه له.

2-مساحة الصراع بين الثوار مع كل من القوى الأمنية والمدافعين عن النظام وقوة البلطجية ثم موقف الإخوان من الثورة في بدايتها وموقفهم عند انتصارها وكيف سرقوها من الشعب.

3-اغتيال حسن في بداية الرواية وما ترتب على ذلك من مرجعية تذكرية جمعته مع صفاء وكل أصدقائه العناصر السابقة يضاف إليها قدرات المبدع على الحكي ومصاحبة الأحداث أدت إلى تلك الفضفضة السردية التي وصلت إلى 662 صفحة ومثل هذه المساحة ومثل هذه الثورة من البدهي أن تضم هذا الكم من الشخصيات التي برع المبدع في دفعها إلى نصية الرواية وهو ممسك بكل خيوط شخصياته بهذا الشكل الفني الذي امتاز به الروائي المبدع عمار علي حسن.

 البنية المكانية

لابد من الإشارة أولاً إلى أن المكان المحدد يعتبر جزءاً من الفضاء السردي، فأي تكون أبعاد المكان- بيتاً، حياً، ميداناً- فإنه يتخذ مظهراً دقيقاً للغاية من قبيل ما أورده المبدع في روايته التي جمع أحداثها في مكان محدد واضح وهو ميدان التحرير الذي كان عصب القص وعمود الحكاية بدأ في تعريفه على لسان الراوي فقال: “راح ميدان التحرير ينحسر في عيون الناس حتى صار بقعة للأسي بعد أن ظل شهوراً طويلة قبلة للحرية، هكذا جرى له بعد أن اختطفه أصحاب اللحى وهتفوا فيه: عاش السلطان وطالبوا بالبيعة له، وهكذا أراد له جنرالات ساذجون” (ص17)

ولكن على الرغم من اختطافه وسرقة ثورته ودماء شهدائه فإنه بقي ساحة الحرية، وتبقى معالمه الأثيرة المستقرة في الأذهان وبعد أن يصف معالمه مسجد عمر مكرم- مبني وزارة الخارجية – جامعة الدول العربية- الجامعة الأميركية و “يوجد مجمع التحرير الذي أهداه ضباط يوليو لمصر ليصير رمزاً لبيروقراطيتها الضاربة في أعماق الدنيا” (ص17) وفي هذه المساحة كانت مصر تأتي بين حين وآخر لتعبر عن غضبها، انتفاضات متتالية من 1935 – 1946 – 1977 واعتصامات طالبت بالحرب من أجل استعادة سيناء السليبة المساحة المكانية كانت المخاض الكبير لناسه وثوراه ومنظمين الحياة فيه لجان عدة كوّنها الثوار لأمن الميدان وسلامته ومتابعة أحداثه وفي إشارة فنية يجعل الكاتب الميدان إنساناً يبتسم وحصناً يتسع الجميع  “في اليوم التالي لجمعة الغضب ظهر ميدان التحرير يبتسم يظهر الشيخ رافعاً يده اليمني ويمد إصبعيه الوسطي واليمني راسماً علامة النصر وكان حسن يقول لمن يسأله من الشباب متخوفاً لما يجري الميدان يتسع للجميع” (ص90) ولذلك كان مركز انطلاق الاحتجاجات والاعتصامات ومروى حكايات المضطهدين والمعتقلين  “اعتاد في الزنازيْن الباردة أن يحكي لشباب محبوسين كل شيء، عن أولئك الذين خرجوا في ميعة الصبا يطلبون الحرية، وساقتهم أقدامهم إلى ميدان التحرير، التفوا حول الكتلة الحجرية وصرخوا مطالبين باستعادة الأرض التي احتلتها اسرائيل.(ص257)

لقد تحوّل الميدان إلى أكثر من رمز على انتصار ثورة الشباب فهو عالم يضم بين جنباته الثائرين على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم الاجتماعية والمهنية وتنوّع معتقداتهم، كان المسلم بيد القبطي يداً واحدة وروحاً واحدة وإرادة لا راد لها حتى عندما سرق الإخوان ثورتهم لم يمهلوهم وعادوا إلى حضن الميدان يلتحفون دفأه الثوري يتنسمون عبير دم الشهداء حتى كان لهم ما أرادوا وأعادوا الثورة إلى دربها الصحيح ومنهجها القديم ولا عجب بعد ذلك إن تكرر اسم الميدان في متن الرواية 194 مرة بمختلف الدلالات بينما تكرر ذكر ميدان عبد المنعم رياض مرتين ص 73: 103

وميدان العباسية تكرر مرتين أيضاً 433-234 كما كان ثمة إشارة لمرة واحدة لكل من ميدان العباسية 399 وميدان الشعرية 350 وميدان النافورة 660

لقد لعب المكان المحدد بميدان التحرير دوراً مهماً في نضوج الوعي الإنساني إلى الدرجة التي يمكن القول معها: إن ميدان التحرير كان من أهم العوامل المشكلة لوعي الشباب وتعزيز دورهم الإيجابي في التحرك ضد نظام فاسد ومفسد ولذلك وجدنا علاقة الميدان بناسه علاقة تأثير متبادل بحيث كان الناس يمارسون فاعليتهم في المكان، بل ويغير من طبائعهم في كثير من الأحيان ولذلك اتخذ المكان بملامحه المادية وشكل أبنيته طابع الرمز المثير إلى هوية حضارية ثورية سلمية ذات فاعلية خاصة في مكان أشار بكل صدق وجدية أنه  “لا يوجد ما هو أقوي من ناس هذا البلد، ويكفينا أن الذين سرقوا ثورتنا يقفون الآن عرايا على خشبة المسرح، ويرفعون أيديهم بلا جدوى، حتى يبعدوا الأحجار والبصقات التي تنهال على رؤوسهم، هناك في عقر دارهم وداخل القصر الذي يختبئ فيه رجلهم الذي رفعوه على أكتافنا في غفلة منا” (ص656) لذلك فإنه إن  “تسقط ورقة من شجرة الثورة تنمو أوراق يسقط شهيد تحتها فيصير كتيبة من المناضلين، تنكسر موجة فتتدفق موجات، يسقط حلم عابر فتنبت آمال مجنحة، يختطف المستبدون ميداناً فتولد ميادين يقتلون حسن عبد النافع، فيولد ألف حسن جديد. (ص662)

كما لابد من الإشارة إلى ذلك الفضاء اللغوي الذي أبدع المؤلف في صياغاته، حيث احتلت لغة الرواية السردية بمستوياتها المتنوعة من – حكي وقص وحوار ووصف وتوصيف ورسم وترسيم – مكانة لافتة في سياقات الرواية وهي تشتغل على تكاملية البناء السردي ودورته التي بدأت من اغتيال حسن وميدان التحرير وانتهت بهما أيضاً وعلى وجه التحديد فكل ما في الرصد والترسيم والتعميم كان مرتبطاً بفصاحة اللغة وفنية التوظيف لغايات إخبارية وثقافية وعلمية وإنسانية أحسنت اللغة في اشتقاقها لهذه القيم اللغوية والفنية ليكتمل من ذلك كله ايقاعات سيمفونية السرد الثوري.. الواثق والموثق الذي أبدع في النهاية صياغة صناعة ثورة الرواية التي طرحت نبوءة على وشك التحقق وهي تستشرف آفاق عالم جديد يلوح في الأفق القريب والقريب جداً.

 

 

مقالات من نفس القسم