كان هناك اتفاق أو لنقل شبه اتفاق مبدئي بيني والوالد، آخذ بموجبه خمسة دراهم عن كل تذكار أقنع السائح بشرائه. دراهم أبي رغم هزالتها فتحت لي العين على ملذات الحياة، فصرت لا أميز بين حلالها وحرامها .
أبي كان يحاول ـ من حين لآخر ـ أن يخدعني عند تصفية الحساب، ظنا منه أني لا أتقن حساب ما فوق الرقمين، أمثل دور الساذج باتقان فينهار ويسقط بسهولة في شباكي.
معمل أبي الصغير، مشيد ـ بشكل كاريكاتوري ـ هندسة لا مثيل لها، مقارنة بكل أنواع التصاميم في العالم، إنه أشبه بفطر بري ظهر ذات صباح في هذا الحي الشعبي الموغل في القدم. أمصفح القريب من الولي الصالح سيدي عبد العزيز التباع.
حاولت معرفة أصل التسمية، لكن دون جدوى، لا وجود في هذا الكهف الصغير لأي شيء يحفظ كرامتنا.
كبرت في هذا الفضاء، وكبر طيشي ومعرفتي بأمور كثيرة، وبدت لي مراكش الساحرة الفاتنة كعاهرة تفتح أبوابها لكل العابرين و الضائعين.
جنسيات كثيرة مرت من هنا، وكان أبي سيد زمانه في صنع هذه الهدايا، من بقايا الخيوط المهملة، حيث كان يمسك ما فضل من السدى ولخبال، ويجتهد في جمعها وربط بعضها ببعض، وتشبيكها لتشكيل لوحة إبداعية رائعة، ويفتخر كثيرا لكون هذه التذكارات مسجلة باسمه.
الأجانب يقدرون العمل اليدوي، ويهتمون بهذه التحف، والتي يتم صنعها أمام أعينهم، يلتقطون صورا للمنتج، وهو قيد التصنيع ثم تكتمل فرحتهم عندما يصبح بين أيديهم.
أذكر ذات صيف، حلت عندنا أسرة فرنسية، المرأة الحامل وزوجها وابنتهما، اقتنوا مجموعة مهمة من الهدايا، كان المكسب كبيرا، أخذنا صورا تذكارية بجانبهم، وحتى يعبر أبي عن فرحته وسعادته، فقد أعد لهم شايا على الطريقة المغربية. تكلمت معي الفرنسية الحامل، أعجبتها لكنتي، أعجبني شكل بطنها، تلمس يدي من حين لآخر، يدها ناعمة وهادئة، ويدي خشنة وخجولة. كم عشقت وقتها لمس بطنها، إحساس جميل هذا الذي أشعر به كلما فكرت في الأمر.
أتخيل اليد الخجولة ـ يدي ـ تلامس البطن الناعم ـ بطن الفرنسية ـ وتحدث تلك الدغدغة الغريبة ، أتخيل حركات الجنين وهو ينفلت من ارتعاشات اليد وإحساسه بأن جسما غريبا يقض مضجعه ويعكر صفو إقامته المؤقتة، فيصير الجنين سمكة، وبطن الأم بحرا، وأنا التائه المشتعل والمنشغل، الباحث عن المحار في أعماق البحار. إحساس أكثر من رائع.
كل الأجناس البشرية تعرفنا عليها في هذا المعمل الصغير، وكل كلمات الترحيب والإطراء واحترام الغير، تعلمناها هنا، لم نكن في حاجة إلى معلم لغات، ولا كتب صفراء تعلمنا كيف نتكلم في خمسة عشر يوما، هي الممارسة فقط و ربما هي الحاجة.
حتى أبي وفي غيابي، يتفوه ببعض التعابير الأجنبية، وبشكل يدعو للضحك، يتكلم اللغة دون معرفة ماهيتها، يبيع منتوجه حتى بالإشارات إن اقتضى الحال، دون الحاجة إلى خدماتي المؤدى عنها سلفا…
يقول أبي ـ والله أعلم ـ أن نبي الله إلياس، كان نساجا ناسكا متوحدا وزاهدا في الدنيا، ذاق لذة اللقاء مع الله، وعاش في كهف أعلى الجبل، يلبس جبة صوفية، كان هو صانعها، وهي معروضة الآن في متحف غربي، في بلاد بعيدة، ولا أصدق هذه الرواية لعدة اعتبارات لاداعي لذكرها الآن، وأكتفي بالقول بأن أبي غالبا ما يجمعنا حوله، ويحكي لنا عن بطولات وملاحم زائفة، أحيانا كثيرة يكون هو بطلها، ونبقى مندهشين لطريقة سرده ونسجه حتى يغالبنا النوم دون معرفة أصل وفصل الحكاية.
فقط يختمها بلازمته المعهودة: ومشات حاجيتي مع الواد الواد وبقينا مع لجواد.